سيناريوهات اليوم التالي في غزّة

مدة القراءة 9 د


“صدمة 7 أكتوبر” في غلاف غزة، لم تقتصر ارتداداتها الزلزالية على الرأي العام العالمي، غرباً وشرقاً، في الشمال الصناعي كما في الجنوب النامي، بل وصل رذاذها إلى أروقة السياسة والجيش والاستخبارات، في الولايات المتحدة البلد الذي يُعدّ الأقوى في العالم، والأكثر دعماً لإسرائيل من دون نقاش. وإلى جانب انقسام الجمهور الأميركي بين مؤيّد لإسرائيل وآخر لفلسطين، ثمّة تململ من نوع آخر داخل المؤسّسات الحاكمة، داخل الحزب الديمقراطي، وفي وزارة الخارجية، بسبب سياسة بايدن: “دعه يفعل ما يشاء” تحت عنوان حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس، إضافة إلى الارتباك الظاهر في أبرز المراكز البحثية الأمنية والعسكرية، كالذي حدث في النشرة الصادرة عن مركز مكافحة الإرهاب Combatting Terrorism Center التابع لأكاديمية ويست بوينت West Point، تحت عنوان Sentinel، وهي التي تصدر منذ عام 2007، وتُعنى بمتابعة المنظمات الإرهابية، وبخاصة تنظيما القاعدة والدولة الإسلامية. وكذلك الأمر في مجلة Military Review التي يصدرها الجيش الأميركي منذ عام 1922.

الشيء ونقيضه
تصدر نشرة Sentinel شهرياً، وأحياناً كلّ شهرين. لكنّ العدد ما قبل الأخير، في أيلول الماضي، تضمّن مقالاً رئيسياً، عن خطاب القاعدة وداعش في شأن القضية الفلسطينية وعدم تطابق الأقوال مع الأفعال، فالعمليات القليلة لتنظيم القاعدة ضدّ اليهود وقعت خارج إسرائيل، بعكس العمليات القليلة التي نفّذها تنظيم داعش داخل إسرائيل. واعتبر هذا المقال أنّ هناك خلافاً استراتيجياً محتدماً بين حماس وحركات الجهاد العالمي. وألمح إلى أنّ وجود حماس في قطاع غزة يشكّل عائقاً أمام القاعدة وداعش. وخُتم التقرير باستنتاجات مهمّة، وفيها أنّ أداء المنظمات الجهادية العالمية كان ضعيفاً ضدّ إسرائيل بسبب عدم قدرتها على الحصول على موطئ قدم أيديولوجي وعملياتيّ في مساحة تسود فيها الجهات الفاعلة الأخرى الراسخة، لا سيما حماس. لكن قد تُطلق أحداث أكثر حدّة، مستويات جديدة من التطرّف بين الفلسطينيين، بما في ذلك تبنّي أجندات جهادية عالمية على نطاق أوسع. وحذّر التقرير من أنّ مكوّنات الحكومة الإسرائيلية الأكثر يمينيّة في تاريخ الدولة اليهودية، أثارت توتّرات حادّة بين الإسرائيليين اليهود والعرب، فضلاً عن جيرانهم الفلسطينيين. ومع دخول اليهود والمسلمين في مسار تصادميّ مرّة أخرى، قد تشعر الجهات الجهادية العالمية بفرصة متجدّدة للنجاح حيث فشلت في السابق في الغالب لترجمة أقوالها إلى أفعال.

مصير الحرب الإسرائيلية نصراً أو هزيمةً مرتبط بما ترسم له حكومة إسرائيل من خطط لليوم التالي بعد حماس

لكنّ هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)، أصاب المركز الأميركي لمكافحة الإرهاب بالاضطراب، فما حذّر منه قبل أسابيع من تطرّف الحكومة الإسرائيلية، قد وقع شيء منه، وهو الردّ الحمساويّ غير المسبوق، في حين أنّ السياسة الأميركية بعد 7 تشرين الأول انحازت تماماً إلى إسرائيل. لم يصدر العدد المنتظر لـ Sentinel، في تشرين الأول، بل صدر متأخّراً عدد مزدوج نهاية تشرين الثاني، وفيه مقال عن حركة حماس وهجومها بعنوان الطريق إلى 7 أكتوبر The Road to October، ومقالات أخرى. أمّا افتتاحية العدد، فتضمّنت مبالغة غير متوقّعة، من مركز بحثي رصين، وذلك عندما وصفت هجوم حماس بأنّه “أكبر هجوم إرهابي منذ 11/9، حيث ارتكبت حماس أعمالاً وحشية تضاهي، بل وتتجاوز، أسوأ فظائع الدولة الإسلامية”.
ما هو أسوأ من ذلك، أنّ مجلة الجيش الأميركي، Military Review، نشرت مقالاً للباحث الإسرائيلي عومير دوستري Omer Dostri، في تشرين الثاني، وهو خبير في الاستراتيجية العسكرية والأمن القومي، وباحث في “منتدى الدفاع والأمن الإسرائيلي” (IDSF-Habitonistim)، و”معهد القدس للاستراتيجية والأمن” (JISS). والمقال بعنوان: هجوم حماس في تشرين الأول 2023: نهاية استراتيجية الردع

