قوانين “مواجهة” الذكاء الصناعيّ (1/3): أوروبا “تتقدّم”

مدة القراءة 8 د


صادق نوّاب البرلمان الأوروبي في 14 حزيران 2023 على اقتراح قانون يضع قواعد للحدّ من المخاطر المرتبطة بالذكاء الصناعي، وهو اقتراحٌ كان قد طُرح عام 2021، ولم يكن الحديث عن التجاوزات والمخاطر قد أخذ كلّ هذه الضجّة العالمي. إذ إنّ وضع ضمانات لمواجهة الذكاء الصناعي بات أكثر إلحاحاً الآن، حيث تُظهر التطوّرات السريعة في روبوتات المحادثة مثل “تشات جي بي تي” (ChatGPT) الفوائد التي يمكن أن تتيحها التكنولوجيا الناشئة، والمخاطر الجديدة التي يمكن أن تجلبها. وبنظرةٍ سريعةٍ يصنّف القانون أنظمة الذكاء الصناعي وفقاً لأربعة مستويات من المخاطر، من “الأقلّ خطورة” إلى “غير المقبول”.
بعد إقرار اللوائح سيتعيّن على الـ27 دولة، الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، تطبيق هذه التشريعات والقوانين. ومن الممكن أيضاً أن تلحق بها بعض الدول الأخرى من خلال تبنّيها لهذه التشريعات أو تعديلها. إذ بات الذكاء الصناعي يشكّل ثورة داخل الثورة الرقمية. والتطوّر المفاجئ للتطبيقات التوليدية والتخوّف من مخاطرها المتعدّدة على المستويات كافّة أدّيا إلى البحث عن تشريعات وقوانين لهذه التطبيقات لقوننة استخدامها. يحاول الاتحاد الأوروبي أن يكون سبّاقاً في ذلك، وأن تقود أوروبا العالم في تنظيم الذكاء الصناعي.
ستواجه التطبيقات الأكثر خطورة، مثل توظيف التكنولوجيا التي تستهدف الأطفال، متطلّبات أكثر صرامة، وعلى هذه التطبيقات أن تتمتّع بشفافية عالية واستخدام بيانات دقيقة. وستؤدّي الانتهاكات إلى غرامات تصل إلى 30 مليون يورو أو 6% من إيرادات الشركة السنوية في جميع أنحاء العالم، وفي حالة شركات التكنولوجيا العملاقة قد تصل إلى مليارات الدولارات.

في قمّة مجموعة السبع التي عُقدت الشهر الماضي في مدينة هيروشيما اليابانية، كانت التشريعات الدولية للذكاء الصناعي موضوعاً رئيساً

ما هي المخاطر؟
بعض الأهداف الرئيسة للاتحاد الأوروبي، كما أعلن، هي التالية:
1- حماية البشر من أيّ تهديدات للصحّة والسلامة بسبب الذكاء الصناعي.
2- حماية الحقوق الشخصية والقيم الأساسية. ويعني ذلك حظر استخدامات معيّنة للذكاء الصناعي بشكلٍ قاطع:
– مثل أنظمة “التصنيف الاجتماعي” والتمييز العنصري حسب اللون والجنس، التي تحكُم فيها الآلات على الأشخاص بناءً على سلوكهم.
– وحظر التطبيقات التي تساهم في استغلال الأشخاص المستضعَفين عبر الذكاء الصناعي.
– حظر استخدام التطبيقات التي تسمح بالتلاعب بالوعي وبالسلوكيّات، والتي قد تؤدي إلى الأذى، كالألعاب التفاعلية التي تشجّع على السلوك الخطر.
– حظر أدوات الشرطة التنبّؤية التي تحلّل البيانات للتنبّؤ بمن سيرتكب الجرائم من خلال توسيع الحظر المفروض على التعرّف على الوجه عن بعد، وتحديد الهويّة البيومترية في الأماكن العامّة. (انظر مليار كاميرا: الحكومات والشركات تراقبكم).
تواجه أنظمة الذكاء الصناعي المستخدَمة في مجالات مثل التوظيف والتعليم، والتي من شأنها أن تؤثّر على مسار حياة الأفراد، متطلّبات صارمة مثل الشفافيّة مع المستخدمين واتخاذ خطوات لتقويم وتقليل مخاطر انحياز الخوارزميّات. وتقع معظم أنظمة الذكاء الصناعي، مثل ألعاب الفيديو أو عوامل تصفية البريد العشوائي، في فئة المخاطر المنخفضة أو المعدومة نسبيّاً.
بالنسبة لروبوتات المحادثة مثل “تشات جي بي تي”، فمن المفترض بها أن تكون واضحة بأن يعرف المستخدم أنّه يتفاعل مع جهاز. وستُعتبر هذه عالية المخاطر إذا لم توضح ذلك بشكل جيّد. ستكون مجبرة بالخضوع لحقوق الطبع، وإعلان البيانات التي استخدمتها في تدريب الخوارزميات التي تعمل على تشغيل أنظمة مثل “تشات جي بي تي”، ليعرف صانعو المحتوى المنشورات والمدوّنات أو الكتب أو الأوراق العلمية أو الأغاني التي جرى استخدامها، وهو ما يمكّنهم من معرفة ما إذا كان عملهم قد جرى انتحاله، وذلك بهدف إنصافهم وأن يحصلوا على حقوقهم من هذه الشركات.

