ما عاش وطنٌ على الأوهام كما عاشها لُبنان، وما اخترع ساسةٌ وإعلامٌ ومحلّلون رواياتٍ عن محاضر جلساتِ الغرف المُغلقة، كساسةِ لُبنان وإعلامِه (إلّا ما ندر). فما إن غادر المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان بيروت بعد جولته الأخيرة، حتّى انتشرت الأخبار والتحليلات كالنار في الهشيم، وتقاطر مُدَّعو التحليل ومنتحلو صفة “الخبير الاستراتيجي” إلى الشاشات يشرحون التفاصيل ويُبشّرون بمؤتمر للحوار، ويؤكّدون، كلٌّ حسب محوره طبعاً، أنّ الزيارة كانت لصالح فريقه.
لو قام أحد الأكاديميّين بتحليل نصوص ما يُقال، لاكتشف من دون عناءٍ كبير أنّ جهابذة الشاشات من ساسةٍ ومُحلّلين وخُبراء يقولون الشيءَ وعكسَه في أسبوع واحد. ولا بأس في ذلك. فالناس متعلّقون بخيوط الوهم، حتّى ولو أنّهم مُدركون ضمنيّاً أنّ الضيف الجالسَ في الاستوديوهات يخترع ويفبرك.
سلسلة من الأوهام
الواقع أنّ مشكلةَ لُبنان منذ فجرِ التاريخ حتّى اليوم هي الوهم. وإليكم سلسلة الأوهام البارزة:
– وهمُ ولادة لبنان الكبير. فالجنرال الفرنسي هنري غورو لم يفعل ذلك حُبّاً بعيون الأرز وإنّما بناءً على مشروع تقسيمي واضح بين سورية ولبنان بعد تركة الإمبراطورية العثمانية. واعتمد في خطوته على لبنانيين وسوريين عاملين في الفلك الفرنسي، وبعضهم كان، تماماً كما اليوم، قد انتقل من الفلك العثماني إلى الفرنسي كما يبدّل قميصه.
– وهمُ الاستقلال، فكيف يكون استقلالٌ، والعرفُ قد غَلبَ الدستورَ وترك الطوائفَ المتنافسة ثمَّ المتصارعة تُحطّم الحدود مراراً بحثاً عن حليفٍ خارجيٍّ ضدّ شريكِ الوطن. ثمّ صار العرفُ هو الدستور، وتمّ الدوس مراراً على الدساتير لتحيا أعرافُ الطوائف حتى بعد الطائف.
القرار السياديّ لم يكن يوماً بيد اللبنانيّين، بل قَبِل ساستُهم أن يكونوا مطيّة للخارج. فكان تعيينُ معظمِ رؤساء الجمهوريّة ورؤساء الحكومات وأبرز وزراء لبنان يتمُّ بقرارٍ خارجيّ
– وهمُ “سويسرا الشرق” الذي أُلصقَ بلبنان نظراً لسرّيّته المصرفيّة وليس لجمالِ الثلوج على جباله، فكانت السرّيّة في الوطن، مطيّةً لإثراءٍ غيرِ مشروع وغطاءً شرعياً لثرواتِ مافيا السياسة والمال التي نُهبت من الوطن والشعب. هذا النظامُ المصرفيُّ الذي قام على مجموعةٍ من رؤوسِ الأموال والعائلاتِ اللبنانيّة والسوريّة والفلسطينيّة، هرب كاللصّ حين احتاج إليه الناسُ ولمّا اكتشف فقراءُ الشعب أنّه نهبهم (راجع كتاب الطبقات السياسيّة والاجتماعيّة في لبنان لفوّاز طرابلسي مثلاً).
– وهمُ السيادة، فالقرار السياديّ لم يكن يوماً بيد اللبنانيّين، بل قَبِل ساستُهم أن يكونوا مطيّة للخارج. فكان تعيينُ معظمِ رؤساء الجمهوريّة ورؤساء الحكومات وأبرز وزراء لبنان يتمُّ بقرارٍ خارجيّ، مهما تقلّب هذا الخارج (راجع مثلاً كتاب “أجمل التاريخ كان غداً” للرئيس إيلي الفرزلي أو كتب محسن دلّول ونبيل المقدّم أو مذكّرات الرئيس جاك شيراك).
