حملت قمّة مجموعة العشرين في دلهي إيذاناً صريحاً بعودة الشرق الأوسط إلى قلب الصراع الدولي، بعدما بدا لبضع سنين أنّ مركز صناعة السياسات انتقل إلى الشرق الأقصى، وأنّ أهمية منطقة الخليج تراجعت كثيراً في سلّم اهتمامات الإدارة الأميركية.
أتى الإعلان على هامش القمّة عن مشروع الممرّ الاقتصادي والتجاري واللوجستي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، ليظهّر المقاربة الأميركية الجديدة لصراعها مع الصين، بعد عشر سنوات على إطلاق هذه الأخيرة مبادرة “الحزام والطريق”، وضخّها تريليون دولار من الاستثمارات في نحو 150 دولة.
بحسب البيانات المنشورة، تعدّ السعودية واحدة من أكثر الدول تلقّياً لاستثمارات تلك المبادرة الصينية في العامين الماضيين. إذ بلغت الاستثمارات الصينية المباشرة في المملكة 3.5 مليارات دولار في 2021، ونحو 5.5 مليارات دولار في النصف الأول من 2022. ومع انضمام السعودية إلى مشروع الممرّ الاقتصادي الجديد بين الهند وأوروبا، المعروف اختصاراً باسم IMEC، تصبح الرياض في صميم التنافس المحموم على رسم خطوط التجارة وأمن إمدادات الطاقة.
حملت قمّة مجموعة العشرين في دلهي إيذاناً صريحاً بعودة الشرق الأوسط إلى قلب الصراع الدولي، بعدما بدا لبضع سنين أنّ مركز صناعة السياسات انتقل إلى الشرق الأقصى
يتّصل الأمر بطموح غربي إلى ترشيح الهند لدور بديل عن الصين، كمركز للتصنيع المنخفض التكلفة. وذاك طموح للسعودية يمكن أن تستفيد منه، بحكم موقعها الجغرافي وغناها بموارد الطاقة وجاهزية بنيتها التحتية. إذ سيجعلها هذا الممرّ في صلب الخريطة الجديدة لإمدادات الطاقة والصناعة والخدمات في العالم الجديد، وستصبح مصدِّراً أساسياً ليس فقط للنفط، بل للطاقة النظيفة المتمثّلة بالهيدروجين الأخضر (وقود يتمّ إنتاجه من الطاقة المتجدّدة والمياه)، الذي تخطّط السعودية لإنشاء أكبر مصنع له في العالم في مدينة نيوم. وستصبح موانئها وشبكة قطاراتها في صلب حركة التجارة والبضائع.
لا يمكن فصل مشروع IMEC ومغرياته عن اندفاع واشنطن تجاه السعودية، وما تسرّب في الإعلام الأميركي والإسرائيلي خلال الأسابيع الماضية عن مبادراتها لتحريك عملية السلام في المنطقة، بعدما كان هذا الملفّ خارج أولويّات البيت الأبيض.
العرض الأوّل للسعودية
بدأ المسار الجديد بزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للسعودية في تموز 2022، التي تشير صحيفة “وول ستريت جورنال” إلى أنّها كانت المحطة التي قدّمت فيها واشنطن عرضها الأول للسعودية لإحياء عملية السلام مقابل مكاسب أمنيّة واقتصادية ونووية تشكّل تحوّلاً كاملاً في سياسة الديمقراطيين تجاه الرياض. تشمل تلك المغريات منظومات أمنيّة بمستوى غير مسبوق من التسليح، وتزويد السعودية بالتكنولوجيا اللازمة لإنشاء مفاعل نووي مدني، والأهمّ من ذلك الإدراك الأميركي أنّ السعودية، بمركزية موقعها عربياً وإسلامياً، لا يمكنها أن تنخرط في اتفاق سلام من دون تسوية القضية الفلسطينية على أساس مبادرة السلام العربية. وهنا سيكون على الإدارة الأميركية أن تواجه الشرط الأساسي الذي لا يفارق الأدبيّات الدبلوماسية السعودية، وهو إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
يمكن التأكيد الآن بعد التطوّرات والتسريبات الأخيرة أنّ زيارة بايدن لجدّة كانت بالفعل تدشيناً لمسار استراتيجي مختلف تماماً عن الخطوط العامّة التي رسمها في بداية ولايته، وأهمّ ما فيها الانسحاب من ملفّات الشرق الأوسط للتركيز على الصين، والعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران بعدما مزّقه سلفه دونالد ترامب، والتعامل مع السعودية “كدولة منبوذة”.
