93 عاماً على التأسيس: قوّة “الكلاسيكو السياسيّ” السعوديّ؟ (2/1)

مدة القراءة 7 د


في ذكرى احتفال السعودية بالذكرى الـ93 لتأسيسها رسم وليّ العهد السعودي ملامح كاشفة لرؤيته السعودية الجديدة في حواره المميّز مع شبكة “فوكس نيوز” الأميركية.
يحتاج هذا الحوار إلى التحليل الدقيق والمعمّق لأنّه يكشف أكثر من أيّ حوار آخر الملامح الدقيقة للرجل، والرؤية، ومستقبل هذا البلد المحوري الذي وصفته مجلّة “إيكونوميست” أخيراً بأنّه الدولة التي يعوَّل عليها في استقرار الشرق الأوسط من الآن فصاعداً.
إذاً ماذا في هذا الحوار من ناحية التوقيت، والشكل، والمضمون، والرسائل المباشرة؟
– أوّلاً: توقيت الحوار جاء ليسبق الذكرى الـ93 لتأسيس المملكة الحديث (الدولة السعودية الأولى 1727).
ثانياً: المكان في منطقة “ساندالا” البديعة التي يقام فيها الآن أحدث مشروعات سياحية وترفيهية عالمية.
ثالثاً: الشبكة التي تُجري الحوار هي قناة “فوكس نيوز” التي حظيت لسنوات حتى آخر إحصاء مشاهدة بنسبة المشاهدة العليا للبالغين من سنّ 25 إلى 54 سنة والعليا في وقت الذروة (برايم تايم).
رابعاً: المحاوِر “بريت باير” هو محاور متوازن ومفضّل لدى أصحاب الميول الجمهورية من المؤثّرين البالغين.
خامساً: اللغة الإنكليزية هي اللغة التي استخدمها وليّ العهد السعودي الذي أجرى المقابلة بدون مترجم من العربية إلى الإنكليزية، وهو ما يشير إلى أنّه كان يتوجّه إلى جمهور مستهدَف محدَّد، وهو الجمهور الأميركي هذه المرّة الذي يريد أن يخاطبه ويؤثّر فيه مباشرة.

في ذكرى احتفال السعودية بالذكرى الـ93 لتأسيسها رسم وليّ العهد السعودي ملامح كاشفة لرؤيته السعودية الجديدة في حواره المميّز مع شبكة “فوكس نيوز” الأميركية

عناصر يمكن ملاحظتها
من دون أن أكرّر أهمّ محتويات هذه المقابلة التي وصفها المذيع الأميركي بأنّها أكثر مقابلة أجراها تحتوي على أخبار جديدة ورؤية كاشفة، يمكن ملاحظة العناصر التالية:
1- أحسن الأمير محمد بن سلمان في تقديم نفسه، رؤيته، ورؤية بلاده إلى الرأي العامّ الأميركي الذي عاش لفترة تحت محاولات التشويه السياسي والإعلامي للسياسة السعودية (11 أيلول، حقوق المرأة السعودية، جريمة خاشقجي، سياسات النفط السعودية، موقف الرياض من إسرائيل).
2- بالطبع كانت قناة “فوكس نيوز” تهتمّ في هذه المقابلة بوصفها قناة محافظة جمهورية لها مؤيّدون من اليمين الأميركي الموالي لإسرائيل بأن تعرف رؤية وليّ العهد السعودي تجاه إسرائيل، خاصة أنّ نتانياهو قد خرج لتوّه من مقابلة الرئيس الأميركي مبدياً رغبته في سلام وتطبيع كامل مع السعودية.
كانت حنكة وليّ العهد السعودي في الإجابة واضحة وقويّة من دون أيّ تنازل واستطاع أن يجمع فيها بين القوّة في المبدأ والذكاء في التفاصيل.
قدّم الأمير محمد رؤيته ورؤية بلاده على أنّها تضع السلام شرطاً أساسياً قبل أيّ تطبيع.
أكّد أنّ السلام يقوم على المبادرة العربية للسلام التي قدّمتها الرياض في عهد الملك عبد الله رحمه الله.
حينما سألت عن تحليل عبارة “تحسين أحوال الفلسطينيين” التي حاول البعض التلاعب بمعناها جاء الردّ أنّ “تحسين أحوال الفلسطينيين لا يعني تحسين أحوالهم تحت الاحتلال، لكن في نطاق اتفاق سلام يحقّق مشروع الدولتين الذي يعطي الفلسطينيين دولة مستقلّة كاملة الحقوق ويضع القدس الشرقية داخل هذه الدولة”.
أضيف ما قاله لي مصدر مطّلع: “لا يمكن للسعودية التي يحمل ملكها لقب خادم الحرمين الشريفين أن يتغافل عن أهمّية المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث الحرمين”.

ما هي رغبة الرياض؟
من هنا كانت رسالة وليّ العهد السعودي تعكس فلسفة مضادّة لرؤية نتانياهو الذي يريد التطبيع قبل السلام ليداوي مشاكله الخاصة القانونية وهشاشة وضعه الداخلي وصعوبة الائتلاف الحاكم الحالي.

