ماكرون وبيروت: بابٌ إعلاميّ… ليهرب من مآزقه

مدة القراءة 7 د


من حضر أيّ اجتماع عقده المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان في زيارته الأخيرة للبنان استنتج بسهولة أنّ السياسي الفرنسي الاشتراكي العريق لا يحمل للّبنانيين جديداً يستحقّ الزيارة المفاجئة التي قام بها من خارج أيّ سياق. سعى الرجل إلى إقناع البلد بأنّه لا يأتي ممثّلاً باريس فقط، بل إنّه يعكس وجهة نظر اللجنة الخماسية المؤلّفة إلى جانب فرنسا من السعودية ومصر وقطر والولايات المتحدة. ومع ذلك لم يجد اللبنانيون ما يحمله وخماسيّته للبنان.

لقد صاحبت زيارة لودريان جلبة في لبنان بشأن ما هو داخلي يتعلّق بملفّ انتخاب رئيس للجمهورية وآخر مرتبط بالجدل بشأن تمديد ولاية قائد الجيش جوزف عون، وثالث ينهل من ضجيج إسرائيلي أميركي بشأن تنفيذ لبنان للقرار الأممي رقم 1701. في ثنايا هذا الضجيج انسحاب قوات الحزب من جنوب لبنان والالتزام بوجود الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل التابعة للأمم المتحدة فقط من دون أيّ وجود مسلّح آخر. ومع ذلك فإنّ من التقى لودريان لاحظ أنّ الرجل يمرّ على كلّ الملفّات ناصحاً وكأنّها عذر يبرّر جولته الجديدة في لبنان.

من حضر أيّ اجتماع عقده المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان في زيارته الأخيرة للبنان استنتج بسهولة أنّ السياسي الفرنسي الاشتراكي العريق لا يحمل للّبنانيين جديداً يستحقّ الزيارة المفاجئة التي قام بها من خارج أيّ سياق

التقاطع السياسيّ مع السعوديّة

لم تكن صدفة أنّ الرجل، الذي تمّ تعيينه في تموز الماضي رئيساً لوكالة التنمية الفرنسية في العلا (أفالولا) المسؤولة عن التعاون مع السلطات السعودية لتطوير السياحة والثقافة في منطقة العُلا، يحتفظ إلى جانب هذه المهمّة في السعودية بمهمّته كمبعوث للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ملفّ لبنان. فتقاطع المهمّتين سياسي بامتياز يعبّر عن مسعى فرنسي إلى بناء أيّ مقاربة حلّ في لبنان بالتشاور والتحالف مع المملكة العربية السعودية.

لكنّ الصدفة تذهب أكثر من ذلك وعلى نحو بارز في توقيت تجواله في لبنان، فيما الرئيس الفرنسي يجول في منطقة الخليج العربي. وإذا ما أراد ماكرون تأكيد حضوره في الشرق الاوسط مع مضيفيه الخليجيين من خلال انهماك مبعوثة بالأزمة في لبنان، فإنّ المناورة تفضح أيضاً حجم التصدّع في سياسة فرنسا في الشرق الأوسط ووصولها إلى درك أثار ما يشبه “التمرّد” داخل وزارة الخارجية الفرنسية.

ويدور ما هو أكثر من همس في أروقة الدبلوماسية الفرنسية بشأن الفشل الذي أصاب السياسة الخارجية لباريس. ويعود هذا الفشل إلى سبب هيكليّ يتعلّق بضمور صلاحيات وزارة الخارجية الفرنسية التي تقودها كاترين كولونا مقابل تعاظم وظيفة ومهامّ خلايا الإليزيه الممسكة بملفّات أساسية في علاقات فرنسا الخارجية. وقد أثار الأمر صدور الرسالة الجماعية التي وقّع عليها مجموعة من السفراء والدبلوماسيين الفرنسيين الذين حذّروا من تدهور مكانة فرنسا في الشرق الأوسط، وخصوصاً في العالم العربي.

انتكاسة فرنسا عربيّاً

لئن تمثّل الانتكاسة في سياسة فرنسا العربية مجموعة من الملفّات ليس أوّلها ملفّ لبنان ولا آخرها ملفّ العلاقة مع دول شمال إفريقيا، غير أنّ الموقف الفرنسي من الحرب التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة بعد يوم على عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي هو نقطة أفاضت الكأس، إذ أظهر ركاكة للموقف الفرنسي وانزياحاً عن سياسة فرنسا العربية التي أرساها الرئيس الراحل الجنرال شارل ديغول والتي ظلّت ثابتة مستقرّة أيّاً كان الرئيس الذي تبوّأ رئاسة البلاد، سواء من اليمين أو اليسار.

تميّزت فرنسا بسياسة “متمرّدة” عن تلك التي تعتمدها الولايات المتحدة ليس فقط في مقاربة الصراع العربي الإسرائيلي، بل أيضاً في رفض المشاركة في الحرب ضدّ العراق عام 2003 التي شنّها تحالف بقيادة واشنطن. انتهجت السياسة الخارجية الفرنسية (الديغوليّة) موقفاً معتدلاً يسعى إلى الحياد متفهّماً الحقوق الفلسطينية. بادرت باريس في عهد الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران إلى استقبال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في وقت كانت واشنطن وعواصم أوروبية تدرجه على لوائح الإرهاب. ومن تميّز فرنسا في ملفّ الشرق الأوسط صنعت باريس مكانة وتيّاراً لها داخل الاتحاد الأوروبي.

