يحلو لأحد أبرز حلفاء الحزب أن يردّد مقولة موروثة، يصف بها حليفه هذا وناسه، بأنّهم “أشجع من قاوم. وأسوأ من حكم!”.
قبل أن يضيف شارحاً أنّ هذا هو في العمق، جوهر العلاقة التي تجمع الطرفين. فهم بحاجة إليه، كي لا يفشلوا. وهو بحاجة إليهم كي يحكم.
تبدو هذه الجدلية بداية ممكنة للبحث عن قراءة مقابلة لقراءة خصوم الحزب، بأن “بلى هزمنا. والحلّ في ترك الحزب يحكم وحده”
********************************
بداية على المستوى الدولي، أميركا تتراجع والديمقراطية كنموذج عالمي ينحسر؟
حسناً، أين الخبر هنا؟ أو أين الخطر على لبنان؟
صحيح أنّ بعضنا يعيش منذ عقود هذه القناعة الذاتية بأنّنا جزء أساسي من عالم القيم الديمقراطية والليبرالية والحداثة والحرّية… حتى آخر معزوفة عظات التيليفانجيليست، أو مبشّري الشاشات البلهاء غرباً. لكن أما آن الأوان للبتر مع هذا الوهم؟
فلنستعرض تأثير أميركا علينا طوال نصف قرن على الأقلّ.
للمصادفة أمس بالذات غاب كيسنجر. قصة عرضه ترحيل المسيحيين من لبنان على بواخر، أسطورة. من نسج خيالات بعض دونكيشوتيّي هذا الجبل. فيما الصحيح الموثّق في تدوينات دين براون، أنّه أرسله كيسنجر إلى بيروت لتدبير أيّ حلّ يريح رأس واشنطن. قال له بصراحة: “أولويّتي الآن إنهاء ملف فيتنام. اخترع أيّ شيء لإطفاء ذلك الإزعاج اللبناني”. وفيما براون يجول على إقطاعيّي لبنان السبعينيات وأبواتهم الفلسطينيين، اتّصل كيسنجر بموفده ليقول له: “خلص خلص. وجدتها. سأسلّم هذا المكان المزعج لحافظ الأسد”.
اليوم، على الرغم من كلّ كلامنا الرومانسي عن عالم الغرب المثالي، ندرك جميعاً أنّنا نعيش حالة ذعر من بَيعة أميركية جديدة لنا، لمصلحة طهران هذه المرّة
وهكذا كان.
بعد 15 سنة كرّر الأميركيون الأمر نفسه مع حرب الخليج الأولى. بل ذهبوا أبعد. قالوا للأسد: أدخل واحتلّه كلّه بدبّاباتك.
اليوم، على الرغم من كلّ كلامنا الرومانسي عن عالم الغرب المثالي، ندرك جميعاً أنّنا نعيش حالة ذعر من بَيعة أميركية جديدة لنا، لمصلحة طهران هذه المرّة.
بالتالي القول إنّنا هزمنا لأنّ نموذج الديمقراطية العالمية وفق النسق الأميركي، قد هزم، فيه الكثير من المبالغة.
فيما الواقع أنّ ما يفيد لبنان دولياً هو مجرّد قيام نظام عالمي متوازن. لا اختلال فيه ولا اعتلال. واليوم مع صعود بكين و”تنتيع” موسكو البوتينيّة، ومع “يقظات” واشنطن المتتالية، على طريقة فيلم “بيني مارشال” الشهير، يبدو أنّ وضع لبنان أفضل من قبل. بحيث لا نكون تحت رحمة الأميركي. ولا لقمة سائغة لخصومه في منطقتنا أو العالم.
إقليمياً يمكن عرض المعادلة نفسها. إيران تنتصر؟ محورها بات يهيمن ويمارس دور وصاية احتلاليّة في أكثر من عاصمة؟
لكنّها عواصم منكوبة صارت أقرب إلى خراب شامل ودمار عميم. من قال إنّها تحلم بوصاية أو تقدر على لعب أدوار إقليمية؟!