يجب إخبار الناس بأنّ هناك مخاطر مرتبطة بالذكاء الصناعي حتى يتمكّنوا من تثقيف أنفسهم والتعامل مع التقنيات بحذر العارف والملمّ بها

تحدّيات المشروع
يواجه مشروع القانون هذا تحدّياً. فقد أضاف حزب يمين الوسط تعديلاً يسمح بـ”استثناءات“. وهي مفردة من الممكن أن تصبح شمّاعة نعلّق عليها كلّ تجاوزات السلطة الحاكمة، ومن خلال هذه الاستثناءات يُطرح السؤال: كيف سيطبَّق هذا القانون؟ وعلى من سيطبَّق؟
خلال نقاش المشروع قال دراغوس تودوراتش، العضو الروماني في البرلمان الأوروبي، إنّه “من الممكن وضع استثناءات تسمح باستخدام التطبيقات التي تساعد على تعقّب الأطفال المفقودين، وتحديد المشتبه بهم المتورّطين في جرائم خطيرة أو منع التهديدات الإرهابية… لا نريد مراقبة جماعية، لا نريد تصنيفاً اجتماعياً، لا نريد مراقبة تنبّؤية في الاتحاد الأوروبي، في هذه الفترة”. وأضاف “هذا ما تفعله الصين، وليس نحن” (كان بإمكانه إضافة “وهذا ما تفعله إسرائيل أيضاً التي تراقب الفلسطينيين على مدار الساعة من جميع الجهات، بالإضافة إلى الأرض والسماء”).
من التصاريح المتعدّدة، يتبيّن لنا مدى توسّع الصراع الحاصل ومدى إمكانية تطبيق القانون. فالتوجّهات السياسية والحرب العالمية الرقمية التي بات الذكاء الصناعي عمادها تحدّد من سيسيطر على العالم تقنيّاً وبالتالي اقتصادياً، وسيصبح بذلك القوة العالمية الأقوى.
يحاول الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنّه لا يُعتبر لاعباً رئيساً في تطوير الذكاء الصناعي المتقدّم (فهذا الدور تلعبه الولايات المتحدة والصين)، أن يلعب دوراً آخر من خلال القوانين التي تميل إلى أن تصبح معايير عالمية بحكم الأمر الواقع، ومن خلال ذلك تصبح القوانين التي يسنّها رائدة بشكل يستهدف كبرى شركات التكنولوجيا. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ حجم السوق الأوروبي الموحّد يضم 450 مليون مستهلك، وعلى شركات التكنولوجيا الامتثال للقانون. ومن الممكن اعتبار أنّ وضعَ قانونٍ كهذا سيسمح للأوروبيين باستدراك تأخّرهم تقنيّاً. فمن ناحية لا يوصي النصّ الذي تمّ التصويت عليه بوضع حدّ لنشر الذكاء الصناعي، وهذا يعني أنّه سيستمرّ، من جهة ثانية، العمل على تطوير السوق من خلال بناء ثقة المستخدم والحدّ من سلطة الشركات الرقمية.
من جهتها، تعمل بريطانيا، التي غادرت الاتحاد الأوروبي في عام 2020، على لعب دورٍ رائدٍ في مجالات الذكاء الصناعي. وقد عبّر رئيس وزرائها ريشي سوناك عن ذلك بقوله إنّه سيجعل المملكة المتحدة “الموطن الجغرافي لتنظيم أمن الذكاء الصناعي العالمي”، وسيجمع في مؤتمر عالمي في الخريف الأوساط الأكاديمية والشركات والحكومات من جميع أنحاء العالم للعمل على “إطار متعدّد الأطراف”.
أيضاً في قمّة مجموعة السبع التي عُقدت الشهر الماضي في مدينة هيروشيما اليابانية، كانت التشريعات الدولية للذكاء الصناعي موضوعاً رئيساً.

