كانت الحلقة الضيّقة التي ناقشت في قصر الصنوبر الموضوع الرئاسي هي الأكثر صراحة وفعّالية في زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي. حول طاولة مستديرة اجتمع الموفد الفرنسي جان إيف لودريان بالوزراء السابقين ماري كلود نجم وزياد بارود وناصيف حتّي والناشط السياسي خلدون الشريف وممثّل عن حركة أمل وسادس من آل الدحداح. فاجأت نجم لودريان بالسؤال: لماذا نريد انتخابات رئاسية؟ وأكملت قائلة: إذا لم يكن انتخاب الرئيس من أجل تنفيذ برنامج فما الحاجة إليه إذاً؟ وهل الغاية هي الرئيس أم البرنامج؟
أثار هذا السؤال استغراب الموفد الرئاسي الذي غادر لبنان خالي الوفاض من اقتراح حلّ أو نتيجة أو حتى خلاصة يمكن البناء عليها للوصول إلى انتخاب رئيس للجمهورية.
لم يقتصر الخلاف على شخصيّة المرشّح ومواصفاته واسمه فحسب، بل شمل أيضاً الطريق المؤدّية إلى الاتفاق عليه، فاختلفت الآراء بين من طالب بالحوار سبيلاً للاتفاق ومن اعتبره بلا جدوى. بمعنى آخر كان الخلاف واضحاً بين من يريد الحوار قبل الرئاسة ومن أجلها ومن يريده بعدها، وبين من يريده داخلياً ومن يطالب برعاية عربية أو أوروبية، وبين من يريد حصره بالرئاسة ومن يريد تطويره إلى حدّ إعادة النظر في النظام ككلّ انطلاقاً من رئاسة الجمهورية.
هل طرح الحوار فعلاً؟
كلّ من قابل لودريان يجزم أنّه لم يتحدّث في مسألة الحوار، بل استفسر عنه رئيس مجلس النواب نبيه برّي، فجاءه الجواب بالرفض مجيِّراً الاقتراح إلى البطريرك بشارة الراعي، وحين زار لودريان هذا الأخير سأله فكان جوابه الصريح أنّه لن يتحمّل مسؤولية مثل هذه الدعوة.
تقول مصادر سياسية إنّ فكرة الحوار من بنات أفكار بعض من التقاهم لودريان، وإنّ فرنسا لا تريد رعاية حوار، بل تتّكل على اللبنانيين في إدارة شؤونهم
لم تكن فكرة الحوار من بنات أفكاره ولا هو حمل توجّهاً من هذا النوع، بل إنّ الموفد الفرنسي لاحظ وجود نيّة أو ميل لدى عدد من السياسيين إلى الحوار في شأن رئاسة الجمهورية، فاستفسر عن الزمان والمكان والطرف المؤهّل لرعايته وهل من الأفضل أن يكون حواراً لبنانياً أو برعاية خارجية. سمع اقتراحات بهذا الشأن من المتحمّسين لاقتراحه، بينما رفض طرفٌ ثانٍ الحوار لاعتقاده أنّه سيكون بلا جدوى وأنّ الأفضل أن يلتئم الحوار بعد انتخاب رئيس للجمهورية لا قبله، ذلك أنّ الأولوية هي لانتخاب رئيس يتكفّل هو بالدعوة إلى حوار برئاسته في القضايا المختلَف عليها.
لاحظ لودريان أنّ الخلاف على الرئاسة في لبنان عميق إلى حدّ تعذّر النقاش بشأنه بين اللبنانيين أنفسهم الذين يوصد بعضهم الأبواب بوجه بعض. لا يحبّذ أيّ طرف إجراء نقاش مع طرف آخر في اجتماع يشمل الجميع بل من خلال ثنائيات. ولكثرة الحوارات التي خاضها لبنان وباءت كلّها بالفشل لم يعد الحوار ملاذاً آمناً للجميع لأنّهم كلّهم باتوا طرفاً في الأزمة ولم يعد بينهم محايد مؤهّل لرعاية الحلّ.
جاء أوّل الاقتراحات بهذا الشأن من التيار الوطني الحرّ الذي دعا فرنسا إلى رعاية حوار في قصر الصنوبر لا خارج لبنان يجمع كلّ المعنيين بالملفّ الرئاسي. من وجهة نظره، لا يكون الحوار حول اسم الرئيس، وخصوصاً عند المسيحيين، ذلك أنّ الحوار في الاسم بالنسبة لهم بلا معنى. هل يتمّ الاعتراض على شكل المرشّح أم على برنامجه؟
في العقل المسيحي العامّ لم يعد من معنى لرئاسة الجمهورية إذا لم تكن مقرونة بمشروع يعيد بناء الدولة انطلاقاً من “الطائف”، ثمّ يعيد تحديد الهدف من الحياة السياسية وبرنامج الرئيس العتيد ومعاونيه وحكومته ومدى تفاهمه مع رئيس الحكومة ومدى الالتزام بالإصلاحات المطلوبة.