صحيح أنّ ماكرون اتّخذ موقفاً اتّخذه كلّ زعماء الدول الغربية لجهة إدانة عملية كتائب القسام واعتبارها عملاً إرهابياً والتعبير عن دعم إسرائيل وتأييد “حقّها في الدفاع عن النفس”، لكنّ الرجل تطوّع على نحو لم يسبقه إليه نظراؤه في اقتراح الاستعانة بالتحالف الدولي ضدّ داعش ليكون شريكاً في الحملة الإسرائيلية ضدّ حماس. ولئن لم تجد دعوة ماكرون صدى إيجابياً في المنطقة العربية ولدى الدول العربية المشاركة في ذلك التحالف، إلا أنّها لم تجد أيضاً أيّ ترحيب من قبل المنظومة الغربية على اختلاف دولها.

الواضح أنّ فرنسا فقدت تميّزها التاريخي لدى الدول العربية، على الأقلّ وفق ما خطّته رسالة السفراء والدبلوماسيين للرئيس ماكرون، إلى درجة إلغاء قمّة بغداد السنوية التي عملت فرنسا وبجهود من ماكرون نفسه على رعايتها تحت عنوان “قمّة بغداد للتعاون والشراكة” منذ عام 2021.

تميّزت فرنسا بسياسة “متمرّدة” عن تلك التي تعتمدها الولايات المتحدة ليس فقط في مقاربة الصراع العربي الإسرائيلي، بل أيضاً في رفض المشاركة في الحرب ضدّ العراق عام 2003 التي شنّها تحالف بقيادة واشنطن

الواضح أنّ جدلاً مؤسّساتياً داخلياً قد قاد ماكرون إلى الانقلاب على نفسه وعلى مواقفه بشأن الحرب في غزة متصدّراً تحوّلاً يطالب بوقف استهداف المدنيين وينتقد الحملة العسكرية التي تقوم بها إسرائيل ضدّ القطاع. ومع ذلك فإنّ الموقف الفرنسي، شأنه شأن الموقف الأميركي الغربي، لم يرقَ إلى مستوى طلب وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، بل بقي يردّد كما بقيّة العواصم الغربية مناشدةً خجولةً للتخفيف من وقع هذه الحرب على المدنيين في القطاع. وبدا في إعلان ماكرون أنّ “اجتثاث حماس سيستغرق 10 سنوات” اعتراضٌ على المدّة وليس على الفكرة الإسرائيلية بحدّ ذاتها.

لودريان “اللبنانيّ”.. تشاطر بلا جدوى

أدلى لودريان نفسه قبل أن يصل إلى لبنان بدلوه بشأن الحرب في غزة. أظهر تفهّماً للردّ الإسرائيلي شرط أن يكون “دقيقاً”. ذكّر أنّه حين تعرّضت فرنسا لهجوم إرهابي استهدف مسرح “البتكلان” في باريس في 13 تشرين الثاني 2015 كان هو يشغل منصب وزير الدفاع. وقال إنّه حين أظهرت التحقيقات أنّ مصدر الهجوم كان الرقّة في سوريا “قصفنا الرقّة”، ناصحاً إسرائيل بأن “يكون القصف دقيقاً”.

لكنّ المسألة لا تتعلّق بالموقف من حرب غزة الذي حرم فرنسا من مناسبة تميّز في دعم إسرائيل، بل بقدرة باريس على تسجيل اختراقات داخل العالم العربي مقارنة بتلك التي حقّقتها واشنطن وبكين وتسعى إليها موسكو. ثمّ إنّ التبجّح بالقدرة على التحدّث مع العرب وإيران تشاطر لم يثبت جدواه ولم يوفّر رشاقة لفرنسا لا تتمتّع بها دول أخرى، ولا يبدو أنّها وفّرت للرئيس الفرنسي في جولته الخليجية أيّ فارق قابل للصرف. حتى إنّ استخفافاً من قبل الأطرف المعنية واكب إعلانه التوجّه إلى قطر في محاولة “للعمل على هدنة جديدة بين إسرائيل وحماس قد تفضي إلى وقف إطلاق النار”. ولسان حال المستخفّين يقول: ماذا تملك للعب هذا الدور؟

إقرأ أيضاً: انحسار الإسلاميّين واستمرار “الإسلاموفوبيا”

استغلّ ماكرون وجود مبعوثه في لبنان ليزعم مناقشة المسألة اللبنانية مع مضيفيه، غير أنّ اللبنانيين أنفسهم عبّروا عن عدم تعويلهم على فرنسا ومبعوثها لحلحلة العقد. وما وُصف بـ”اللقاء العاصف” الذي استغرق 7 دقائق مع جبران باسيل مثال عن تدهور هيبة فرنسا لدى الصفّ السياسي اللبناني. والواضح أنّ لودريان لم يأتِ ليحقّق نتائج بل بمهمّة علاقات عامة قد لا تندرج في أيّ سياق في عزّ الحرب المشتعلة في غزة التي يخشى اللبنانيون من امتداد نيرانها إلى بلادهم.

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…