“انفجار المرفأ”: لا عدالة من دون تغيير سياسيّ

مدة القراءة 6 د


ثلاث سنوات مرّت على انفجار مرفأ بيروت وما تزال الأسئلة حوله هي تلك التي طُرحت لحظة حصوله: كيف يمكن أن ينفجر مستودع للنيترات في مرفأ العاصمة حيث توجد كلّ الأجهزة الأمنية وكلّ الدولة؟ هذا السؤال البديهي يحمل في طيّاته أجوبة عمّا حصل بعد الانفجار، وبالتحديد لناحية عدم معرفة الحقيقة وعدم تحقيق العدالة، على الرغم من أنّ الدولة، على لسان رئيسها وقتذاك، قالت إنّ التحقيق سيُنجز خلال خمسة أيّام!
لكن لا يمكن أن يحصل انفجار كهذا في كنف دولة، ثمّ تكشف الدولة نفسها حقيقته وتحقّق المساءلة والعدالة فيه. هذان الأمران متلازمان، فحصول الانفجار بحدّ ذاته يعني أنّ حقيقته لن تُكشف وأنّ العدالة فيه ستظلّ غائبة لأنّ دولة لا تمنع حصوله هي في آن معاً دولة لا يمكنها بل لا تريد أن تكشف ما حصل وأن تحاسب المسؤولين عنه. وباختصار فإنّ حصول الانفجار ينفي بذاته وجود الدولة، إذ إنّ وجودها يُفترض أن يمنعه وأن يحول دون وقوعه.
لذلك كلّه ليس انفجار المرفأ مجرّد حادث أو “حادث أليم” كما وصفه الأمين العامّ للحزب. إنّه حدث تأسيسيّ لأنّه يشكّل ذروة غياب الدولة مفهومياً وواقعياً، فدولة لا تحمي مواطنيها من خطر كهذا تفقد معناها ووجودها كدولة.
إذاً لم ينتهِ هذا الانفجار ولم يصبح من الماضي، بل هو حدثٌ متواصل بكلّ مآسيه ودلالاته السياسية، ما دامت الدولة التي حصل في كنفها مستمرّة شكلاً ومضموناً، وما دام استمرارها هذا هو ما يمنع الحقيقة والعدالة في انفجار “4 آب”.

ثمّة رأي يقول إنّ طريقة تعاطي الدولة والمجتمع مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أضعفت حماسة الدول لتبنّي مطلب إنشاء لجنة تحقيق دولية ومحكمة دولية في جريمة المرفأ

مسألة “انقلابيّة”
والحال هذه فقد أكّد انفجار المرفأ عدميّة المطالبة ببناء الدولة على الأسس نفسها التي بُنيت عليها الدولة الحالية والتي آلت بها إلى الانهيار، أي أنه أكّد استحالة بل عدميّة بناء الدولة ضمن الدولة نفسها. ولذلك بات بناء دولة القانون والحقّ والمؤسّسات مسألة “انقلابية”، إذ لا يمكن أن يتمّ بناء الدولة إلّا على أنقاض الدولة الحالية، بـ “عقلها” وعلاقتها بالمجتمع وعلاقة المجتمع بها، وبموازين قواها السياسية والأمنيّة والاقتصادية.
وهو ما يحيلنا إلى سؤال العدالة في انفجار المرفأ وارتباطه البنيوي بسؤال التغيير في لبنان. إذ تبقى المطالبات بتحقيق العدالة في جريمة “4 آب”، على الرغم من أحقّيّتها، منقوصة الفاعلية ما دامت لا تنضوي في معركة التغيير في لبنان. لكنّ ذلك يطرح سؤالاً معكوساً: هل تحقيق العدالة في انفجار المرفأ كافٍ لقلب الطاولة على مراكز النفوذ الرئيسية في الدولة، وبالتالي فتح الطريق أمام تغيير حقيقي في السلطة والدولة؟
لا شكّ أنّ الإجابة عن هذا السؤال تصطدم باستحالة العدالة في الجريمة حتى الآن لأنّ الربط المنطقي والسياسي بين تحقيق العدالة وبين التغيير يصطدم بواقع انتفاء العدالة ما دامت الوقائع على ما هي عليه. وهو ما يوجب تلازم هذين المسارين، أي التغيير وتحقيق العدالة. فمسألة العدالة ليست مسألة قضائية بحتة، بل هي مسألة سياسية أيضاً، أي أنّ ضمور الصلة بين المطالبات بالعدالة وبين دينامية التغيير السياسي والاقتصادي – الاجتماعي يبعد الحقيقة والعدالة أكثر فأكثر، سواء كان الوصول إليهما عبر القضاء اللبناني “المسيّس” إلى حدّ بعيد أو عبر القضاء الدولي الذي تستبعده التركيبة السلطوية الحالية، إضافة إلى الاستراتيجيات الدولية والإقليمية بشأن لبنان.