إذا لم يكن هناك برنامج متكامل وآليّة عمل فالاهتمام ليس محصوراً بشخص الرئيس، وهنا يكمن عمق الخلاف الواقع بين التيار الوطني الحرّ والحزب حول مسألة بناء الدولة. فبينما أعدّ الحزب مقاربة محدودة تعتبر أنّ الغاية من انتخاب الرئيس المجيء بمرشّح يحمي المقاومة، اعتبر التيار أنّ مثل هذه المقاربة لا تقنع ولا تكفي العقل المسيحي، ليس لرفض المسيحيين حماية المقاومة بل لاعتبار أنّ حمايتها يوفّرها مجتمع بكامله وقرارات تتّخذها الدولة لا تجعل المقاومة موضع تشكيك. وهنا جوهر المشكلة: إذا لم تشكّل الرئاسة مناسبة للخروج من الانهيار وإعادة بناء المؤسّسات فما مبرّر وجودها إذاً؟
كلّ من قابل لودريان يجزم أنّه لم يتحدّث في مسألة الحوار، بل استفسر عنه رئيس مجلس النواب نبيه برّي، فجاءه الجواب بالرفض مجيِّراً الاقتراح إلى البطريرك بشارة الراعي
من رفض الحوار ومن تهرّب منه؟
وبذلك تتوزّع خارطة المواقف من الحوار على الشكل التالي:
– التيار الوطني الحر: يطلبه برعاية فرنسا ويتمحور حول برنامج الرئيس ليتوسّع إلى موقفه من القضايا المصيرية وفريق عمله انطلاقاً من الحكومة.
– الثنائي الشيعي: يرفض رعايته من قبل برّي الذي بات طرفاً ولم يعد محايداً، ويطالب بحوار يشرح فيه مبرّراته لاختيار سليمان فرنجية مرشّحه الرئاسي وبرنامج عمله ويناقش المواصفات المطلوبة للمرحلة المقبلة.
– البطريرك الراعي: لن يعيد الكرّة في تحمّل مسؤولية الدعوة إلى حوار لن يوصل إلى أيّ نتيجة.
– القوات اللبنانية والكتائب والتغييريون: لا جدوى من حوار لن يوصل إلى الغاية المرجوّة ولا نفع منه، ذلك أنّ المطلوب انتخاب رئيس للجمهورية يرأس حواراً يجد حلّاً لسلاح الحزب.
– الرئيس السابق للحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط اشترط أن يكون الحوار جدّياً، ملتقياً مع تكتّل الاعتدال النيابي في كون الحوار هو السبيل الوحيد للخروج من الاصطفافات.
– رئيس تيّار الكرامة النائب فيصل كرامي ممثّلاً تكتّل “التوافق الوطني” اقترح أن يكون الحوار برعاية أوروبية فرنسية، وأن يكون للمملكة العربية السعودية دور أساسي فيه، أو أن يكون برعاية الإخوة العرب وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية.
إقرأ أيضاً: فرنسا ولبنان…. مشكلة سياسة لا مبعوثين!
لبنانيون طرحوه على لودريان
تقول مصادر سياسية إنّ فكرة الحوار من بنات أفكار بعض من التقاهم لودريان، وإنّ فرنسا لا تريد رعاية حوار، بل تتّكل على اللبنانيين في إدارة شؤونهم. والموفد الفرنسي كان واضحاً في لقاءاته أن “التفتوا لأنفسكم لأنّه لا أحد سيلتفت إليكم”. وليس تفصيلاً أن تأتي نصيحة كهذه من بلد استضاف وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قبل أيام وزاره مسؤول ملفّ لبنان نزار العلولا وسفير المملكة في لبنان وليد بخاري. وبحسب المصادر عينها لن يدعو الجانب السعودي حالياً إلى حوار، فيما القطري حواره مشروط بانتخاب قائد الجيش جوزف عون وإلّا فلا تمويل بلا فائدة. أمّا الفرنسيون فأولويّتهم انتخاب رئيس للجمهورية، وهم بدأوا من خلال لودريان التمهيد لاستدارة في الملفّ الرئاسي نحو خيار جديد، خاصة أنّ لقاءات لودريان لم تقتصر على فرنجية، بل شملت مرشّحين آخرين، وهو ما يعني أنّ بلاده “جمّدت” فكرة الترويج لفرنجية وبدأت رحلة البحث عن البديل.
لكن كيف وضمن أيّ آليّة؟
هذا هو السؤال.