فيما القراءة الفعلية أنّنا أمام توازن إقليمي فعليّ، إزاء دور السعودية الجديدة. هذا كيان يملك مقوّمات دولة مكتملة الصفات. من استضافتها قمّة بايدن إلى قمّة تشي. ومن المونديال الآتي إلى إكسبو 2030. ومن اقتصاد التريليون دولار إلى سوريالية مشاريع البحر الأحمر. وخصوصاً خصوصاً، من محاولات الخروج من عباءة الوهّابية، إلى مساعي الدخول في حداثة جدّية… وهو كلام نسوقه، على الرغم من إنكار وشتائم كثيرين.
أيّاً كان موقف المشككين من هذه الدولة ومن حكمها وحكّامها، لا بدّ من الاعتراف أنّها ذاهبة إلى لعب دور توازن جدّي في المنطقة.
أكثر من ذلك وأهمّ، ما هي الإشكاليات الإقليمية التي فرضت تحدّيات وجودية على الكيان اللبناني منذ 80 عاماً؟ هناك إشكاليّتان: قيام إسرائيل سنة 1948، الذي فجّر كلّ المنطقة. والثورة الخمينية سنة 1979، التي فرضت صراعاً مذهبياً، هو معضلتنا التي نبحث فيها أصلاً، نتاج من نتاجاته.
فيما السعودية في اتجاهها التصاعدي والتصالحي، تبدو ذاهبة إلى حلّ ما مع الإشكاليّتين… وهذا ما يحتاج إلى كلام تفصيليّ لاحقاً.
لكنّ الخلاصة أنّ ثمّة توازناً ما يعود تدريجياً إلى الإقليم والمنطقة. وهو لا بدّ أن ينعكس إيجاباً على لبنان.
يبقى اعتبار خصوم الحزب أنّهم قد هزموا داخلياً. وأنّ الحزب هو المستفيد الوحيد من شرذمتهم وتفتّتهم… لكنّ هذه هزيمة الأشخاص. لا هزيمة المشروع. وسببها كفاءة ونوعية وربّما نزاهة من تسلّم المسؤولية. لا صوابية ومشروعية وأحقّية الفكرة اللبنانية في جوهرها الثنائي: حرّية وتعدّدية معاً.
ثمّ هنا أيضاً، لا بدّ من افتراض حسن النيّة لدى الآخر، حتى ثبوت العكس. فمن قال إنّ الحزب لا يريد هذا اللبنان بالذات؟!
ومن قال إنّ لدى الحزب قدراً من الغباء السياسي، الذي يدفع به نحو المغامرة والمقامرة بهذا اللبنان؟
هو من عايش التجربة البعثية في محاولتها إلغاء هذا النموذج اللبناني. وهو من عرف كوارثها وعواقبها ومآسيها.
من ينسى صوت السيّد وسحنة وجهه، وهو يتكلّم ذات خطاب متلفز، عن اعتقال أحد عناصر الحزب لدى المخابرات السورية، وخضوعه للتعذيب، حين قال ببوحٍ عفويّ صادق كامل: “وما أدراكم ما التعذيب العنجريّ؟!”.
فكيف لمن عرف تلك التجارب وعاناها ودفع أثمانها، أفلا يكون مؤمناً بعمق نموذج الحرّية والتعدّدية في لبنان؟
ثمّ إنّ هؤلاء ناسٌ يقدّمون أبناءهم شهداء. حتى ولو اتّهمناهم بأنّ قرارهم إيراني. وأنّ مرجعيّتهم إيرانية. وأنّ سلاحهم ومالهم وفكرهم ووليَّهم… من إيران.
لكنّ أبناءهم يستشهدون. وفي لحظة الحسم، إذا ما جاءت، بين مصلحة إيران ومصلحة لبنان، هل يمكن أن ينسوا دماء أبنائهم؟ ماذا يقول عندها السيّد لروح هادي؟ أو ماذا يقول أبو حسن لنجله عبّاس؟!
يستحيل على هؤلاء أن ينقلبوا على دماء أبنائهم، لحساب أيّ مصلحة خارجية كانت. ولو كانت مصلحة حاكم إيران.
