تكلّم المبعوث الرئاسي الفرنسي الخاص إلى لبنان، جان إيف لودريان، في زيارته الأخيرة للبنان، بثلاث لهجاتٍ فرنسية في ثلاثة مواقف، وهي:
1- اللهجة الفرنسية الرسمية، لغته الأمّ التي ينطق بها.
2- لهجة العاطفة والمودّة الفرنسيّتين اتجاه لبنان، مع الحرص الشديد على الدولة بحكم العلاقات التاريخية.
3- لهجة محاولة فرنسا أن تحتفظ دائماً بأسبقية الخطوة الأولى في لبنان، إزاء أيّ مبادرة، بالتنسيق مع المجتمع الدولي، باعتبار أنّ لبنان بوّابة فرنسا الدائمة والوحيدة في هذه المنطقة.
نطق لودريان بلسان الخماسية الصريح. عبّر عن مسلّمات المجتمع الدولي. وكانت طروحاته وأفكاره، وحتى طريقة إدارته النقاش في الجلسات مع القادة اللبنانيين، “خماسية الهوى”
الأسبقيّة الأمنيّة
حملت الجولة الرابعة من حكاية السندباد الفرنسي تغييرات في الأسلوب والتكتيك، من دون تغيير جدّيّ في الجوهر:
– تكتيكيّاً: وُضعت المساعي السياسية والدولية في خدمة الأمن والاستقرار اللبنانيَّين. وهي انعكاسة مباشرة لوقائع الأحداث الجارية، التي فرضت نفسها. تُعتبر استجابة سريعة للحرب الدائرة في فلسطين، والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. تزامنت مع غليان الحدود الجنوبية اللبنانية مع فلسطين المحتلّة، وتحرّكها ضمن ما يعرف بقواعد الاشتباك، ذات الرقعة الجغرافية غير المحصورة.
– جوهرياً: هدف اللجنة الخماسية الجوهري والأساسي هو مساعدة لبنان في أزمتَيْه السياسية والاقتصادية ومعاونته على تخطّيهما. لهذا تركّزت الخطوات الدولية على محاولة عزل لبنان عن الجبهة المفتوحة في فلسطين، بالحدّ الممكن، وحثّه على عدم الانغماس في الحرب الكبرى. هذا وتقتنع الخماسية بأنّ الطريقة الوحيدة لإبعاد لبنان هي في تثبيت استقراره الأمني بالدرجة الأولى، من خلال عدم تعريض المؤسسة الأمنية العسكرية، أي الجيش اللبناني، لأيّ خلل. يتظهّر ذلك ثانياً عبر تقوية المناعة السياسية المحلية وحماية الوحدة المجتمعية الشاملة في داخله. وهذا لن يتحقّق إلا من خلال التطبيق السريع للاستحقاقات الدستورية الرئيسية في البلاد، وأهمّها انتخاب رئيس الجمهورية، وتشكيل الحكومة والمباشرة في ورشة الإصلاح.
نطق لودريان بلسان الخماسية الصريح. عبّر عن مسلّمات المجتمع الدولي. وكانت طروحاته وأفكاره، وحتى طريقة إدارته النقاش في الجلسات مع القادة اللبنانيين، “خماسية الهوى”.
1701… وليس 1559
لكن بقيت الأهداف النهائية سياسية في الأصل والأفضلية، حتى لو تقدّمت الأهمية الأمنيّة في الظاهر. فلا يستطيع لبنان بدونها العبور إلى مرحلة الحلّ السياسي المنشود. ويتمّ التعامل مع هذا الموضوع بخطوات براغماتية شاملة دقيقة وبطيئة وقاتلة جداً، ومن أبرزها:
1- تقسيم مراحل الحلّ بحسب الظروف، مع إرجاء حلّ الأزمة اللبنانية دفعة واحدة حالياً. تجلّت الأسبقية للمنطقة الجنوبية وجبهتها المهزوزة أمنياً. لا توجد مناقشة خاصة وطارئة للقرار 1559 حالياً، على الرغم من أنّه أساسي بالنسبة إلى فرنسا والغرب، بل ومعبر إلزامي لقيام دولة القانون والمؤسّسات وتطبيق الطائف، إذ يوجد تأكيد دائم من قبل الخماسية على ضرورة تطبيق لبنان القرارات والمواثيق الدولية والالتزام بها، وهو ما نصّ عليه البيان الثلاثي العام الماضي في نيويورك (السعودية وأميركا وفرنسا). لكنّ العمل على تطبيق هذه القرارات مؤجّل إلى حين إتمام تسوية شاملة دولية وإقليمية ومحلية.
تعتمد الإدارة الفرنسية مع الفريق الخماسي طريقة الحلّ بالجراحة المبضعيّة التي تنتج الحلول النافعة بأقلّ الأضرار الممكنة. تدرك حقيقة المواقف المحلية والإقليمية من القرار 1559
2- العمل على إنهاء الاشتباك الحدودي في الجنوب اللبناني، والحرص على عدم اندلاع الحرب بين لبنان والكيان الإسرائيلي.