أكّد انفجار المرفأ عدميّة المطالبة ببناء الدولة على الأسس نفسها التي بُنيت عليها الدولة الحالية والتي آلت بها إلى الانهيار، أي أنه أكّد استحالة بل عدميّة بناء الدولة ضمن الدولة نفسها

إلغاء الدولة
ثمّة رأي يقول إنّ طريقة تعاطي الدولة والمجتمع مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أضعفت حماسة الدول لتبنّي مطلب إنشاء لجنة تحقيق دولية ومحكمة دولية في جريمة المرفأ. لكنّ ذلك لا يفسّر لوحده عدم إنشاء مثل هاتين اللجنة والمحكمة، إذ إنّ موقف الدول الكبرى التي يمكن أن تدفع باتجاه إنشائهما كان ضبابياً منذ البداية، ولأسباب تحوم حولها الكثير من الأسئلة!
أيّاً يكن من أمر، فلا يمكن فصل مسألة العدالة عن مسألة التغيير بمعناه الواسع، أي تغيير البنى السياسية والاجتماعية- الاقتصادية لا الاكتفاء بتغيير الأشخاص في أيّ موقع كانوا، خصوصاً أنّ إدارة الدولة باتت تتمّ من خارج الدولة نفسها، أي من قبل مراكز القوى السياسية والاقتصادية، وعلى رأسها الحزب الذي يخوض صراعاً إقليمياً ودولياً تشكّل الدولة اللبنانية إحدى أدواته، وبالتالي لم يعد هناك أدنى حدود أو فصل بين الدولة بإداراتها وأجهزتها وبين مراكز القوى على أنواعها، وهذا أيضاً إلغاء للدولة ذاتها مفهومياً وواقعياً.
كلّ ذلك يستدعي التفكير في كيفيّة خلق دينامية سياسية جديدة خارج الديناميات الموجودة وعلى الضدّ منها، وإن كان ذلك لا يستبعد العثور على تقاطعات مع قوى سياسية موجودة ومستعدّة لإجراء تغيير في مقاربتها للوضع اللبناني برمّته.
لكنّ البداية تكون من التعامل مع جريمة المرفأ بوصفها مسألة سياسية وسيادية شبيهة باحتلال دولة أجنبية للبنان، أي أنّ التعامل مع هذه القضيّة يستدعي تحوّلها إلى أولوية لبنانية قصوى لا تعلوها أيّ أولوية أخرى، أو أنّ الأولويات الأخرى، سواء الاقتصادية أو السياسية، يفترض أن تكون ضمن هذه الأولوية الكبرى، بحيث تحدّد إمكانات تحقيق العدالة في جريمة المرفأ خريطةَ الطريق للتعامل مع الواقع السياسي الحالي.

إقرأ أيضاً: 4 آب وعين الحلوة والفدراليّة: مسؤوليّة الحزب

قلب المسار
كلّ هذه الأمور تحيلنا إلى انتفاضة 17 تشرين التي كمنت أهمّيّتها الرئيسية في إعادة الربط بين المجتمع والسياسة، أي في جعل المجتمع منخرطاً في السياسة وفاعلاً فيها، ولو من باب المسألة الاقتصادية والمطالبات الاجتماعية، لكن سرعان ما أخذ هذا الحراك طابعاً سياسياً بحتاً قبل أن يتداعى بفعل الضغوط والاختلالات من داخله ومن خارجه. لكنّ ضمور هذا الحراك أعاد الأمور إلى ما كانت عليه، فانسحب المجتمع، بمعناه الحقيقي، إلى الوراء، وتقدّمت قوى السلطة العميقة إلى الأمام، وهو ما خلق مساراً معكوساً لذاك الذي أطلقته انتفاضة 17 تشرين. لكن لا يمكن أن يكون هذا المسار مساراً نهائياً لأنّ استمراره يعني أنّ الحرب ضدّ المجتمع متواصلة، بدءاً من الانهيار الاقتصادي ووصولاً إلى انفجار المرفأ وغياب العدالة فيه، وعمليات التكيّف مع الانهيار بدلاً من محاسبة المسؤولين عنه. ولذلك العدالة في تفجير “4 آب”، وإن كانت تعني أهالي الضحايا أوّلاً، فهي تعني المجتمع ككلّ، لأنّها إحدى وسائله المتقدّمة للدفاع عن نفسه بوجه الحرب ضدّه.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@

مواضيع ذات صلة

قنوات مفتوحة بين قائد الجيش و”الثّنائيّ الشّيعيّ”

في آخر موقف رسمي من الانتهاكات الإسرائيلية اليومية والفاضحة لقرار وقف إطلاق النار تكرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “لفت نظر” لجنة المراقبة لوجوب وقف هذه…

“اللقاء الديموقراطي” يدعم التوافق على جوزف عون

أقلّ من 25 يوماً تفصل عن موعد الاستحقاق الرئاسي. حراكٌ في مختلف الاتّجاهات، وتشاورٌ على كلّ المستويات. الشغل جدّي لإجراء الانتخابات يوم التاسع من كانون…

سفراء الخماسيّة “أسرى” جلسة الرّئاسة!

لا صوت يعلو فوق صوت “مطحنة” الأسماء المرشّحة لرئاسة الجمهورية. صحيح أنّ الرئيس نبيه برّي يتمسّك بتاريخ 9 كانون الثاني بوصفه المعبر الإلزامي نحو قصر…

سليمان فرنجيّة: شريك في رئاسة “قويّة”

من يعرفه من أهل السياسة أو من أهل الوسط يصفونه بفروسيّته ربطاً بأنّه يثبت على مبدئه مهما طال الزمن ومهما تقلّبت الظروف. سليمان فرنجية الحفيد…