هنري كيسنجر: أسطورة لا تنتهي بالموت..

مدة القراءة 7 د


حينما تُذكر السّياسة ودهاتُها، تتبادر إلى الأذهان عشرات الأسماء أو ربّما المئات. لكنّ الغالبيّة العُظمى تكاد تُجمِع على اسم وزير الخارجيّة الأميركيّ الأسبق هنري كيسنجر.
فقد تجدُ من يقف ثواني ليتذكّر اسمَ وزير خارجيّة أميركا الحاليّ. ومن ينسى أسماء الذين سبقوه. لكنّ أحداً لا ينسى اسمَ كيسنجر الذي باغته الموت في منزله بعد قرنٍ من حياةٍ رسمَ فيها التّاريخ.
نادرة زمانه في كلّ شيء. حتّى وفاته كانت كذلك. قلّة هُم من يصلون إلى سنّ الـ100، ويندرُ في هذه القلّة من يبقى ذهنه حاضراً، ولسانه طليقاً، وقلمه سيّالاً.
يُفترضُ برجل في عمر كيسنجر أن يكون اعتزَلَ المكتبَ والهاتف وأن يستقيلَ من مُتابعة أدقّ تفاصيل اليوميّات.
لم تخلُ الصّحافة الأميركيّة والعالميّة في الأعوام الأخيرة من مقالاتٍ تُعبّر عن صدمتها لأنّه لم يمُت بعد قرنٍ من الزّمن.
بقيَ كيسنجر حتّى أيّامه الأخيرة ينظّر في السّياسة الخارجيّة، ويتوقّع ويُحلّل ويُعطي رأياً يُسارع الجميع إلى قراءته أو سماعه. فالمناصب بحدّ ذاتها لا تصنع الأساطير، لكنّها بمساعدة الظّروف المُصاحبة لها قد تصنع التّاريخ. وهذا ما حصلَ مع كيسنجر الذي لازم لقب “الدّاهية” اسمه.
لا يتّفق النّاس على حبّه أو بغضه. لكنّهم يتّفقون على “الهالة” التي أحاطت باسم كيسنجر منذ سبعينيّات القرن الماضي، ولم تنتهِ بخروجه من دوائر القرار كما هو حال أكثر أقرانه.

كان كيسنجر صاحب الرأي المؤثّر في السياسة الخارجية إبّان إدارتَي الرئيسَيْن الجمهوريَّين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد بين 1969 و1977

هو “سيّد اللعبة”، بحسب ما سمّاه مساعد وزير الخارجيّة في عهد بيل كلينتون والسّفير الأميركيّ الأسبق في إسرائيل مارتن إنديك في عنوان كتابه.
لاعبَ الاتحادَ السّوفيتيّ في كلّ السّاحات المُمكنة وغير المُمكنة. وكانَ نجم الحرب الباردة في “عصرها الذهبي”. منعَ حروباً وأشعل أخرى.
وقام بأدوارٍ تُشبه موجة السياسات التي أعادت رسم العالم بأسره بعد “الحروب النابليونية الكبرى”. لا يُبالغ المرء إن شبّهه بفحول السياسة في أوروبا عقب الثورة الفرنسية، مثل النمساوي كليمنس فون مترنيش والفرنسي شارل موريس تاليران، اللذين قادا أوروبا نحوَ السّلام في ظلّ طموحات نابليون التوسّعية. فقد أثّرا بكيسنجر حتّى ألّف فيهما كتابه “استعادة العالم”.
زارَ الصّين مرّاتٍ ومرّاتٍ. تكاد بعددها توازي عدّادَ عمره. أبدَع في التّقارب معها. ولا تزال مُفردات “دبلوماسيّة البينغ بونغ” هي الحاكمة في علاقة واشنطن وبكّين حتّى اليوم.
صدَمَ العالم حين جمَع الزّعيم الشّيوعيّ ماو تسي تونغ بالرّئيس ريتشارد نيكسون، رئيس “الإمبرياليّة الأميركيّة”، التي وصفها ماو يوماً بأنّها “نمرٌ من ورق”، في أدقّ لحظات الحرب الباردة بين بلاده والسّوفيت.
خطواته نحو الصين قسمت المعسكر الاشتراكي. فانتقلت المنافسة إلى داخل “البيت الشيوعي”، وصار الشيوعيون يتنافسون بين “الماويّة” و”الماركسية – اللينينيّة”، بدلاً من “مقارعة الإمبريالية”.
عايش ثورات الستّينيات في القرن الـ20. ورسمَ أدواراً مفصليّة في “حرب فيتنام” ومفاوضات الانسحاب منها. حصل في مفاوضاته المضنية مع الفيتناميين، والتي امتدت 4 سنوات، على شروط يمكن وصفها بالحسنة مقارنة بالوضع العسكري الأميركي في فيتنام في السنة الرابعة.

