انطلقت يوم الأحد 17 أيلول أعمال “اللقاءات المتوسطيّة 2023” في مدينة مرسيليا الفرنسيّة وتمتدّ لأسبوع. تتخلّلها لقاءات حواريّة ثقافيّة ودينيّة، إضافة إلى مهرجانات رياضيّة وفنيّة وسياحيّة وغيرها. يشارك فيها أكثر من 70 أسقفاً (من الكاثوليك وغير الكاثوليك) و70 شابّاً من 30 دولة. وللمناسبة يزور البابا فرنسيس مدينة مرسيليا يومَي الجمعة والسبت في 22 و23 أيلول. ويختتم زيارته بقدّاس في ملعب المدينة الدوليّ (Orange Vélodrome)، من المتوقّع أن يشارك فيه حوالي 60 ألفاً من فرنسا وخارجها.
مبادرة “اللقاءات المتوسطيّة”
أطلقت الكنيسة الكاثوليكية مبادرة “اللقاءات المتوسطيّة” في مواجهة الصراعات والحروب الجيوسياسيّة والدينيّة والطائفيّة والقوميّة والإثنيّة… في البحر الأبيض (كما سمّوه العثمانيون) المتوسّط (بحسب تسمية الألمان)، صراعات شعوب ودول المتوسط ومن خلفها قوى عالميّة.
بدأت المبادرة في عام 2020. عُقد اللقاء الأول في مدينة باري الإيطالية. وهي مدينة مطلّة على بحر الأدرياتيك وعلى دول البلقان المتنوّعة بإثنياتها وقومياتها ولغاتها وأديانها وطوائفها، والتي شهدت حروباً طاحنة في بدايات تسعينيات القرن الماضي إثر سقوط الاتحاد السوفيتيّ. وكان اللقاء الثاني في 2022 في مدينة فلورنسا الإيطالية أيضاً. وها هو اللقاء الثالث يُعقد في مدينة مرسيليا الفرنسيّة بعنوان “موزاييك الرجاء”.
بدأت المبادرة في عام 2020. عُقد اللقاء الأول في مدينة باري الإيطالية. وهي مدينة مطلّة على بحر الأدرياتيك وعلى دول البلقان المتنوّعة بإثنياتها وقومياتها ولغاتها وأديانها وطوائفها، والتي شهدت حروباً طاحنة في بدايات تسعينيات القرن الماضي
لماذا مرسيليا؟
عدّة أسباب وراء اختيار مدينة مرسيليا للّقاءات المتوسطيّة، أبرزها:
– تنوّع المدينة إثنياً ودينياً وطائفياً وعرقيّاً وقوميّاً. فإضافة إلى أبناء البشرة السوداء، تضمّ مرسيليا جالية عربيّة هي الكبرى في مدينة واحدة في أوروبا. يشكّل عدد أبنائها حوالي نصف سكان المدينة تقريباً. غالبيّتهم مسلمون من دول المغرب العربيّ (الجزائر وتونس والمغرب). هاجروا إلى المدينة منذ القرن التاسع عشر. بعضهم جاءت بهم فرنسا كيد عاملة من مستعمراتها السابقة. وبعضهم الآخر هاجر إليها إمّا لمقاومتها (الجزائريون) أو هرباً من الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة في بلادهم. اللبنانيون أيضاً هاجروا إلى مرسيليا منذ قرون. ولهم فيها “المركز الفرنسي – اللبنانيّ” التابع للبطريركيّة المارونيّة، الذي يضمّ رعيّة مارونيّة ومركزاً لسكن الطلاب الجامعيين. ومنذ الانهيار يزداد عدد اللبنانيين في المدينة.
– الفروقات الاجتماعيّة الكبيرة في المدينة. وهي قضيّة تعهّد البابا فرنسيس النضال للتخفيف منها منذ انتخابه في 2013.
– تاريخ المدينة العريق في الانفتاح على العالم وفي استقبال المهاجرين.
– مبادرة رئيس أساقفتها الكاردينال جان ماري أفولين لتنظيم هذه اللقاءات وعلاقة الصداقة التي تربطه بالبابا فرنسيس.