3- السعي لإعادة الحياة إلى القرار 1701 عبر احترامه وتطبيقه، وخاصة من قبل الكيان الإسرائيلي. إذ تعتبر “الخماسية” أنّ “قواعد الاشتباك” الجديدة انتهاك للقرار 1701، وأنّ الحلّ لحمايته هو حماية الجيش أوّلاً، باعتباره القوة التمثيلية الوحيدة والمتوازنة التي تحظى بالثقة لبنانياً ودولياً وعربياً، ومن هنا نصح لودريان بالتمديد لقائد الجيش.
خوف فرنسيّ من انقسامات مجلس الأمن
تعتمد الإدارة الفرنسية مع الفريق الخماسي طريقة الحلّ بالجراحة المبضعيّة التي تنتج الحلول النافعة بأقلّ الأضرار الممكنة. وتدرك حقيقة المواقف المحلية والإقليمية من القرار 1559. تحاول قدر الإمكان إبعاد الساحة اللبنانية الداخلية عن مناخ الاستفزازات والتشنّجات والاختلافات الشرسة، التي ستكون إذا وقعت حجر عثرة أمام أيّ حلّ نهائي. لذا لم تدعُ إلى منطقة عازلة، إنّما إلى أن يكون الجنوب اللبناني في منأى تامّ ومعزول عن الحرب المستعرة في قطاع غزة.
لم تطلب فرنسا تعديل القرار 1701، بل تطبيقه بالكامل. دعت إلى تكريسه واحترامه. لم تقذف أيضاً القرار 1559 إلى الواجهة مثل كرة النار. فهو ليس الأولوية الآن وفي هذه المرحلة. لكنّه قرار صادر وعلى لبنان الالتزام به عاجلاً أو آجلا خدمة له. وسيتمّ العمل على تطبيقه ريثما تتوافر بيئته الحاضنة، بتعاون دولي وإقليمي ومحلّي، بما يتلاءم مع الاستقرار اللبناني وطبيعة استمرار الدولة والمؤسّسات.
يعبّر مصدر رئاسي فرنسي لـ”أساس” عن خوفه الشديد من الانقسامات الكبيرة داخل مجلس الأمن الدولي: “ستؤدّي إلى عرقلة وتجميد القرارات، وستحدّ من حركة بعثات الأمم المتحدة على الأرض. وسيتجلّى ذلك في عدم قدرتها على تحقيق الهدف السامي لها، المتمثّل في حفظ السلام وابتكار الحلول السياسية المقوننة بحكم القرارات والمواثيق الدولية”. وهو ما سيحوّل هذه المؤسسة إلى ضامن لوقف إطلاق النار في حدّ أقصى، بدلاً من صانعٍ للسلام.
خطر تحول لبنان الى جبهة حتمية
تكمن الخطورة أيضاً في امكانية تحول لبنان من دولة مساندة ومؤازرة الى جبهة حتمية بالكامل. وذلك بعكس القوانين العربية التي تنص على انه دولة مساندة ومؤازرة في الصراع العربي الاسرائيلي. حيث تنص الفقرة الثانية من النقطة الثامنة من القرار 1701 على ” اتخاذ ترتيبات أمنية لمنع استئناف الأعمال القتالية، بما في ذلك إنشاء منطقة بين الخط الأزرق، ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة بخلاف، ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، وفق ما أذنت به الفقرة 11 من القرار 1701، وينشر في هذه المنطقة”.
إقرأ أيضاً: ماكرون وبيروت: بابٌ إعلاميّ… ليهرب من مآزقه
لا يوجد بديل في عملية انجاح هذه المسودة الا من خلال التعاون الوثيق مع الدولة اللبنانية وسلطاتها التنفيذية ( الحكومة ) الشريك الأساسي للأمم المتحدة في تنفيذ القرارات الدولية. يستلزم ذلك الدعم الكلي للمؤسسسة الأمنية اللبنانية الوحيدة والرسمية المولجة التعاون مع القوات الدولية وهي مؤسسة الجيش اللبناني. حيث ينظر الى الجيش اللبناني.
تعول الخماسية على دور كبير لمؤسسة الجيش اللبناني. حيث تشكل المؤسسة القائمة الضمانة الشافية للدولة اللبنانية. هذا ويلعب الجيش اللبناني دوراً في بناء الهيكل المجتمعي اللبناني المؤسس والحاضن للدولة. اذ تؤدي جهود الجيش اللبناني مع ما تنص عليه المواد الدستورية القانونية واتفاق الطائف، إضافة إلى التطبيق الصحيح للقرارات الدولية، إلى تكريس منطق الدولة الصالحة، مع بسط الحكم والسيادة على كامل الأراضي اللبنانية وحصر قرار السلم والحرب والسلاح بيد مؤسسات الدولة والجيش اللبناني.
تنطلق هذه الإجراءات من قاعدة ضرورية وقصوى، هي عدم تعريض هذه المؤسسة لأي خضة على مستوى القيادة والإمرة والإنتظام والإمتثال. لذا أتى موقف خلية الأزمة الخماسية والإدارة الفرنسية والمجتمع الدولي في تقديم كل الدعم لاستمرارية هذه المؤسسة. باتت تمثل وحدها الضمانة الوحيدة والمعبر الوحيد والذي سوف يؤدي الى بلوغ الاستحقاقات الدستورية الشاملة من انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، وهي الشريكة الأساسية لتطبيق الدستور اللبناني والقرارات الدولية وبسط السيادة على كامل التراب اللبناني.