– وهمُ الطائفيّة. هذا أخطر الأوهام الذي سعى زعماء الطوائف إلى إقناع الناس بوجوده. فمع كلّ حرب وقلقٍ وخوف، ينبري الزعيمُ الطائفي المُفدّى يقدّم نفسه مُخلّصاً، ويقنع جماهيره الغفورة (كي لا نقول قطيعه) بأنَّ الطائفيّ الآخر يُريد التهامَه. لكنّ الدراسات الموثوقة تُثبت أنّ غالبية اللبنانيين كانوا غير طائفيّين وتوَّاقين إلى الدولة المدنيّة (يقول مثلاً الباحث الألماني ثيودور هانف الذي عمل 16 عاماً على تأليف كتابِه المهمّ جدّاً “لبنان تعايش في زمن الحرب” إنَّ “84% من اللبنانيّين كانوا مع العلمانيّة في السنوات 1981 حتى 1984، ثمّ صاروا 87% عام 1986، لا بل وصلوا إلى 93% عام 1987″، وهو يؤكّد أنَّ الطائفية محصورةٌ بشكل كبير بزعماء الطوائف والمسؤولين الكبار، وليست أفقيّة بين الشعب) .
– وهمُ الرفاهية: تعلّم اللبناني حبّ المظاهر. فقد يكون متواضعَ الحال ويشتري سيارةً فاخرةً ليراها جيرانُه. وقد لا يملك ثمنَ الطعام ويشتري ثياباً تُرهق كاهله. وقد يحمل سيجاراً بينما أختُه تحتاج إلى كتبٍ مدرسيّة. كانت الرفاهية الحقيقيّة حَكراً على مجموعة قليلة من اللبنانيّين (يقال 7 آلاف فقط) الذين كانوا يتنقّلون من مكان إلى آخر ومن مطعمٍ وملهىً إلى مطعمٍ وملهى آخرين، وينثرون ثقافةً لا تمتُّ إلى حاجاتِ الناس بِصِلَة. تعلّم اللبناني التكبّرَ على العربِ الآخرين والعنصريّة والتعالي، وعلى خادمات المنازل الفقيرات، وها هو يدفع اليوم ثمن أوهامه.
– وهمُ المعرفة واللغات. ما زال كثيرٌ من اللبنانيّين يعتقدون أنَّ لبنان هو أفضلُ الدول العربيّة باللغات، والثقافة، والمعرفة، والتكنولوجيا. لم ينتبه كثيرون إلى أنّ الكثير من الشباب الخليجيّ مثلاً أو المغربيّ صاروا أكثر ثقافةً وتعددَ لغاتٍ نظراً للبعثات العلميّة المجانيّة والكثيرة إلى الخارج، بينما لم يتفضّل أيُّ مسؤول لبنانيّ بتعليم الكثير من الشباب في الخارج سوى الرئيس الشهيد رفيق الحريري. لم تعد أيّ جامعة في لبنان بين الجامعات الأولى في العالم، بينما نجد جامعات في السعودية ومصر وحتى الإمارات صارت في الصدارة.
لم يعرف لبنان في تاريخه، ولا مرّة واحدة، انتخاباتٍ نزيهة. كلّها كانت مُعدّة سلفاً ومُفبركة ومزوّرة على نحوٍ مُباشر أو عبر المحادل أو القوانين أو الرشى والوعيد والتهديد، أو من خلال تقلّب التحالُفات في اللحظات الأخيرة
– وهمُ اليسار والنضال: شغل هذا الوهمُ عشرات آلاف الشباب. وقاد الآلاف منهم إلى الاستشهاد ضدّ إسرائيل أو في حروب الداخل، لكن ما إن دخلت ثروةُ الرئيس الحريري إلى البلاد وتفكَّكَ الاتحاد السوفيتيّ، حتّى انهار الكثيرُ من هؤلاء أمام سطوة المال، فباعوا أفكارهم على مذبح الثروة ووظائف الدولة، فتبيّن أنّهم كانوا يساريّين لعجزهم عن أن يصبحوا بورجوازيّين، وحين توفّرت فرصةُ البورجوازية نسَوا صراع الطبقات وكفاحَ العمّال والفلّاحين، وصاروا يتباهون بثرواتهم وأفراحهم وزفافِ أولادهم. لم يبقَ من هؤلاء غيرُ المخلصين الحقيقيّين والمناضلين الصادقين.