لكنّ المسار الجديد ليس مضمون النجاح. فحتى الصحف الأميركية تؤكّد أنّ مسار التفاوض مع الرياض ما يزال محفوفاً بالعقبات، وما يزال الموقف الإسرائيلي غير واضح، خصوصاً في ظلّ الخصومة الواضحة بين إدارة بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. إلّا أنّ جوهر الأمر هو أنّ السلوك الأميركي تجاه السعودية هذه الأيام لا يشبه بشيء سياسة الديمقراطيين منذ عهد باراك أوباما.
لا يمكن فصل مشروع IMEC ومغرياته عن اندفاع واشنطن تجاه السعودية، وما تسرّب في الإعلام الأميركي والإسرائيلي خلال الأسابيع الماضية عن مبادراتها لتحريك عملية السلام في المنطقة، بعدما كان هذا الملفّ خارج أولويّات البيت الأبيض
خطأ أوباما في 2013
كان موقف الديمقراطيين، خصوصاً في ولاية أوباما الثانية عندما كان جون كيري وزيراً للخارجية بين عامَي 2013 و2017، مبنيّاً على اعتقاد بأنّ الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط لم تعد قائمة كمصدّر للطاقة، بعد اكتشاف النفط والغاز الصخريَّين بكمّيات كبيرة في الولايات المتحدة. ويمكن تذكّر تلك المرحلة حين عقدت الإدارة الأميركية الصفقة النووية مع إيران في نيسان 2015. ولم تنتظر أسواق النفط التوقيع الرسمي، فالصادرات الإيرانية كانت قد بدأت بالتدفّق فعلاً، فيما كان الإنتاج الأميركي يتزايد، فانهارت الأسعار ووقعت ميزانيات دول الخليج في عجز غير مسبوق. وبدا أنّ الوزن الاستراتيجي لمنطقة الخليج تراجع كثيراً، مقابل الاهتمام الأميركي بمواجهة النفوذ الصيني في شرق آسيا.
لكن بالإمكان الإشارة إلى ثلاث محطّات غيّرت التفكير الاستراتيجي الأميركي منذ عام 2020: جائحة كورونا، والغزو الروسي لأوكرانيا، وفشل المفاوضات النووية مع إيران.
أحيت الجائحة اهتمام الدول الكبرى بتأمين سلاسل الإمداد لصناعاتها وغذائها. ووضعت الحرب الأوكرانية العالم مجدّداً أمام حقيقة استمرار الحاجة إلى النفط لعقود مقبلة. وعاد “أمن الطاقة” إلى عمق صناعة السياسات الدولية، لا سيما في أوروبا، بعدما بدا في العقد الماضي أنّ هذا العنوان ليس إلا واحداً من عُقَد التاريخ. وما من مكان يمكن رصد هذا التحوّل فيه أكثر من ألمانيا. فالمستشارة السابقة أنجيلا ميركل لم يكن لديها أدنى تردّد في المضيّ بمشروعَي خطَّي أنابيب الغاز “نورد ستريم 1″ و”نورد ستريم 2” من روسيا عبر بحر البلطيق، فيما بات الملفّ الأوّل والأهمّ على طاولة خلَفها أولاف شولتز توفير موارد بديلة للطاقة لعقود مقبلة.
ماذا تريد الرياض؟
هكذا أصبح الصراع الدولي يدور حول عنوانين أساسيَّين: أمن الطاقة، ورسم خطوط التجارة الدولية وسلاسل الإمداد. في التفكير الاستراتيجي الأميركي الجديد بحثٌ عن بدائل للغاز الروسي في منظومة أمن الطاقة الأوروبية، وبحثٌ عن بدائل للصين في منظومة سلاسل الإمداد. وفي الحالين ما من بديل أفضل من دول الخليج، بفضل الموقع الجغرافي وتركيبة الموارد الطبيعية.
إقرأ أيضاً: “كيمياويّ” الغوطة: أوباما لم يُخطىء… بل ظُلِمَ
هل يضع ذلك السعودية أمام ضرورة الاختيار بين مشروعين وخطّين للتجارة العالمية؟
لا شكّ أنّ لواشنطن طلبات مقابل العروض. فهي تريد الحدّ من الانخراط السعودي مع الصين في عقود التكنولوجيا، لا سيما العسكرية، وتريد أن يكون للتعاون الاقتصادي بين البلدين حدود لا تهدّد هيمنة الدولار على المعاملات التجارية الدولية، لا سيما تجارة النفط. إلا أنّ فرص الاستفادة من التنافس الأميركي – الصيني والصيني – الهندي كبيرة أيضاً. وقد يكون شبك منظومات الطاقة والتجارة مع أوروبا، وحتى مع إسرائيل، مفيداً للأمن الإقليمي، إذا أحسنت المنظومة الإقليمية العربية السير بسرعة كبيرة على منعطفات المصالح.