أكثر ما يذكر العرب عنه هو دوره في “حرب أكتوبر” 1973 ومفاوضات ما بعدها. إذ استطاع أن يدير دفّتها السياسية بالشراكة مع الرئيس أنور السادات وتثبيت واقعها كحرب “تحريك” لا “تحرير”. وفي الوقت عينه كان الوحيد ربّما الذي فهم على حافظ الأسد الذي يتحدّث إيماءً لا صراحةً.
جالس حافظ الأسد لساعاتٍ وساعاتٍ، حتّى استأذنَ دخول الحمّام غير مرّة، كما يذكر ذلك باتريك سيل في كتابه “حافظ الأسد والصّراع على الشّرق الأوسط”. فكلا الرّجليْن يحترفان التفاوض الطّويل والمُتعِب. راهنَ كيسنجر على تعبِ الأسد الأب، وكذلك راهن الأخير على تعب جليسه الأميركيّ.
لم تذهب الجلسات المُطوّلة والجولات المكّوكيّة في عاصمة بني أميّة سُدىً. فهم الدّبلوماسيّ الأميركيّ أنّ حافظ الأسد لا يريد توقيع اتّفاق سلام في الأفق المنظور حينذاك لأسبابه الخاصة، لكنّه يريد السّلام ذاته. فحقّقا اتفاقاً صغيراً، لكنّه يعادل “سلاماً كبيراً”. وهو اتفاق فصل القوّات في الجولان. تُعبّر عن ذلك الفقرة الثّانية من الاتفاق: “الاتفاقية ليست اتفاقية سلام، بل هي خطوة نحو سلام عادل ودائم”.
لا يزال اتفاق الأسد – كيسنجر حيّاً حتى الآن، على الرغم من الخروقات القليلة في الجولان. ولهُ أن يفخَر بأنّه كان يفهم ما يريده ولا يريده حافظ الأسد.

يُفترضُ برجل في عمر كيسنجر أن يكون اعتزَلَ المكتبَ والهاتف وأن يستقيلَ من مُتابعة أدقّ تفاصيل اليوميّات

لعبَ على حبال التّواصل بين غولدا مائير وأنور السّادات. رسمَ كيسنجر بدهائه مفصلَ التّاريخ عبر اتفاق “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل، الذي بدأ بمُحادثات “الكيلو 101” بين القاهرة وتل أبيب لتحديد خطوط وقف إطلاق النّار.
نجاحه بين القاهرة وتل أبيب تُوّج بهبوط طائرة الرئيس السادات على أرض مطار بن غوريون، وإلقائه خطابه الشهير على منبر الكنيست الإسرائيلي. ولم يكتفِ كيسنجر بهذا الحدّ، إذ نجح في إخراج السوفيت من مصر، ولم ينجح في إبعاد حافظ الأسد عنهم.
لعبَ بالشّرق الأوسط كلوحة شطرنج. يعرفُ متّى يُحرّك “الجنديّ” إلى الأمام، ومتى يُحرّك “الوزير” في كلّ الاتجاهات.
الدّاهية ابن العائلة اليهوديّة المولود في ألمانيا قبل 100 سنة من اليوم. هربوا جميعاً من النّازيّة إلى أميركا، ففتح الهروب أمام ابنهم “هنري” أبواب التّاريخ ليدخله من أوسعها.
أصوله اليهوديّة جعلت القادة العرب يتعاملون معه بحذر، ويتشكّكون في آرائه التي دائماً ما يُزيّنها بعبارات الإغراء. وبعدما أنهى خدمته العسكرية في صفوف الجيش الأميركي والتي وصفها بقوله: “جعلتني أشعر وكأنني أميركي”. انخرط في التدريس بالجامعات الأميركيّة وعلى رأسها الجامعة الأشهر، هارفرد.
شاركَ في صنع التّاريخ على امتداد نصف قرنٍ. وذلكَ كان بوجوده في مركز القرار في عاصمة القرار، حيث تولّى منصبَيْ مُستشار الأمن القوميّ، ثمّ وزير الخارجيّة في أكثر اللحظات تعقيداً في تاريخ أميركا.
كان كيسنجر صاحب الرأي المؤثّر في السياسة الخارجية إبّان إدارتَي الرئيسَيْن الجمهوريَّين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد بين 1969 و1977. كلّ هذا، ولم يكُن في بداية الأمر من المعجبين بنيكسون. مارس تأثيره من مكتب شؤون الأمن القومي، وجعَل دور وزارة الخارجيّة مُهمّشاً أيّام ويليام روجرز، قبل أن ينقضّ على المنصِب ويعيدَ له بريقه.
لم تُفارقه “السّياسة الخارجيّة” حتّى أيّامه الأخيرة. بقيَ يُنظّر لها ويطرح أفكاره. فيومَ اشتعلت الحرب الروسية – الأوكرانية قبل عامٍ ونصف، دخل كيسنجر على الخطّ وأدلى بدلوه مطالباً بإعطاء روسيا قطعة من أوكرانيا، وهو شرقها.

إقرأ أيضاً: كيسنجر: أميركا لم تعد “القوّة الوحيدة” في المنطقة

ولم يغِب عن ارتفاع منسوب التّوتّر في علاقة بلاده بالصّين بعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. فكان يتحدّث ويكتب ويحاول أن يُحافظَ على العلاقة التي بناها أيّام نيكسون ويُطالب واشنطن بالاعتراف بحصّة الصّين في العالم.
الكتابة عن كيسنجر تحتاج إلى مئات الصّفحات، وحتماً لن تكفي. رحَلَ وهو ينصح ويعلمُ أنّ رأيه مسموعٌ ومقدَّرٌ من الجميع. فلن نُفاجأ إن انتهت حرب أوكرانيا بالتّنازل عن شرقها لروسيا. قد تختلف مع آراء كيسنجر أو تتّفق. لكنّكَ لا تستطيع نفي حقيقة أنّه تربّع على رأس قائمة “دهاة السّياسة والدّبلوماسيّة” في الـ100 عام الأخيرة.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@

مواضيع ذات صلة

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…