– وهم الدولة والمؤسّسات. يُمكن الجزم اليوم بكلّ ثقة أنَّ الدولة لم تقُم في كلّ تاريخ لبنان. فلم يعرف اللبنانيون (حتى في عصر الرئيس فؤاد شهاب والمكتب الثاني الذي دائماً ما يُقدَّم على أنَّه الأفضل) فصلاً للسلطات التشريعيّة، والتنفيذيّة، والقضائيّة وغيرها. بل غالباً ما كان يختلطُ الحابلُ بالنابل، وتوضع القوانينُ والتشريعات، ليس لحماية الناس والعدالة والاستقلال، بل لخدمة المافيات السياسيّة والماليّة التي تُعيد إنتاجَ نفسِها كلَّ مرّة بصورة أبشع من السابق، تماماً كسُلالات كورونا.
– وهم الانتصار. انتهت الحرب اللبنانيّة منذ أكثر من 33 عاماً. ولم يعترف أيُّ طرفٍ حتّى اليوم بأنّه هُزم أو أساء أو أخطأ. قد نسمع تصريحاً من هنا أو هناك يتلو بعضَ فعلِ الندامة، لكنَّ ذلك يكون للتوظيف المرحليّ، وليس في سياق مراجعةٍ نقديّةٍ جذريّةٍ لتجاربَ حطّمتِ الوطن، وساهم الجميع فيها. فالجميع منتصرٌ.
– وهمُ الانتخابات. لم يعرف لبنان في تاريخه، ولا مرّة واحدة، انتخاباتٍ نزيهة. كلّها كانت مُعدّة سلفاً ومُفبركة ومزوّرة على نحوٍ مُباشر أو عبر المحادل أو القوانين أو الرشى والوعيد والتهديد، أو من خلال تقلّب التحالُفات في اللحظات الأخيرة، فلا تعرف أين ينتهي اليسار وأين يبدأ اليمين. ولا تعرف مَن هو المُعارض ومن هي أحزاب السُلطة.
– وهمُ الحرّيّة. لم يعرف لبنان في تاريخه حرّيّة حقيقيّة. صحيح أنَّ أيّ شخص يستطيع أن يقولَ ما يشاء، ويكتب ما يريد، ويشتم من يعادي، مهما كانت صفةُ هذا العدوّ الداخلي، لكنَّ الصحيح أكثر أنَّ هذه الحرّيّة كانت وما زالت متفلّتة من كلّ القيود، وهي بالتالي أقرب إلى الفوضى منها إلى الحرّيّة المقوننة المحترمة. فكيف لا ينتهي الأمر بهذا المستوى من الترادح اللاأخلاقي بين السياسيين والإعلام والناس؟
– وهمُ الاقتصاد المتين والليرة الثابتة. لم يكن في لبنان اقتصادٌ سليم ولا صحّيّ. كان اللبنانيون يعيشون على الوهم. فلا الزراعة تهمُّهم ولا القطاعات الإنتاجيّة المتوسّطة أو الطويلة المدى تغريهُم. هم تعلّموا من وَهْمِ المصارف الربحَ السريع. كلُّهم كانوا يسارعون إلى ما يدّخرونه في المصارف للحصول على فوائد عالية. بينما المافيا السياسية الماليّة كانت تضحك في سرّها، لإدراكها أنّ هذه الودائع الوهميّة ستُحقّق أرباحاً وهميّة للناس، بينما الأرباح الحقيقيّة ستصبُّ في جيوب مجموعةٍ قليلةٍ من المتنفّذين.
إقرأ أيضاً: رئيسُ لُبنان كالبرّاد الصينيّ يُصنَّع خارجيّاً ويُجمَع داخليّاً
العودة إلى الواقع
هذه الأوهام وغيرها هي التي قام عليها لبنان. وما نشهده اليوم هو ببساطة انهيارُ الأوهام والعودةُ إلى الواقع. وفي هذا الواقع أكثرُ من نصف اللبنانيين تحتَ عتبةِ الفقر أو عاطلون عن العمل، ومعظمُ الزعماء الطائفيّين مستعدّون لتدمير الوطن كي يبقوا على عرش الزعامة الطائفية أو يعزّزوا صلاحيّاتِهم.
هذا ما اكتشفه الرئيس إيمانويل ماكرون، ومبعوثه جان إيف لودريان، وما اكتشفه مَن جاء قبلهم مِن مبعوثين دوليّين، ومَن سيليهم. فأوهام الانتصار ما زالت متحكّمة برقبة هذا الوطن، تخنق الدولة، وتقضي على ما بقي من أملٍ للناس. والمشكلة أنّ الناس (إلّا قلّة قليلة بينهم) تعلّموا التأقلُم مع كلّ المصائب… لكن إلى متى؟ فالجوع لن يرحمَ أحداً بعدما سقطت الأوهام جميعاً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: samykleyb@