 Hamas’s October 2023 Attack on Israel The End of the Deterrence Strategy in Gaza.
ومع أنّ المجلة صدّرت المقال بالعبارة التالية: “الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلّف ولا تعكس آراء الجيش الأميركي أو وزارة الدفاع أو أيّ وكالة أخرى تابعة للحكومة الأميركية”، إلا أنّ من المستغرب إشاعة الرؤية الإسرائيلية عن اليوم التالي بعد حماس، وهي تناقض الموقف الرسمي للبيت الأبيض، ويمكن تلخيصه باللاءات الثلاث: “لا لاقتطاع أجزاء من غزة، لا لتهجير الفلسطينيين خارج القطاع، ولا لاستهداف المدنيين”، إضافة إلى نعم كبرى هي: “حلّ الدولتين”. بل إنّ التخوّف ممّا يُضمره نتانياهو لغزة هو ما دفع الإدارة الأميركية إلى تكرار تحذيراتها إلى إسرائيل، بضرورة اللجوء إلى الضربات الجراحية في غزة، والامتناع عن دفع الفلسطينيين إلى النزوح مجدّداً، وقد بات معظم سكان غزّة (2.2 مليون نسمة) مهجّرين داخل القطاع.

أربعة سيناريوهات
مصير الحرب الإسرائيلية نصراً أو هزيمةً مرتبط بما ترسم له حكومة إسرائيل من خطط لليوم التالي بعد حماس. بعبارة أخرى، لن يتحقّق النصر بنظر الإسرائيليين بمجرّد تحقيق النصر العسكري البحت، أو ما يردّده الساسة الإسرائيليون من تدمير البنية التحتية لحماس وتصفية قادتها. بل النصر الحقيقي مشروط بتنفيذ الرؤية المتكاملة لما يلي الحرب من إجراءات سياسية بما يعني تبديل شكل الحكم في غزة بعد القضاء على حكم حركة حماس، بل تغيير شكل القطاع برمّته جغرافياً وديمغرافياً عقب اقتلاع حماس، أو في أقلّ تقدير، بعد كسر شوكة المقاومة. فتعويل حكومة نتانياهو، وأيّ حكومة يمينية أخرى، ليس على الهزيمة الكاملة لحماس بقدر ما هو فرض نظام جديد على القطاع، ولو بقيت فيه فلول حماس والفصائل الأخرى تحت الأرض، بحيث ينتفي أيّ تهديد مستقبلي لإسرائيل ومستوطناتها في الجنوب.

الأساس الذي يعتمده الداعون إلى إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في غزة بحسب دوستري، هو أنّ الاستيلاء على الأراضي يشكّل ضربة أقوى للجماعات الإرهابية الإسلامية المتطرّفة من القضاء على النشطاء الإرهابيين كما على القادة الرفيعي المستوى

