وطن على كفّ “غَلبة”

مدة القراءة 5 د


البلد على “كفّ عفريت”. هذا ما يقوله عن لبنان كلّ من فيه وما فيه، من حوادث أمنيّة أو “أهليّة”، ومن مواطنات ومواطنين في هذه البلاد المسمّاة جمهورية لبنانية، أو دولة لبنانية. هذا أيضاً ما يقوله كلّ من هم خارجه. وأيضاً كلّ ما يجري خارجه.

“البلد على كفّ عفريت”. والعفريت يمسك البلد جيّداً. يهزّه نعم. إنّما هزّات عنيفة. لكن لا يريده أن يقع. هو الوحيد القادر على شنّ ما يريد على الآخرين: رؤساء، وحكومات، ومجالس نيابية، وسنّ قوانين انتخابية وغير انتخابية، وعقد صفقات وتسويات ومعادلات، واتّباع ممارسات لا تمتّ إلى عاقلٍ بصلة ولا إلى عفريت، وشنّ حروب واجتياحات وامتلاك صواريخ وقنابل ورصاصات. هو الوحيد القادر على الحرب والسلم. الآخرون لا يقدرون إلا على التخريب، بالغاً ما بلغ.

البلد على “كفّ عفريت”. هذا ما يقوله عن لبنان كلّ من فيه وما فيه، من حوادث أمنيّة أو “أهليّة”، ومن مواطنات ومواطنين في هذه البلاد

عفريت تاريخيّ

العفريت في لبنان، عمره من عمره. وعمر لبنان من عمر الحروب والأزمات فيه وعليه وحوله. لا يموت. عفريت خالد. عفريت ينتقل من جسد إلى جسد. ومن إثنية إلى مثيلتها. ومن أقلّية إلى شبيهتها ومثيلتها. ومن طبقةٍ اجتماعية إلى طبقة أخرى. ومن طائفة إلى نظيرتها. ومن منطقة إلى منطقة: بل من عائلة إلى عائلة. ينتقل أحياناً داخل العائلة نفسها، من أخ إلى أخ، وبين أولاد العمّ. والتاريخ شاهد.

كان العفريت يوماً على هيئة أمراء موحّدين. لمعت الفكرة في رأسهم أوّلاً. وتجسّدت تحت ظلال إمارتهم. ثمّ انتقلت إلى معاونيهم في شغل الأرض والاعتناء بها: من فلاحين ومزارعين ومرابعين وظلال أمراء. الرديء أنّها تفشّت بين تجّار فمتعلّمين ومتنوّرين ومنوّرين.

جاء مرّة بهيئة الثورة الفلسطينية في التاريخ الحديث. ثمّ نزل بهيئة احتلال إسرائيلي، فاحتلال سوري. ثمّ صار غلبةً شيعيةً، مصحوبة باحتلال إيراني سياسي طاغٍ. فلنقل في أحسن الأحوال إنّه مارد شيعيّ خرج من فانوس سحري اسمه لبنان.

لا تهمّ التسمية. المهمّ هو العبرة. فمن يعتبر؟ كلّ غلبةٍ إلى زوال. حدّقوا بعيداً. حدّقوا في الأمس والحاضر والمستقبل. كلّ غلبة إلى زوال. انظروا إلى “الغلبات” السابقة. راجعوا ابن خلدون. العصبيّات تتحلّل مع الوقت والأجيال، والأيّام دول.

الدولة – المخلّص

وحدها الدولة، هذا الكائن الافتراضي، يخلّصنا. وحدها الملجأ. لكن من يسمع؟ لكن أين هي، بعدما مسّتها الطوائف بمعتقداتها، فكرةً وواقعاً؟ صارت الدولة في لبنان أشبه بالمخلّص. المخلّص الذي يأتي في آخر الزمان… “فيخلّصنا”. المخلّص الذي يدعو الداعون إليه، لئلّا يأتي، على الرغم من انتظار الجميع. لبنان وطن مؤجّل. هو مبنيّ على أمجاد ماضٍ لم نعد نعلم هل كانت يوماً. الآن هو مبنيّ على “غلبات” تلمع ثمّ تخبو. وما يلمع حاضراً هو غلبة شيعية.

