قد لا يكون أيّ من الأطراف المعنيّة بالوضع العراقي، سواء القوى الداخلية أو الإقليمية والدولية، أكثر ارتياحاً من النظام الإيراني وهو يرصد الجدل والصراع الدائر بين قوى وأحزاب البيت الشيعي من “الإطار التنسيقي” ومن خارجه على خلفيّة قرار بغداد تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 833 الخاصّ بترسيم الحدود العراقية الكويتية المشتركة في منطقة أمّ قصر.
على الرغم من أنّ القرار الأممي الذي صدر عام 1993، أي بعد سنتين من عملية تحرير الكويت عام 1991، واعترف به النظام العراقي السابق عام 1994، شكّل سابقة قانونية في العلاقات الدولية، اذ يُعتبر أوّل تدخّل مباشر من مجلس الأمن، فإنّ أولى نتائجه المباشرة لم تنحصر في تخلّي العراق عن جزء من الأراضي للكويت، بل وضعت حدّاً نهائياً للمطالبات العراقية المستمرّة بملكية الكويت واعتبارها إحدى المحافظات العراقية، واستخدامها ورقة ضغط على الدولة الكويتية والدول الخليجية، والتلويح الدائم بإمكانية إحداث تغيير جيوسياسي في خريطة المنطقة والحدود المرسومة للدول بقوّة السلاح.
لم يتردّد الجانب الإيراني في التعبير عن انزعاجه من التملّص الذي مارسته الحكومات العراقية المتوالية ومسؤولوها المحسوبون على المعسكر الإيراني ويُصنَّفون في خانة الحلفاء له والمنفّذين لسياسته
الرفض العراقي لاتفاقية الترسيم
سمح توقيع النظام العراقي السابق على اتفاقية ترسيم الحدود التي تنتهي عند النقطة 162 البحريّة، للكويت بتقاسم ميناء أمّ قصر مع العراق، فضلاً عن وقوع القاعدة البحرية العراقية داخل الجزء الكويتي، واستُكمل بخطوة أخرى قامت بها السلطة الجديدة التي قامت على أنقاض النظام السابق بعد احتلال العراق عام 2003، وهي اتفاقية تنظيم الملاحة في شطّ العرب والمنطقة الاقتصادية الخالصة بين العراق والكويت، التي سمحت للكويت بالبدء بتنفيذ مشروعها الاقتصادي الاستراتيجي في خور عبدالله، بانتظار التوصّل إلى اتفاقية الربط السككيّ بين البلدين. وهي الاتفاقية التي صوّت عليها البرلمان العراقي على الرغم من اعتراض العديد من النواب عليها وتسميتهم لها باتفاقية “الذلّ”، وهو ما لم يُحذف من سجلّ المناقشات والمداولات البرلمانية.
ذهبت الحكومة العراقية إلى تنفيذ اتفاقية الترسيم بناء على القرار الدولي ومن منطلق دبلوماسي وسياسي يقوم على مبدأ “استمرارية” الالتزامات الدولية والدبلوماسية في المعاهدات والاتفاقيات، خاصة أنّ النظام الجديد في العراق جاء في سياق الالتزامات الدولية ونتيجة عمل دولي أطاح بالنظام السابق. وعليه كانت قيادات النظام الجديد ومسؤولوه الجدد بغضّ النظر عن انتمائهم العقائدي والمذهبي ملزمين بتنفيذ ما يريده المجتمع الدولي الذي جاء بهم وسلّمهم السلطة والحكم. وهي التزامات قد لا تقف عند حدود تنفيذ اتفاقية ترسيم الحدود مع الكويت، بل تتوسّع لتشمل قضايا إقليمية شكّلت المشهد السياسي الإقليمي على مدى عقود طويلة، وفي مقدَّمها القضية الفلسطينية والسير في قطار التسوية والتطبيع.
الإجراء العراقي أو الالتزام بالتنفيذ هو ما تنتظره العاصمة الإيرانية طهران، التي لم تترك فرصة أو مناسبة أو زيارة رسمية إيرانية لبغداد أو زيارة عراقية لطهران، إلا ومارست فيها الكثير من الضغط لكسر الموقف العراقي الرسمي الممتنع عن تنفيذ قرار وقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية الصادر عن مجلس الأمن الدولي 598، والذي أشار إلى إعادة إحياء اتفاقية الجزائر لترسيم الحدود لعام 1975، التي شكّلت شرارة انطلاق الحرب عام 1980 عندما قام الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين بتمزيقها، ثمّ عاد واعترف بها عام 1990 عشيّة الاستعدادات لاجتياح الكويت واحتلالها.