أمّا الرهان على القوّة لحكم لبنان، فهذا اتّهام آخر للحزب بغباء سياسي، يبدو بعيداً عنه كلّ البعد.
فأيضاً وتكراراً ها هي تجربة عنجر ماثلة أمامه وأمامنا. يومها، وفي لحظة تقاطع مذهلة، من انهيار لبناني بعد حروب تدميرنا الذاتية عامَي 1989 – 1990، وصفقة أميركية سورية كاملة ومباشرة، واندثار موسكو السوفيتية كلّياً… في تلك المشهدية بالذات، كم صمدت وصاية الأسد على لبنان؟ أقلّ من سنتين. انفجرت وسقطت سنة 1992. وهو ما اضطرّه إلى اللجوء إلى السعودية وإلى رفيق الحريري، لمحاولة ترميمها. وهو ما أدخل عنصراً مناقضاً جوهرياً لطبيعة تلك الوصاية، وما انتهى إلى تفجيره ثمّ تفجيرها.
والحزب يدرك ذلك ويعرفه تمام المعرفة. هذا اللبنان يستحيل أن يحكمه طرف. حتى ولو غطّاه العالم كلّه، كما كانت وصاية الأسد. فكيف إذا لم يغطِّه إلا جبران باسيل؟!
أصلاً، ذهاب الحزب إلى تفاهم مار مخايل، على الرغم من كلّ ما قيل فيه، ألم يكن إشارة ميثاقية منه؟ ألم يقصد به قانون إيمان بلبنان وميثاقه وثوابته وتوازناته؟
ومن قال إنّه لا يبحث الآن عن تفاهم جديد؟
فبعدما بات وريث ميشال عون أعجزَ من أن يتفاهم مع محيطه حتى. وفيما سمير جعجع رافض لأيّ تفاهم. لم تكن مصادفة في هذا التوقيت بالذات، أن يعود وفد المجلس الشيعي إلى بكركي. بعد قطيعة طويلة جداً. وليست مصادفة كلّ الكلام عن علاقة الحزب بقائد الجيش.
كأنّ الحزب في ذلك كلّه، يتلمّس شريكاً ميثاقياً جديداً، في بكركي، أو في المؤسسة الوطنية. في انتظار استكمال نصاب الزعامات الوطنية الأخرى.
إقرأ أيضاً: هدنة غزّة تنصّب رئيساً للبنان؟!
تبقى نقطة في الأساس المبدئي، أو حتى الأخلاقي. فمقارنة سلاح الحزب بسلاح أبي عمّار مع اتفاق القاهرة، أو بسلاح الأسد مع الوصاية، لا تجوز. فأبناء الحزب لبنانيون. قبل كثيرين وبعدهم. وهم باقون في لبنان. قبل كثيرين وبعدهم. ليسوا لاجئين يمكن ترحيلهم على بواخر، بظلّ احتلال إسرائيلي. ولا هم محتلّون يمكن إجلاؤهم بقرار أمميّ في لحظة مصالح دولية.
هؤلاء لبنانيون. وعلينا أن نجترح معهم صيغة للحياة ولبقاء البلد بأيّ صيغة كانت.
طبعاً ليس المطلوب تلك المزايدة في تأليه الحزب، كما يفعل بعض ذمّيّي حلفائه الجدد من موتورين أو انتهازيّين.
كما ليس المطلوب تلك المزايدة في شيطنة الحزب واستعدائه المطلق، كما يفعل بعض الموتورين من المقلب الآخر.
يكفي سلاح الموقف. على قاعدة أن ليس لنا ولكم إلا هذا البلد. ومن هنا فلنبدأ البحث.
أمّا الكلمة الأخيرة، فعن الرهان على أن يحكم الحزب ويفشل، لينطلق بعدها الحلّ الفعليّ. يقول أحد المفكّرين العرب: في المجتمعات المتخلّفة، إيّاك والرهان على انتفاضة القعر. ذلك أنّ لبعض المتخلّفين قدرةً مذهلةً على الحفر عميقاً في قاعهم، حتى لا يدركوا ولا ينتفضوا، بل يقبرون أنفسهم وشعوبهم ومجتمعاتهم.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@