وفي هذا الإطار يطرح عومير دوستري أربعة سيناريوهات لليوم التالي:
1- تثبيت الإدارة المحلّية في غزة. يسيطر الجيش الإسرائيلي على القطاع من عدّة أشهر إلى سنتين. وبعد رحيله، سيُسمح لسكّان غزة باختيار قيادتهم ومستقبلهم، وربّما يمهّد الطريق للإدارة المحلية التي لا تنتمي إلى أيّ منظمة إرهابية ولا إلى السلطة الفلسطينية. وفي ظلّ هذا السيناريو، يقسَّم قطاع غزة إلى أربع مناطق حكم ذاتي متميزة، يرأس كلّاً منها سلطةٌ قَبلية بارزة. لكنّ هذا يفتح باب الخلافات ثمّ دخول الفصائل المتطرّفة والمنظمات الإرهابية.
2- إدارة السلطة الفلسطينية في غزة. يُسمح بدخول السلطة الفلسطينية إلى غزة، وإقامة حكم ذاتي لامركزي، من دون قوة عسكرية. لكنّ من المحتمل أن يؤدّي ذلك إلى فقدان السلطة سيطرتها بسبب فسادها وعودة الإسلاميين المتطرّفين إلى الحكم بالنظر إلى تجربة السلطة منذ عام 1993.
3- الانتداب الدولي أو الإقليمي في غزة. هناك توجّه بديل وهو تفويض دولي، بالتعاون مع الأمم المتحدة ودول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، لإقامة إدارة مدنية لمدينة غزة. ويكمن العيب الوحيد في مثل هذا السيناريو في نقاط الضعف المتأصّلة في قوات حفظ السلام وقوة الأمم المتحدة المؤقّتة. وقد اضطرّت هذه القوات إمّا إلى التراجع في مواجهة المنظمات الإرهابية والجهاديين أو أظهرت ضعفها، أو تردّدها في تنفيذ المهامّ الموكلة إليها للحفاظ على السلام والاستقرار.
4- الإدارة العسكرية الإسرائيلية الطويلة الأمد. أمّا الخيار الرابع، فينطوي على تشكيل حكومة عسكرية إسرائيلية في قطاع غزة بجدول زمني غير محدّد، بهدف رعاية قيادة محلية مركزية أو تقسيم المنطقة إلى مناطق تتمتّع بالحكم الذاتي مع قيادة مختلفة في كلّ منطقة. ومن الناحية الأمنية، فإنّ الخيار الأمثل لإسرائيل هو احتلال قطاع غزة وإقامة وجود عسكري دائم. وهذا النهج من شأنه أن يمكّن إسرائيل من منع عودة ظهور منظمات إرهابية جديدة، والحفاظ على موطئ قدم استخباراتي دائم في المنطقة، والحدّ من التحريض المؤسّسي ضدّ إسرائيل والشعب اليهودي في جميع أنحاء غزة، مثلما كان الوضع السياسي والأمني قبل اتفاقيات أوسلو الأولى في عام 1993.

مخطّط النكبة الثانية
لكنّ الباحث الإسرائيلي يقول إنّه بغضّ النظر عن الخيار المختار، من الأربعة التي ذكرها، فربّما تحتاج إسرائيل إلى إنشاء مناطق عازلة كبيرة تمتدّ لعدّة كيلومترات داخل غزة، لتوفير عمق استراتيجي، وتمكين إسرائيل من تنفيذ ردود سريعة على التوغّلات الإرهابية المحتملة في المستقبل. وهذه المناطق العازلة يجب أن تكون مكمّلة لإنشاء مستوطنات إسرائيلية جديدة على الأراضي التي كان يحتلّها الفلسطينيون في السابق على طول الحدود مع إسرائيل، وهو ما يعيد الوضع السياسي إلى طبيعته، كما كانت غزة قبل خطة فكّ الارتباط في آب 2005 التي أدّت إلى نقل المستوطنات اليهودية، وإنشاء قواعد إرهابية لحماس.

إقرأ أيضاً: نتانياهو يقاتل “حلّ الدولتين” لا “حماس” فقط

الأساس الذي يعتمده الداعون إلى إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في غزة بحسب دوستري، هو أنّ الاستيلاء على الأراضي يشكّل ضربة أقوى للجماعات الإرهابية الإسلامية المتطرّفة من القضاء على النشطاء الإرهابيين كما على القادة الرفيعي المستوى. وتتجاوز هذه الضربة بأهمّيتها تدمير المباني والبنية التحتية، ولها وزن أكبر من القبض على السجناء. ويضاف إلى ذلك، ما يسمّيه دوستري بالترحيل الطوعي لمئات الآلاف من الفلسطينيين إلى مصر مع عدم إتاحة خيار للعودة أمامهم. وهو الذي سوف يعزّز إلى حدّ كبير الردع الإسرائيلي، ويبرز سطوته في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
كل هذه السيناريوهات أحلام ستتحوّل إلى كوابيس دبلوماسية عندما يحين وقت الجلوس على طاولة مفاوضات عربية – دولية – إيرانية.. من المبكر جداً الحديث عن ثمارٍ فلسطينية لم يحن بعد وقت آوان نضوجها.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@ 

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…