الإجراء العراقي أو الالتزام بالتنفيذ هو ما تنتظره العاصمة الإيرانية طهران، التي لم تترك فرصة أو مناسبة أو زيارة رسمية إيرانية لبغداد أو زيارة عراقية لطهران، إلا ومارست فيها الكثير من الضغط لكسر الموقف العراقي الرسمي
الخطة الإيرانية البديلة
قد لا تلجأ القيادة الإيرانية إلى تفعيل مطالباتها بتنفيذ أو إحياء هذه الاتفاقية، خاصة أنّها سعت إلى الالتفاف على التمنّع العراقي من خلال الذهاب إلى خيارات عملية تصبّ في إطار تعزيز التعاون بين المؤسّسات الرسمية في البلدين، سواء بالحصول من بغداد على قرار بالموافقة على تنظيف شطّ العرب من حطام السفن التي تعيق الملاحة، أو بتنفيذ الوعود بإنجاز الربط السككيّ بين مدينتَي خرمشهر (المحمره) والبصرة بطول 37 كيلومتراً، وهو الوصل الذي يسمح لإيران بتوسيع ارتباطها البرّي السككيّ باتجاه شواطىء البحر الأبيض المتوسط، بما يعنيه من امتداد لطريق الحرير الحديدي، والدخول على المشروع الاستراتيجي “طريق التنمية” الذي أطلقه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أواخر شهر أيار الماضي والذي يهدف إلى ربط العراق وميناء الفاو بالعمق التركي، ولاحقاً بالأردن وسوريا.
لم يتردّد الجانب الإيراني في التعبير عن انزعاجه من التملّص الذي مارسته الحكومات العراقية المتوالية ومسؤولوها المحسوبون على المعسكر الإيراني ويُصنَّفون في خانة الحلفاء له والمنفّذين لسياسته، وقد ينتظر ما ستؤول إليه الهبّة الشعبية الرافضة لقرار الترسيم، وحالة التنافس بين البرلمانيين والسياسيين في اتّخاذ مواقف تصعيدية ضدّ الحكومة، وقد يكون مردّ هذا التروّي إلى الوضع الدقيق والحرج الذي تعيشه القوى السياسية المحسوبة على إيران في مواجهة هذه المواقف الرافضة للترسيم، خاصة أنّ حكومة السوداني تُعتبر نتاج توافق داخل “ائتلاف إدارة الدولة” الذي قاده “الإطار التنسيقي” الشيعي الذي يضمّ فصائل وأحزاباً حليفة لإيران مع المكوّنين السنّي والكردي.
إقرأ أيضاً: الصدر يقع في فخّ “الإطار”
إيران ترمّم صورتها
في المقابل، وإزاء التمسّك الإيراني بمطلب إعادة إحياء اتفاقية ترسيم الحدود مع العراق، فإنّ الخطوة التي قامت بها بغداد مع الكويت شكّلت فرصة للجانب الإيراني لإعادة ترميم صورته داخل المجتمع العراقي حيث يسود موقف شعبي معادٍ له، من بوّابة استغلال الموقف الشعبي الرافض للجم وكبح الاندفاعة الشعبية العراقية باتجاه العمق العربي، وخاصة الخليجي، والخروج من حالة التوتّر التي سيطرت على الموقف الإيراني من مظاهر الحفاوة الشعبية والرسمية التي لاقاها الضيوف العرب الخليجيون في بطولة خليجي 25، والتي ترافقت مع شعارات معادية لإيران ووجودها من مثل “إيران برّا برّا”. هذا يُضاف إلى حرص طهران على عدم إحراج حلفائها في هذه المرحلة الدقيقة وعشيّة استحقاق انتخابات المحافظات المقرّرة في 18 كانون الأول 2023، والتي من المتوقّع أن تشهد معركة حقيقية بين أحزاب “الإطار التنسيقي” والتيار الصدري الذي بدأ استعداداته للعودة بقوّة إلى المشهد السياسي بعد مرور سنة على قرار اعتزاله أو انسحابه من الحياة السياسية.