اللحظة التأسيسيّة والاستثناء اللبنانيّ السلبيّ

مدة القراءة 8 د

يتفاقم الانهيار اللبناني الجهنّميّ فيما تشهد المنطقة متغيّرات كبرى كان آخرها الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية. حصل هذا الاتفاق، وبالأخص من الجانب السعودي، بدافع إعطاء فرصة غير مسبوقة للتنمية، لا في السعودية وحسب، بل في المنطقة ككلّ.

لبنان مثالاً سلبياً

هذا يجعل الانهيار اللبناني إشكالياً نظراً إلى التناقض الكبير بينه وبين التوجّهات التنموية في المنطقة. وكأنّ لبنان بات يشكّل استثناءً سلبياً فيها، بعدما كان يُنظر إليه لعقودٍ بعد تأسيسه على أنّه استثناء ايجابياً في محيطه المصاب وقتذاك بحمّى الانقلابات العسكرية والاستبداد واللاستقرار السياسي والاجتماعي.

انقلبت الآية: تحوّل لبنان مثالاً على فشل “الدولة الحديثة” في المنطقة، ولم يعد النموذج الذي يمكن التطلّع إليه لقياس إمكانات الدولة الديموقراطية في المشرق العربي، وحتى أبعد منه.

الحزب غير مستعد لإصلاحات اقتصادية من “الخارج” ولا يقبل بها أصلاً. ولا هو مستعد أو قادر على إجراء إصلاحات من “الداخل”، لأنّ أولوياته سياسية متّصلة بتكريس نفوذه في البلد لصالح نفوذ خارجي

فشلٌ مزدوجٌ

بذلك يكون لبنان بانهياره قد فشل فشلاً مزدوجا:

– تقويض دولته الحديثة الديموقراطية التي كانت نموذجاً في منطقة تتضاءل فيها القابلية الديموقراطية في الدول والمجتمعات.

– فشل في الصعود إلى قطار التنمية في المنطقة بعد الانهيارات المتتالية التي أصابته وعلى الصعد كافة.

لذلك يعيش لبنان الآن محطة مفصليّة ويقف على مفترق طرق خطير، ويقتضي الاعتراف بأنّه في لحظة تأسيسية وسط تحوّلات كبرى في المنطقة تذكّر بتحوّلات ما بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة العثمانية، كما بتحوّلات ما بعد الحرب العالمية الثانية وبدء تراجع النفوذ الفرنسي والبريطاني في الشرق الأدنى وصولاً إلى مصر.

اللحظة التأسيسيّة

الفارق الآن أنّ هذه اللحظة التأسيسيّة تحضر في عزّ انهيار لبنان. وهذا يطرح أسئلة عن:

– كيفية التأسيس فوق الركام، وأشكال هذا التأسيس؟

– هل يمكن الحديث عن تأسيس إيجابي قياساً إلى نماذج حكم حديثة، إم أنّ التأسيس سيحصل وفق قواعد سياسية واجتماعية نكوصية، تسقط لبنان الحالي إلى الوراء في القيم السياسية والاجتماعية؟

هذا فرق جوهري عن لحظة تأسيس لبنان الأوّل، أي في عشرينيات القرن الماضي، حيث شكّل تقاطع المصالح بين النخب السياسية والدينية والاقتصادية المسيحية مع مصالح النفوذ الفرنسي في المنطقة دافعاً رئيسياً إلى قيام دولة لبنان بنظام سياسي ذي مضمون ديموقراطي نسبيّاً. وذلك بالرغم من كلّ المآخذ التي يمكن أن تُساق في مقاربة أهداف هذا التقاطع ونتائجه اللاحقة.

انفجار التناقضات

بيد أنّ ذلك لا يلغي أنّ التأسيس اللبناني الأول حمل وجهاً إيجابياً في المنطقة ولها. إلّا أنّه  لم يعمّر طويلاً وسرعان ما بدأت تظهر علامات التعب عليه، حتى انفجرت تناقضات البلد:

– مرّة أولى “تجريبية” في العام 1958.

– مرّة ثانية مدمرة في العام 1975.

لم تكن التناقضات التي أدت غلى حروب الدمار داخلية فحسب. وانفجارها لم يحصل بدافع داخلي فحسب أيضا. فاستجرار قضايا المنطقة بمحاورها وأنظمتها ونماذج حكمها إلى لبنان أظهر هشاشة الاستثناء الإيجابي الذي شكلّه لبنان نسبيّاً في العقود الأولى لتأسيسه. وهذا ما أسقط حائط الصدّ “الوهمي” الذي حاول المؤسسون الأوائل تشييده لحماية هذا الاستثناء من التأثيرات السياسية السلبية للمنطقة وللاستفادة في الوقت عينه من تأثيراتها الاقتصادية الإيجابية. وقد أظهرت المعادلة اللبنانية فشلها مع الوقت، وخصوصاً مع صعود القوّة الفلسطينية منذ نهاية الستينيات والتي أسرت المزاج العربي من المحيط إلى الخليج.

تحوّل لبنان مثالاً على فشل “الدولة الحديثة” في المنطقة، ولم يعد النموذج الذي يمكن التطلّع إليه لقياس إمكانات الدولة الديموقراطية في المشرق العربي، وحتى أبعد منه

النظرة المارونية

يحيلنا هذا إلى النظرة المسيحية وبالتحديد المارونية إلى لبنان، والقائمة أساساً على فكرة أنّ لبنان يمكنه أن يكون كياناً معزولاً أو “حيادياً” قائماً بذاته يستفيد من تحوّلات المنطقة من دون أن ينخرط في قضاياها أو أن يتأثّر بها.

هذه فكرة سقطت عند اندلاع الحرب سنة 1975، ثمّ حصلت محاولات لإحيائها مع رفيق الحريري، ثمّ في “14 آذار” وشعار لبنان أوّلاً الذي عبّر عن حلّ سنّي لمشكلة غير سنيّة، أو أنّه حمّل السنّة مسؤولية سياسية مع مفعول رجعي، في محاولة للمصالحة مع “لبنان الماروني”، بينما المشكلة الفعلية في مكان آخر.

فالواقع أنّ فكرة “التحييد” سقطت نهائياً مع صعود قوّة حزب الله الذي ينظر إلى لبنان نظرة معاكسة كلّياً للنظرة المارونية إليه. فالحزب إياه يرى لبنان من الخارج إلى الداخل وليس العكس.

أي أنه ينغمس في صراعات المنطقة باعتبار أنّ انتصار محوره فيها يرتدّ ايجاباً عليه في لبنان.

وقال حزب الله جهاراً أن مصير لبنان يتحدّد في المنطقة. وهذا يناقض تماماً فكرة “التحييد” المارونية. وللمفارقة فإنّ تياراً مارونياً رئيسياً هو التيار العوني شكّل رافداً لفكرة حزب الله الانغماسية. لكنّه لم يستطع تجاوز التناقض التاريخي بين “لبنان الماروني” و”لبنان الشيعي”. وهذا ما يعكسه الخلاف بين التيار والحزب الآن.

التقاء وافتراق

هذا الافتراق بين النظرتين المارونية والشيعية للبنان، لا يلغي نقطة التقاء بين اللحظتين التأسيسيتين المارونية والشيعية له. يتجسد الالتقاء في أن لبنان بُنيَ “من فوق” في التأسيس الأوّل ويبنى “من فوق” في التأسيس الثاني أيضاً.

لكن رقعة “الفوق” اتّسعت كثيراً مع حزب الله. فإلى جانب محاولته بناء طبقة عليا اقتصادية رديفة و/أو جديدة، فهو يؤدلج الواقع اللبناني عوض تسييسه، باعتبار أنّ السياسة في الدولة والمجتمع لا يمكن أن تصدر إلّا من قبله هو كمرجعية سياسية وأخلاقية “مثلى” لا تعترف بأي مرجعية سواها إلا بمقدار خضوعها له. كما أنّ “الفوق” هذه المرّة يعبّر عن مصالح محور إقليمي هو المحور الإيراني الذي يتبنّى سلّم أولويات خاص بالمركز الإيراني يتجاوز أولويات الدول التي يبسط نفوذه فيها.

لا مجتمع ولا سياسة

هذه حالة راديكالية غير مسبوقة في تاريخ لبنان. بالتالي فإنّ تأسيس لبنان “من فوق” هذه المرّة أخطر بكثير، إذ أنه يقمع “التحت” نهائياً ويلغيه.

هذا ما شهدناه خلال انتفاضة “17 تشرين”، عندما استأسد حزب الله في قمعه “التحت” (المجتمع) وتفكيكه ومنعه من التأثير السياسي في مجرى الأحداث اللبنانية، واحتكارالحزب عينه ووعده السياسة كلها، وتحويلها نقيض السياسة، أو نقضاً للسياسة.

وهذا فرقٌ آخر كبير بين حزب الله و”المارونية السياسية” التي لم تلغِ أو لم تستطع إلغاء “التحت” (المجتمع السياسي) أو صدور السياسة عن المجتمع لا عن طبقاته العليا فحسب. والدليل صعود اليسار والنقابات والحركة الطالبية، ما خلق حيوية سياسية وديموقراطية مفقودة الآن، رغم تطور الأمور وقتذاك إلى انفجار الحرب التي غلبت عليها عوامل خارجية.

لا دستور ولا إصلاح

أمام واقع معقّد كهذا يصبح السؤال الأساسي عن إمكانات الإصلاح الاقتصادي في لبنان لمواكبة التوجّه نحو التنمية في المنطقة والاستفادة منه؟

والحال يمكن الاستدلال على أفق الإصلاح في البلد من طريقة تعامل حزب الله، القوة الرئيسية في لبنان، مع الدستور. فالحزب عينه يرى أنّ الدستور الحالي لا يلبّي مصالحه على المدى للبعيد، لكنّه في الوقت نفسه لا يستطيع بناء دستور على قياسه بفعل شروط التركيبة الطائفية للنظام، خصوصاً أن حزب الله لا يملك مشروعاً تجاوزياً للطائفية، بل على العكس تماماً: فهو يجذّر الطائفية أكثر فأكثر. ولذلك يبقي الحزب الستاتيكو الراهن على حاله، أي لا يعترف بالدستور الحالي ولا ينقلب عليه.

وبالمثل، حزب الله غير مستعد لإصلاحات اقتصادية من “الخارج” ولا يقبل بها أصلاً. ولا هو مستعد أو قادر على إجراء إصلاحات من “الداخل”، لأنّ أولوياته سياسية متّصلة بتكريس نفوذه في البلد لصالح نفوذ خارجي.

إقرأ أيضاً: ترشيح الحزب لفرنجيّة: اللعب على حافة الهاوية

ولا بد هنا من السؤال عن جدوى وإمكان إجراء إصلاحات اقتصادية، في حين أنّ أفق الإصلاح السياسي مسدود، لا بسبب نموذج حزب الله للحكم فحسب، بل أيضاً بسبب غياب نموذج بديل للحكم عند خصومه. فبعضهم يطرح الفدرالية هرباً من “مشكلة حزب الله”، لكن لاستنساخ نموذج هيمنته، ولو بصورة أقلّ حدة، ضمن نطاقهم الجغرافي الضيّق.

هذا كله يجعل إعادة التأسيس الموعودة للبنان رجوعاً الى الماضي لا عبوراً إلى المستقبل. ولذلك ليس مستغرباً سعي حزب الله إلى انتخاب رئيس يمثّل الماضي بالمعنى الحرفي للكلمة. تماماً كما فعل الموارنة في سبعينيات القرن الماضي في لحظة افتراق حقيقي بين الماضي والمستقبل.

والأخطر أن الاستعداد اللبناني العام لأن يكون البلد استثناءاً سياسياً واجتماعياً ايجابياً في المنطقة يتضاءل أكثر فأكثر، لكنّه لم ينتفِ كلّياً!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@

مواضيع ذات صلة

قنوات مفتوحة بين قائد الجيش و”الثّنائيّ الشّيعيّ”

في آخر موقف رسمي من الانتهاكات الإسرائيلية اليومية والفاضحة لقرار وقف إطلاق النار تكرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “لفت نظر” لجنة المراقبة لوجوب وقف هذه…

“اللقاء الديموقراطي” يدعم التوافق على جوزف عون

أقلّ من 25 يوماً تفصل عن موعد الاستحقاق الرئاسي. حراكٌ في مختلف الاتّجاهات، وتشاورٌ على كلّ المستويات. الشغل جدّي لإجراء الانتخابات يوم التاسع من كانون…

سفراء الخماسيّة “أسرى” جلسة الرّئاسة!

لا صوت يعلو فوق صوت “مطحنة” الأسماء المرشّحة لرئاسة الجمهورية. صحيح أنّ الرئيس نبيه برّي يتمسّك بتاريخ 9 كانون الثاني بوصفه المعبر الإلزامي نحو قصر…

سليمان فرنجيّة: شريك في رئاسة “قويّة”

من يعرفه من أهل السياسة أو من أهل الوسط يصفونه بفروسيّته ربطاً بأنّه يثبت على مبدئه مهما طال الزمن ومهما تقلّبت الظروف. سليمان فرنجية الحفيد…