“العُلا”.. استدعاء للتاريخ  في “السعوديّة الجديدة”

مدة القراءة 7 د


روى لي صديق سعودي متخصّص في شؤون السياسة الداخلية والدولية للسعودية سرداً تبسيطياً للتحوّلات التاريخية التي طرأت على “نسخات” الهويّة في البلاد. تحدّث عن “قبّعات” ثلاث حملتها البلاد منذ نشأتها من الدولة الأولى إلى يومنا هذا.
– الأولى هي تلك التي ارتبطت بالعروبة. ذلك أنّ تاريخ البلد ومجتمعه وقبائله هم في قلب الحضارة العربية ومحرّك لها. 
– الثانية هي تلك الإسلامية التي التصقت المملكة بها هويّةً وسلوكاً وريادةً وقيادة. 
في الحالتين، الأولى والثانية، اختلط الثقافي بالسياسي والاجتماعي، فكان أن صارت العروبة في بعض المراحل ديدن النظم الثورية التي خرجت بعد موجة الاستقلالات في المنطقة، فجاءت بنسخات كادت تكون مشوّهة مختلفة عن مفهوم المملكة للعروبة، وكان أيضاً أن التهمت المدارس الفقهية، لا سيّما تلك التي هيمنت في مرحلة “الصحوة”، الدين ذي المفهوم المعتدل السمح المنفتح الذي عرفه المؤسّسون الأوائل للمملكة.
– الثالثة هي تلك التي تعيشها السعودية هذه الأيام، من حيث إنّها إعادة اعتراف بالذات السعودية قبل كلّ شيء، بما هي عربية مسلمة تنتمي إلى عالم اليوم بأبعاده الإنسانية جميعها. 

البداية من “الدرعية”
يهتمّ أهل البلد، لا سيّما في العاصمة، بتوجيهك إلى زيارة “الدرعية”، ومرافقتك وإغراقك بكمّ من الشروح عن تاريخ المدينة التي باتت بعد تمدّد الرياض جزءاً من العاصمة. والدرعية التي أسّسها عام 1446 مانع المريدي، وهو من أجداد أسرة آل سعود، هي منشأ الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود عام 1727. تستعيد المدينة وجهها التاريخي هذه الأيام، فتتحرّر من غياهب أهملتها ولم تجعلها الواجهة التي وجب أن تكون. هي مساحة من تاريخ تخرج منها أحياء زمن التأسيس الأول وقصوره وقلاعه.

استضافت المنطقة بين 13 و15 أيلول الحالي قمّة العُلا العالمية للآثار بحضور أكثر من 300 مشارك من مختلف دول العالم. حمل 80 خبيراً في علوم الآثار من جهات العالم الأربع في ملفّاتهم همّاً مشتركاً للمشتغلين في عالم الأركيولوجيا وما تخفيه بطون الكوكب