في لبنان تجاوزنا منذ زمن فكرة الدولة القومية، ودولة الرعاية، والدولة الشركة، والقرية الكونية. نحن في عصر “الدولة-المخلّص”، ولا نقول إلّا: لا بدّ ستأتي. ستظهر. ستخرج. ستهبط. أو ستنبعث. نحن في ذلك مذاهب أيضاً وفرق و”غلبات”.

العفريت في لبنان، عمره من عمره. وعمر لبنان من عمر الحروب والأزمات فيه وعليه وحوله. لا يموت. عفريت خالد. عفريت ينتقل من جسد إلى جسد. ومن إثنية إلى مثيلتها

هذا ليس تنظيراً. هذا واقع لبنان شعباً وجماعات وطوائف وأهلاً يتشاركون جغرافيا واحدة. الكلام هنا ليس عن أفكار وأيديولوجيات ومعتقدات. ولا عن مشاريع واتفاقات وكواليس. الكلام عمّا مرّت به غالبيّتنا. وعن لبنان ما قبل الحرب كما وصل إلينا أخباراً وكتباً وصوراً ومعارك وثورات. وعن حرب عشتها، وشاركت في فصولها. نعم قاتلت وقتلت، ومن سوء الحظّ أنّي لم أقتل.

يوم قاتلت لم أَلغِ. لم أسعَ إلى إلغاء أو إبعاد أو تمييز أو تقسيم. كان القتال ضدّ الاحتلالات وضدّ كلّ الطوائف والمذاهب. لم أذهب حتى النهاية ولا أذهب إلا في سبيل نهائية هذا الوطن، بل سرمديّته. لا أذهب إلى النهاية إلا في سبيل هذا الحلم.

ضروب الهذيان

حادثة الكحّالة قبل أيام، وحادثة بشرّي- بقاعصفرين، وبينهما معركة عين الحلوة، وبموازاتها حادثة جرود جبيل… أَأُعدّد بعد؟ كان بإمكاني نشر هذا المقال بعد سنة بل سنوات، من دون تعديل يُذكر. التعديل الحتمي الوحيد هو إضافة ما سيقع من حوادث على غرار تلك الآنفة الذكر. للأسف هذا هو الحال. أو للأسف هذا هو الحال منذ وُلدت في هذا الوطن.

السؤال الآن: من يتّعظ؟ من يصغي إلى لغة العقل؟ من يتنبّه من أهل الغلبة والحوادث الأخيرة إلى أنّ غلبة ما تتشكّل الآن في رحم غلبتهم، وهم الشيعة؟

جاء في مقدّمة ابن خلدون: “عندما تنهار الدول يكثر المنجّمون والشحّاذون والمنافقون والمدّعون والكتبة والقوّالون والمغنّون النشّازون والشعراء النظّامون والمتصعلكون وضاربو المندل وقارعو الطبول والمتفقّهون وقارئو الكفّ والطالع والنازل والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون…”.

تتكشّف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط، يضيع التقدير ويسوء التدبير، وتختلط المعاني والكلام ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل… ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء، ويسود الهرج في الأسواق والمزايدات على الانتماء ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين، ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة…

إقرأ أيضاً: هل يمكن تجنّب العودة إلى الحرب الأهليّة اليوم؟

تسري الشائعات عن هروب كبير وتُحاك الدسائس والمؤامرات وتكثر النصائح من القاصي والداني وتُطرح المبادرات من القريب والبعيد ويتدبّر المقتدر أمر رحيله والغنيّ أمر ثروته ويصبح الكلّ في حالة تأهّب وانتظار ويتحوّل الوضع إلى مشروعات مهاجرين، ويتحوّل الوطن إلى محطّة سفر، والمراتع التي نعيش فيها إلى حقائب والبيوت إلى ذكريات والذكريات إلى حكايات.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…