البابا: أهمّيّة كبيرة للبحر المتوسّط
في حديثه إلى موقع “فاتيكان نيوز” عن “اللقاءات المتوسطيّة” قال رئيس أساقفة مرسيليا الكاردينال أفولين إنّ زيارة البابا للمدينة هي محطّة في مسيرة الحجّ على ضفاف البحر الأبيض المتوسط. وتوافق الذكرى العاشرة لأوّل رحلة له خارج روما، قصد فيها جزيرة لامبيدوزا الإيطالية في وسط المتوسّط (بين إيطاليا وتونس). وقد زار البابا حتى اليوم العديد من دول ومدن المتوسط (القاهرة، الرباط، سراييفو، نابولي، مالطة…). ويولي أهميّة بالغة للبحر المتوسط لعدّة أسباب أبرزها:
– تحوّل البحر المتوسط في السنوات الأخيرة إلى “بحر الموت” للمهاجرين من إفريقيا والشرق الأوسط نحو أوروبا. بحسب “المنظمة العالميّة للهجرة” قضى حوالي 26 ألف مهاجر في البحر المتوسط منذ عام 2014 حتى اليوم. بينهم سوريون هاربون من حجيم براميل بشار الأسد المتفجّرة، ولبنانيون هاربون من “جهنّم” ميشال عون والحزب والطبقة السياسيّة الحاكمة منذ عقود. وتشكّل قضيّة المهاجرين قضيّة مركزية في حبريّة البابا فرنسيس. وقد خصّص لها رسالة أصدرها في أيلول 2021 لمناسبة “اليوم العالمي للمهاجر واللاجئ”. وللمفارقة، تتصدّر “أزمة لامبيدوزا” (التي قصدها البابا فرنسيس في أوّل زيارة له خارج روما في 2013)، أخبار الصحف في دول الاتحاد الأوروبي منذ أيام. والسبب وصول أكثر من 12 ألف مهاجر خلال أسبوع. مصيرهم مجهول حتى الساعة. إيطاليا تعلن عجزها عن استقبالهم. ودول الاتحاد الأوروبي تبدّل في سياسات استقبال المهاجرين، وفي مقدَّمها فرنسا. فالرئيس ماكرون يسعى منذ أكثر من سنة إلى إقرار قوانين جديدة في “الجمعية الوطنيّة” للحدّ من الهجرة على قاعدة “نقبل من نريد ونرفض من نريد”، حسب قول رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيت بورن.
ربّما لن تبدّل لقاءات حواريّة شيئاً في المشاهد السوداويّة المُهَيمنة على البحر الأبيض المتوسط. ولكنّها تضيء شمعة في ظلمة المشهد المتوسطيّ
– يقع البحر المتوسط في وسط الصراعات والحروب. فهو في وسط الصراعات بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والمسيحيّة. وتشهد ضفّته الشرقيّة منذ عقود حرباً بين اليهود والفلسطينيين (المسلمين والمسيحيين على اختلاف طوائفهم)، إضافة إلى الحرب المستعِرة في ليبيا المنقسمة منذ سنوات، وتوتّر العلاقات المتنامي بين الدول المستعمِرة والدول المستعمَرة سابقاً. وقديماً شهد البحر المتوسط أشدّ الحروب ضراوة بين الإمبراطوريات، وأبرزها الحربان العالميّتان.
– يجول في البحر المتوسط اليوم العديد من الأساطيل العسكريّة ويرسو على شواطئه الكثير من البوارج العسكريّة وحاملات الطائرات. إضافة إلى بوارج الدول المتوسطّية، يتمركز فيه الأسطول السادس الأميركيّ، وبوارج عسكريّة روسيّة، وأخرى بريطانيّة… كلّ هذا يهدّد باندلاع الحروب في المتوسط في أيّ لحظة.
إقرأ أيضاً: لقاء البابا مع الشبيبة العالميّة: غاب لبنان
– إنّه البحر الذي نشأت على ضفافه حضارات قديمة طبعت البشريّة. أبرزها الحضارة الفينيقيّة التي نشرها الفينيقيون على مختلف ضفاف المتوسط. الحضارة اليونانيّة التي أعطت الفلسفة للعالم. الحضارة الرومانيّة التي ما تزال آثارها صامدة في العديد من دول المتوسط. الحضارة الإسلاميّة التي بلغت مدينة بواتييه الفرنسيّة عبر إسبانيا… وهي مسألة حضارية تاريخيّة تعيرها الكنيسة الكاثوليكيّة أهميّة.
ربّما لن تبدّل لقاءات حواريّة شيئاً في المشاهد السوداويّة المُهَيمنة على البحر الأبيض المتوسط. ولكنّها تضيء شمعة في ظلمة المشهد المتوسطيّ. ومن المتوقّع أن يطلق البابا فرنسيس من مرسيليا صرخة إنسانيّة محورها قضيّة المهاجرين الذين يقضون غرقاً في البحر المتوسط. وسيأتي الرئيس إيمانويل ماكرون للقائه في المدينة وللمشاركة في القدّاس الذي سيحتفل به. فالزيارة هي للمدينة المتوسطيّة لا للدولة الفرنسيّة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@