الوطنيّة السعوديّة
بعد أيام تحتفل البلاد باليوم الوطني السعودي، لكنّها في 22 شباط الماضي احتفلت بـ “يوم التأسيس”. لم تعد الدولة الحالية هي “الثالثة”، بل هي حقيقة تاريخية مستمرّة منذ “التأسيس” في الدرعية وقيام الدولة الأولى. وحين تستغرب التغافل عن الدرعية وعدم إبراز فرادتها وتميّزها خلال العقود الغابرة، يأتيك الجواب ويحيلك إلى “الهويّة” في مراحل سابقة حين كان مطلوباً إدارة الظهر للمدن والوجهات وتمحور البلد حول الرحاب المقدّسة. 
تحوّلت السعودية. وأصبحت عاصمة المملكة كما جهاتها الأربع مخصّبة بمضامين تكاد تكون مقدّسة في النصّ السعودي الحديث.
إذا ما عدنا إلى حديث “القبّعات”، فإنّ المملكة تحمل اليوم تلك الوطنية السعودية بامتياز. هي سعودة للهويّة. وفق هذا المعنى تخرج المدن من الظلّ تتحدّث عن نفسها. يصوّب أحد الأكاديميين هذا المفهوم. يقول إنّ الوطنية السعودية تغرف من زادها الهويّاتي المتعدّد، وهي في الوقت عينه ترفض أن تكون هويّة قومية متقوقعة منغلقة. وإذا ما راج مفهوم “السعودة” في العقود الأخيرة وأوحى بتحفّظ وانكفاء، إلا أنّها، في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز ووليّ عهده الأمير محمد، سعودة ممتدّة داخل المملكة لتلاقي الامتدادات العربية والإقليمية والدولية بصفتها “ضرورة وحاجة” متكاملة مع رؤية 2030 وما بعدها.
المسألة ليست نظريّة. من يزور السعودية يسهل عليه استنتاج الطابع “الكوزموبوليتي” للبلد. ميدان هائل من الاختلاط المتعدّد من الأعراق والأديان والهويّات. لا أحد في السعودية، إلّا ما ندر، يتحدّث عن “الوافدين” كمشكلة أو ظاهرة نافرة. وإذا ما كانت حكاية السعودية ومكانتها راعيةً للحرمين الشريفين جعلت منها جاذباً دائماً لمسلمي العالم، فإنّ “السعودية الجديدة” تقود مشروعاً عابراً للحدود في الدين والسياسة والأمن والاجتماع، وهذه التحوّلات تجعل من “الآخَر”، سواء داخل البلاد أم خارجها، جزءاً ممّا ارتأته الرياض من دور متقدّم داخل المشهد الدولي العامّ. ألم يقُل الأمير محمد إنّ “الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة”؟
تعيد السعودية تعويم نفسها مدناً وقرى وجهات ولهجات. لكنّها تعيد استدعاء قديمها المنتمي إلى زمن ما قبل الهويّات و”قبّعاتها”. تلك هي حكاية “نبش” مواقع العُلا الأثرية في شمال البلاد. 
لم تكن تلك المواقع مدفونة حتى تُنبش، بل ظاهرة شامخة وكأنّها تراقب البلاد من دون أن يراقبها أحد. تدخّل الفقه والدين في الحقبة السابقة لتشويه حكايتها وشيطنة زيارتها. لم تكن تلك الجبال التي جعل فيها الأنباط العرب الأقحاح مدافن لقادتهم ووجهائهم في مسلك يقترب ممّا كان الفراعنة يمارسونه في مصر إلا حكاية جرى إعمال “الحلال والحرام” في جواز المرور بها. ولئن كان ما اكتُشف حتى الآن في السعودية “لا يمثّل إلا القليل القليل من آثار البلاد”، حسب أهل الاختصاص، فذلك مثال عن رادع الفتاوى الدينية في منع “نبش” البلد لتاريخه الغابر.

بعد أيام تحتفل البلاد باليوم الوطني السعودي، لكنّها في 22 شباط الماضي احتفلت بـ “يوم التأسيس”. لم تعد الدولة الحالية هي “الثالثة”، بل هي حقيقة تاريخية مستمرّة منذ “التأسيس” في الدرعية وقيام الدولة الأولى

في منطقة الحِجر في العُلا باتت “مدائن صالح” محجّ السيّاح الوافدين من داخل البلاد ومن أصقاع بعيدة. المرشدون المتخصّصون الذين يرافقون الزائرين يقولون إنّ هذه التسمية حديثة لم يعرفها التاريخ الإسلامي في حقب أموية أو عباسية أو حتى عثمانية، وإنّه لا أدلّة قاطعة على أنّ المدائن التي تحدّثت عنها كتب الإسلام هي نفسها تلك التي تعرفها جبال الحِجر. 
روى لي الأكاديمي المؤرّخ الدكتور سليمان الذيبب، أستاذ الكتابات العربية القديمة وواحد من كبار مستشاري الهيئة الملكية لمحافظة العلا، أنّ الجدل لا ينتهي وأنّ أصحاب العقيدة في سجال مستمرّ مع أصحاب العقل الذين “لا يقرّون إلا بالأدلّة الملموسة القاطعة”. ومع ذلك فإنّ لهذا الجدل أصداء رومانسية جاذبة تمدّ على العُلا ظلالاً من غموض وأسئلة لن تنتهي.