باختصار السعودية لن تقدّم التطبيع جائزة مجّانية لأيّ حكومة إسرائيلية بلا ثمن مسبق من السلام والتسوية مع الفلسطينيين.
في ما يختصّ بالرؤية السعودية للوضع الداخلي قدّم وليّ العهد السعودي نفسه بشكل تفصيلي كقائد إصلاحي يقوم بتحديث بلاده “بدون توقّف” أو من دون الاكتفاء بما تمّ إنجازه، لكن أوضح أنّ التحديث يسير بقوّة وباستمرار إلى حين الوصول إلى 2030.
أكّد وليّ العهد أنّ إنجاز المستهدف سبق المواعيد التي حُدّدت له، وأنّ فريق عمله يجهّز الآن رؤية 2040.
بدى الأمير محمد ملمّاً بدقّة بتفاصيل اقتصاد بلاده من ناحية الفهم، والأرقام، والإحصاءات وأساليب الإدارة والتطوير.
في هذا الحوار أكّد أهمّية العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، لكن من دون أن يتنازل عن الحقّ السيادي لبلاده في إقامة علاقات قويّة واستراتيجية مع الصين وروسيا، ولفت إلى أهميّة دور بلاده في تلبية احتياجات السوق النفطية بمسؤولية، لكن بما يخدم مصالح بلاده، مشدّداً على أنّ قرار الإنتاج هو قرار محض تقني لا تدخُّل فيه لأيّ هوى سياسي.
من هنا نفهم رغبة الرياض بأن تكون الآتي:
1- محرّكاً فاعلاً، صانعاً للأحداث، لا طرفاً يتحرّك عند ردّ الفعل فقط.
2- اعتماد فلسفة أنّ سياسات وتحرّكات الرياض تقوم على المصالح العليا المباشرة، لا على الخواطر العاطفية الواهية.
3- إنّ علاقات الرياض بالعالم كلّه لا رقيب ولا حسيب عليها إلا مصالحها الوطنية، ولذلك تحافظ على العلاقات مع الأضداد ولا تدفع فاتورة خلافات إقليمية أو صراعات دولية للغير، فتتعامل مع الإيراني والروسي والصيني على الرغم من اعتبار واشنطن أنّ هؤلاء أعداء لها.
بنفس المنطق تفتح جسور حوار مع السوري وتعرض وساطة وتقيم أكبر مؤتمر دولي للصراع الروسي الأوكراني.
بنفس المنطق تتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية في حوار سوداني – سوداني لإيقاف إطلاق النار.
4- لا يوجد لدى الرياض أيّ عقد سياسية من المشاركة في أيّ تحالف أو هيئة دولية تخدم مصالحها الاقتصادية وحركتها التجارية ومستهدفات 2030. لذلك لم يكن غريباً الاتفاقات الكبرى مع الصين والولايات المتحدة و”أوبك بلاس” والانضمام إلى بريكس واتفاق الممرّ الاقتصادي الجديد.
يقولون في الرياض إنّ السياسة المتّبعة والمستمرّة هي عدم تضييع أيّ فرصة للتقدّم وتحقيق المكاسب في أيّ مكان في العالم، بل إنّ فكر التخطيط الاستراتيجي الحالي يعتمد مبدأ التحرّك من عدم تضييع الفرص بل صناعة الفرص والمبادرة في طرحها وصناعتها وإنجاحها بشكل جديد ومبدع.
في هذا المجال يعتمد وليّ العهد السعودي على تعميق فكرة “جودة الحياة” لمواطنيه بدلاً من الرضى بمبدأ “توفير أساسيات الحياة” فقط، على أساس رؤيته أنّ “شعبنا لا ينقصه أيّ شيء للحصول على أفضل الرعاية والخدمات والمستويات الفضلى في جودة الحياة”.

إقرأ أيضاً: الدولة السعوديّة من التأسيس إلى التجديد

لا يعتمد هذا الفكر على أكبر قائمة من المشروعات والمبادرات، لكن يعتمد أيضاً على تعميق القوى الناعمة وتدعيمها، ولذلك جاء أسلوب التغيير والتحديث عبر الانفتاح بالترفيه والفنون.
أصبحت السعودية قبلة رياضية لمسابقات سيارات السباق، والملاكمة، والمصارعة، لكنّ آخر ما حدث وأقواه الآن هو أنّها أصبحت محلّ اهتمام العالم في لعبة كرة القدم.
أصبح الكلاسيكو السعودي محلّ متابعة ومشاهدة في العالم، وطلبت حتى الآن 154 قناة عالمية حقوق البثّ المباشر له، ويتوقّع أن يصبح هذا الكلاسيكو الكرويّ خامس أكبر كلاسيكو في العالم.
هكذا تنجح أفكار محمد بن سلمان في الكلاسيكو الكروي، وأيضاً وقبل ذلك في أيّ كلاسيكو سياسي ينافس فيه.
هنا يبرز السؤال: ماذا يريد الرجل؟
ما هي حدود أحلامه؟ والسؤال الأهمّ: علام يعتمد في هذه الأحلام التي لا سقف لها؟
باختصار من أين تأتي قوّة هذا المشروع؟
في الحلقة المقبلة بإذن الله الإجابة.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Adeeb_Emad@

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…