يحاول الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنّه لا يُعتبر لاعباً رئيساً في تطوير الذكاء الصناعي المتقدّم أن يلعب دوراً آخر من خلال القوانين التي تميل إلى أن تصبح معايير عالمية بحكم الأمر الواقع

العبرة في التنفيذ
لن تدخل القواعد حيّز التنفيذ الكامل بانتظار المفاوضات التي تشمل الدول الأعضاء والبرلمان والمفوضية الأوروبية. بعد الإقرار النهائي، ستُعطى الشركات والمؤسّسات فترة سماح للتكيّف تكون غالباً حوالي عامين.
من المؤكّد أنّ من المفترض وضع قوانين، لكنّ العبرة في التنفيذ. هل توقف فرنسا، في إطار الألعاب الأولمبية، إنشاء نظام التعرّف الآلي على الوجوه؟ فالنصّ الذي جرت المصادقة عليه يحظر استخداماً كهذا. على الرغم من أنّ الإطار القانوني لن يكون سارياً قبل تنظيم الأولمبياد، لكنْ التزاماً بمبدأ القانون يجب على فرنسا أن تلتزم به. من الجدير بالذكر أنّ استخدام أنظمة التعرّف على الوجوه تعارضه جمعيات حماية خصوصية الأفراد في فرنسا.
استطراداً، فإنّ أنظمة التعرُّف البيومتري موجودة بالفعل في كلّ مكان في أوروبا، فهل تلتزم الدول إيقافها والتخلّي عنها؟ ومثلاً نظام المراقبة في مطار بروكسل ما زال موجوداً على الرغم من عدم وجود إطار قانوني يسمح بذلك. المراقبة عامّة، لكن دائماً ما تظهر الحجّة الأمنية، ويبدو أنّها تسمح بأيّ شيء وكلّ شيء. وهذا ما يُغري السلطات العامّة من خلال الوعد بحلول للمشاكل الأمنيّة وذكر كلمة “استثناء” في التشريعات.

إقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي: الإنسان “عبد” للتقنيّات؟

قد يتطلّب الأمر أيضاً من شركات الذكاء الصناعي التوليدية الكشف عن الموادّ المحميّة بحقوق الطبع والنشر التي استُخدمت في تدريب النموذج، والتي يقول بعض الخبراء إنّها مهمّة شبه مستحيلة نظراً للكمّ الهائل من البيانات المستخدمة في نماذج متعدّدة اللغات. ولأنّ خلف كلّ خوارزمية أشخاصاً، تنشأ مسألة الملكية الفكرية بشكلٍ طبيعي عندما نتحدّث عن الذكاء الصناعي.
لقد أدّت هذه اللوائح إلى تبنّي بعض المؤسّسات العالمية خطاباً مفتوحاً وقّع عليه أكثر من 160 مسؤولاً تنفيذياً لشركات عالمية تتبنّى فكرة أنّ تشريع الذكاء الصناعي المقترح في الاتحاد الأوروبي سيهدّد التنافسية ويضرّ بالسيادة التكنولوجية لأوروبا.
من منظورٍ موازٍ، يجب إخبار الناس بأنّ هناك مخاطر مرتبطة بالذكاء الصناعي حتى يتمكّنوا من تثقيف أنفسهم والتعامل مع التقنيات بحذر العارف والملمّ بها. فالتعليم الموجّه على هذه التقنيات ضروري، خاصةً مع المعلّمين الذين يمكنهم تنبيه الأطفال.

مواضيع ذات صلة

لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على البابا فرنسيس؟

أطلقت إسرائيل حملة إعلامية على نطاق عالمي ضدّ البابا فرنسيس. تقوم الحملة على اتّهام البابا باللاساميّة وبالخروج عن المبادئ التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني في…

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…