الجلسة الثانية عشرة لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بعد تسعة أشهر من الفراغ في سدّة الرئاسة، تختلف في تحدّياتها واصطفافاتها ونتائجها عن الجلسات التي سبقتها، حتى لو لم تؤدِّ كما كان متوقّعاً، إلى انتخاب أيّ من المتنافسين، سليمان فرنجية المحسوب على الممانعة والمدعوم منها والذي نال 51 صوتاً، وجهاد أزعور المدعوم من تلاقي كتل برلمانية متنوّعة تمكّنت من حشد 59 صوتاً له.
السياق السياسي المستمرّ منذ خسارة الحزب الأكثرية النيابية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، شكّل هديّة سياسية ثمينة له، إذ بقيت القوى التي تمثّل الأكثرية عاجزة عن تكوين أكثرية برلمانية متجانسة بوجه قوى الممانعة، وذلك لألف سبب وسبب. لكنّ تبنّي الحزب في الاستحقاق الرئاسي الحالي لخيار سليمان فرنجية كسر هذا السياق، وأحدث فرزاً سياسياً جديداً أدّى إلى خلق وقائع جديدة. كما أنّ إصراره على هذا الخيار، على قاعدة “فرنجية أو الفراغ”، متسلّحاً بميزان القوى الذي يمثّله وبالموقف الفرنسي (ما قبل التطوّرات الأخيرة) الذي تبنّى ترشيح فرنجية والتسويق له، رفع من حدّة هذا الفرز، وفتح الطريق للمرّة الأولى منذ سنوات لقيام ميزان قوى برلماني، من شأنه إذا استمرّ أن يغيّر قواعد اللعبة السياسية التي تحكّم بها الحزب منذ عام 2005.
بالطبع يجب عدم الغرق في أوهام أن يستمرّ ميزان القوى هذا إلى مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية، إذ يُظهر تحليل “السكور” الذي وصل إليه المرشّح جهاد أزعور، أي الـ59 صوتاً، أنّه جاء حصيلة توافق بين كتل “لبنان القويّ” و”الجمهورية القويّة” و”اللقاء الديمقراطي” و”حزب الكتائب” و”مخزومي-ريفي” وتسعة أصوات من التغييريين الذين صوّت قسم منهم له، على خلفيّة رغبتهم في كسر هيمنة الحزب على القرار.
الجلسة الثانية عشرة لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بعد تسعة أشهر من الفراغ في سدّة الرئاسة، تختلف في تحدّياتها واصطفافاتها ونتائجها عن الجلسات التي سبقتها، حتى لو لم تؤدِّ كما كان متوقّعاً، إلى انتخاب أيّ من المتنافسين
تكمن أهميّة ميزان القوى المؤقّت الذي نشأ أنّه أسقط رهانات الحزب المستمرّة على خلافات المعارضة وعدم قدرتها على الاتفاق على مرشّح مشترك، وأسقط أيضاً رهانه على إعادة جبران باسيل الى بيت الطاعة وإلى مربّعه السياسي.
ويبدو أنّ الفراق بين الحزب والتيار صار أمراً واقعاً، ليس فقط على وقع ترشيح فرنجية، بل أيضاً بناءً على القراءة السياسية للتيّار لأسباب فشل عهد العماد ميشال عون. إذ يحمّل التيّارُ الحزبَ المسؤولية غير المباشرة عن هذا الفشل بدعمه المطلق للرئيس نبيه برّي. وقد قطع هذا الفراق مسافة كبيرة في الأيام الأخيرة بعد دعوة باسيل “الحزب” إلى عدم تدخّله في شؤون “كتلة لبنان القوي” غاضباً من تمرّد عدد من نواب التكتّل على خيار “الجنرال” وباسيل، ومتوجّهاً إلى “القطع” مع الحزب.
“خيبة” الحزب من جنبلاط
إحدى نتائج جلسة 14 حزيران هو سقوط رهان الحزب على إمكانية استثمار الصداقة التاريخية بين الرئيس نبيه برّي ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط لتخفيف “سكور” جهاد أزعور عبر اقتراع اللقاء الديمقراطي بورقة بيضاء. لم يكن هذا الرهان في محلّه، إذ إنّ وليد جنبلاط كان أوّل من طرح جهاد أزعور، بالإضافة إلى قائد الجيش وصلاح حنين.
لا يمكن اللقاء الديمقراطي أن يُقدّم أوراقاً مجّانية إلى الحزب الذي يفرض باستمرار قواعد لعبة تتنافى مع الأصول والأعراف في إدارة التنوّع اللبناني. وكان رئيس اللقاء الديمقراطي تيمور جنبلاط حريصاً أشدّ الحرص على احترام مزاج قاعدة الحزب الاشتراكي الشعبية التي تريد رئيساً إصلاحياً يحمل رؤية للحلول الاقتصادية والمالية.
من قواعد اللعبة الجديدة التي فرضتها جلسة 14 حزيران أنّ أدوات التهديد والترهيب والتخوين وأساليبها قد تحوّلت إلى “شيك” بلا رصيد وغير قابلة للصرف في مواجهة أيّ فريق. وبدا التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور وكأنّه من عالم أفل، إذ سرعان ما تلاشت هذه الأدوات مع الإصرار على ممارسة اللعبة الديمقراطية والاقتراع للمرشّح جهاد أزعور الذي يملك رؤية إصلاحية ولديه معرفة واسعة بالملفّات المالية والاقتصادية المعقّدة.