قمّة العُلا للآثار
استضافت المنطقة بين 13 و15 أيلول الحالي قمّة العُلا العالمية للآثار بحضور أكثر من 300 مشارك من مختلف دول العالم. حمل 80 خبيراً في علوم الآثار من جهات العالم الأربع في ملفّاتهم همّاً مشتركاً للمشتغلين في عالم الأركيولوجيا وما تخفيه بطون الكوكب. بدا أنّ العُلا تعيد تأجيج جدل بشأن قراءة الهويّات من خلال قراءة الصخور والجبال وما تتيحه الأرض وتبيح خروجه من دواخلها. تحدّثوا بالعربية ورطنوا بالإنكليزية والفرنسية ولغات أخرى. لكنّ الخبراء بدوا جميعاً مشدوهين محدّقين متأمّلين لجبال العُلا وهضابها وصخورها و”مدائنها” في حالة شبيهة بما انتابهم من اندهاش بالسعودية اليوم. قال من عرفها سابقاً إنّها خرجت من حقبة ملتبسة كما تخرج نقوش العُلا ومدافنها من حقبة “الظلام”.

إقرأ أيضاً: الدبلوماسية السعودية “بيضة قبّان” الخماسيّة

مئات من الشابّات والشبّان عملوا بجهد وحماسة وفخر لإنجاح المؤتمر وإدارته وحسن تنظيمه. جلُّ هؤلاء الشباب من العُلا نفسها التي كادت تكون عاصمة بسب ما توليه المملكة لها من أهمية وما تسلّطه عليها من أضواء. في ذلك المشهد جزءٌ من كلٍّ سعوديّ شهد تحوّلات اجتماعية واقتصادية جبّارة لم تكن متخيّلة حتى لدى السعوديين أنفسهم. جيل الشباب هو من يقود السعودية الجديدة. وإذا ما كان الأمير محمد بمباركة الملك سلمان يرسم حاضر البلد ومستقبله، فإنّه واحد ممّن يرسمون مشهد العالم هذه الأيام. وحين أعلن مع الرئيس الأميركي في 6 أيلول الجاري إنشاء ممرّ الهند إلى أوروبا، كان حدث العُلا يفرش ممرّاً للمملكة من تاريخها الغابر إلى غدها الواعد.
يعترف لي أحد الأصدقاء السعوديين العاملين في قطاع الإعلام أنّه شاهد قبل سنوات فيديو تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي عن الأمير محمد في العُلا. قبل ذلك لم يكن كما كثيرون غيره قد سمع بالعُلا. وفي هذا ما مغزاه أنّ استدعاء التاريخ كان يحتاج إلى قرار، وهذا تماماً ما حصل.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

أسئلة إيرانيّة وجوديّة بعد الضّربة الإسرائيليّة وانتخاب ترامب

خمسة أسئلة حاسمة، فرضتها الضربة الإسرائيلية الأخيرة على إيران، لم تكن مطروحة بهذه الحدّة من قبل. وهي ليست أسئلة تتعلّق بالتكتيكات والمناورات بقدر تعلّقها بجوهر…

إيران خسرت “قاعدتها المتقدّمة”… وباتت “في المواجهة”

مهما قيل ويُقال عن الحزب باعتباره القوّة التي لا تُقهر والتنظيم الذي لا يُخترق أمنيّاً على الرغم ممّا أصابه من أهوال وصلت إلى درجة محو…

أنقرة – موسكو: الشّدّ والجذب السّوريّ؟

صدر عن القيادات السياسية التركية والروسية في الآونة الأخيرة تصريحات متناقضة حول ملفّات ثنائية وإقليمية مشتركة تعني الطرفين، الشقّ السوري فيها كانت له الأولويّة دائماً…

ترامب عن إيران ولبنان: كلام ممنوع من النّشر

قبل 72 ساعة من فتح صناديق الاقتراع في أميركا، مرّ ترامب مرور الكرام في ذلك المطعم في ديربورن، في الضاحية الجنوبية لمدينة ديترويت. وقف موزّعاً…