الجدير بالذكر أنّ عدداً من النواب التغييريين اقترع له على قاعدة كسر هيمنة “الحزب” الذي يمسك بالرقاب والعباد ويصرّ على فرض مرشّحه الذي يفتقر إلى دعم أكبر كتلتين مسيحيّتين. وبالتالي لو لم يُهَرَّب النصاب لمنع انعقاد الجلسة الثانية، لكان هناك احتمال كبير أن يُنتخب أزعور رئيساً للجمهورية بأكثرية 65 صوتاً. وهذا ما ظهر أنّه خطّ أحمرمنع “الحزب” تجاوزه.
قواعد اللعبة الجديدة التي أفرزتها جلسة 14 حزيران قد لا تفتح الباب نحو تسوية داخلية لعدم توافر شروط هذه التسوية
متى وكيف الخيار الثالث؟
قواعد اللعبة الجديدة التي أفرزتها جلسة 14 حزيران قد لا تفتح الباب نحو تسوية داخلية لعدم توافر شروط هذه التسوية. فمن الواضح أنّ الفريق الذي يشكّل الائتلاف المؤقّت الذي تبنّى ترشيح جهاد أزعور وصوّت له، لا يملك أرضية مشتركة للتفاهم على خيار آخر، على الرغم من قناعة عدد من الكتل النيابية المؤلِّفة لهذا الائتلاف، بعدم إمكانية وصول مرشّحهم الحالي إلى سدّة الرئاسة.
الاتفاق على خيار ثالث بينهم مستبعد حاليّاً. وأمّا الحزب، الذي تجرّع كأس جلسة 14 حزيران وسمّها الذي كشف حجم مرشّحه، فلا يعتبر أنّ فارق الـ8 أصوات الذي تحقّق لمصلحة أزعور، يشكّل هزيمة له، بل راح يسوّق له باعتباره انتصاراً، ولا سيّما أنّه خبير في التسويق الدائم للانتصارات على الرغم من قناعته باستحالة انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية. إذاً لماذا المكابرة؟ وهل ينتظر شيئاً ما من الخارج؟ وعلى ماذا يراهن؟
يدرك الحزب بالتمام والكمال، كما يقال، عدم إمكانية تجاوز الطائفة الشيعية في الاستحقاق الرئاسي، وهو إذ وافق مع رئيس مجلس النواب على الدعوة إلى جلسة 14 حزيران وإكمال النصاب والتخلّي عن الورقة البيضاء، فإنّه بالمقابل يملك مفتاح تعطيل نصاب الدورة الثانية إلى ما لا نهاية، ويتصرّف بهذا الحقّ على قاعدة “الحقّ الإلهي” لمنع انتخاب رئيس لا يخضع لشروطه ولا يرى فيه الشخصية التي يمكن الركون إليها والوثوق بعدم “طعن المقاومة في ظهرها” على ما يسوق أيضاً. علماً أنّ غالبية اللبنانيين يريدون “رئيساً لا يطعن لبنان في ظهره”، ولا يساوم على سيادة لبنان واستقلاله، وقادراً على استرجاع قرار السلم والحرب وحصره بيد الدولة.
يبني الحزب مواقفه من الاستحقاق الرئاسي على قناعة تامّة بأنّ ميزان القوى الإقليمي والداخلي يميل بقوّة نحو محور الممانعة، وبالتالي فهو يسأل نفسه: لماذا عليه أن يقدّم تنازلات؟ لا سيّما أنّه نجح خلال العديد من الاستحقاقات في أن يُخضع “لعبة التوافق” لمطرقة ميزان القوى ويفرض ما يريد. ويبدو أنّه يشتري الوقت وغير آبه بكلفته على لبنان وشعبه، بانتظار مصير الوساطات التي تجري بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية، والتي تقوم بها عُمان والإمارات العربية المتحدة وقطر، والوساطات الفرنسية التي لا تنتهي، من بلد إلى آخر. فهل تنجح هذه الوساطات، ويرى الملفّ النووي وغيره من الملفّات النور من جديد، فتنفرج العلاقات الأميركية- الإيرانية، وتجري الانتخابات الرئاسية في لبنان على قاعدة خيار ثالث يوافق عليه الحزب؟ وهل فعلاً يتطلّع الحزب إلى ضمانات من الأميركيين؟ كم ستبلغ كلفة انتظار نتائج هذا الحراك، وكم ستتضاعف الكلفة إذا راوح مكانه أو فشلت الوساطات؟
إقرأ أيضاً: حكاية طاولة حوار لن تُعقد..!
ليست هذه المرّة الأولى التي يدير فيها الحزب ظهره للأكثرية النيابية التي تفرزها الانتخابات، ويشهر سلاح ميزان القوى الذي يمثّله في وجه التوافق، وذلك لفرض خياراته السياسية في الاستحقاقات كافّة… لكنّ جلسة 14 حزيران غيّرت الكثير.
* أستاذ الدراسات العليا في كلّية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية.