العرب في “منتدى سان بطرسبورغ”: “الأوروبيّون الجدد”

مدة القراءة 7 د

للوهلة الأولى لا تحسب نفسك في روسيا تشاهد فاعليّات “منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي”، بل تظنّ نفسك في “إكسبو دبي” أو في أحد مهرجانات الرياض أو العُلا في السعودية: شبّان عرب يرقصون ويغنّون، كما لو أنّهم في دارهم. ضيوف شرف هم، ولمَ لا؟ فهم يستحقّون ذلك وعن جدارة. لم يخونوا هذه البلاد ولم يتخاذلوا على الرغم من الضغوطات والعقوبات والتهديدات.

في معرض نقاشٍ ضمن فاعليات المنتدى الذي اختُتم السبت الفائت، قال رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين :”فخامة الرئيس. الكثير من التهديدات تصلنا، خصوصاً نتيجة الوضع الروسي الآن، لكن نحن قرّرنا ومشينا، الحمدلله، بغضّ النظر عن الشروط الغربية” .

لم تستمع دول الخليج لإملاءات خارجية أميركية أو أوروبية في عالم “متعدّد الأقطاب” حيث جميع الدول سواسية. فعلتها روسيا واستطاعت أن تقضي على أحادية الهيمنة الغربية وسياسات الاستعلاء والعجرفة. بينما أوّل المستفيدين هي دول الخليج، وعلى رأسها دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية اللتان تخلّصتا من “وصيّ غليظ”، يأخذ ولا يُعطي، فأمست قراراتهما تراعي مصلحة شعبَيهما فقط، وأصبح الحليف هو من يبادلهما العطاء بالمثل.

كان الرعايا الخليجيون في منتدى سان بطرسبورغ في طليعة رجال الأعمال وعلى رأس قائمة المدعوّين الكبار في روسيا. باعتبارهم “أوروبا الجديدة” كما صرّح وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان؟!

ليس للصدفة دور هنا، فروسيا ترى في الدول العربية ودول الخليج شريكاً تجارياً موثوقاً، بعد خروج معظم الشركات الأجنبية من السوق الروسية تحت ضغط العقوبات الأميركية، وقد بدا ذلك واضحاً أيضاً في حديث جانبي آخر بين بوتين وبن زايد، دعا خلاله الزعيم الروسي إلى إشراك مصر في بناء منطقتين صناعيتين روسيّتين، واحدة في الإمارات وأخرى في مصر، وذلك بعد التواصل مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

روسيا تبحث عن شركاء جدد

تريد روسيا اليوم الانتقال إلى مستوى جديد من التنمية: بناء اقتصاد سياديّ ينطوي على زيادة واسعة في الإنتاج والخدمات، وتعزيز شبكة البنية التحتية، وتطوير التقنيّات المتقدّمة، وإنشاء قدرات صناعية حديثة وصناعات كاملة بما فيها تلك المجالات التي لم تظهر روسيا فيها بشكل صحيح بعد.

لذلك روسيا بحاجة إلى شركاء جدد يحلّون مكان من “غدر” و”غادر”. قال بوتين في خطابه في افتتاح المنتدى بحضرة الشيخ بن زايد: “لم نطرد أحداً من أسواقنا. لكلّ شريك الحقّ في الاختيار. إذا أرادت الشركات الأجنبية العودة إلى سوقنا، فإنّنا لا نغلق الأبواب في وجهها”.

في الوقت نفسه، أبدى بوتين تحفّظاً فوريّاً مفاده أنّ “روسيا ستضع دائماً مصالح المنتجين المحلّيين في المقدّمة. نحن نعتبر الشركات الأجنبية التي بقيت في روسيا خلال الأزمة شركاء حقيقيين، ومن غادر، فعلى الأرجح لن نسمح له بالعودة” .

استطاعت روسيا أن تتأقلم في مواجهة العقوبات، فاتّخذ رجال الأعمال الروس شركاءً جدداً بدلاً ممّن رحلوا. تمّ استبدال الوفود الجماهيرية السابقة من أوروبا وآسيا بوفود ضخمة من دول إفريقيا ودول الشرق الأوسط.

أمّا في المجالات الصناعية الأخرى، فقد حلّت سيارات “لادا” و”كاتربيلر” ذات الألوان الزاهية بدلاً من سيارات “أودي” و”بي. إم. دبليو”، وحلّت مشروبات غازية روسيّة من منطقة تشيرنوغولوفكا بدلاً من “بيبسي كولا” و”كوكا كولا”.

تمّ إنشاء المنتدى منذ أكثر من ربع قرن ليكون نافذة على أوروبا، ومنصّة للتواصل بين الشركات الدولية. اجتذب أكثر من 17 ألف شخص من 130 دولة في العالم. غادره الأوروبيون اليوم، لكنّه استمرّ واستُبدلت استثمارات الدول الغربية بأخرى من دول شرقية، إضافة إلى دول أميركا اللاتينية ودول إفريقيا.

بمعنى آخر، كان الحضور الجماهيري الكبير في منتدى بطرسبورغ تقدماً لروسيا في مواجهة العقوبات الغربية، وفرصة كبيرة للشركات الأجنبية الجديدة (وخصوصاً العربية) لدخول أسواق كانت حكراً على الشركات الغربية والأميركية.

رسمت روسيا لنفسها هدفاً مفاده أنّه بحلول عام 2030 يجب أن يتضاعف النموّ نحو 5 مرّات، إلى 10 تريليونات روبل، وذلك وفق “أجندة اقتصادية طموحة للغاية”

مؤشّرات متقدّمة

هذا لناحية الحضور، أمّا في المضمون فترى روسيا في المنتدى “أداة اتصال” بين المجتمع والحكومة، وترسم من خلاله آليّات التطوير الاستراتيجي للاتّحاد الروسي، بالتعاون مع جميع مؤسّسات التنمية في البلاد والمنظّمات غير الحكومية والجمعيات العامّة ووسائل الإعلام ومنظّمات الشباب.

أبدت روسيا نشاطاً غير مسبوق في مواجهة العقوبات ومحاولات عزلها عن العالم، واعترف بوتين الذي شجّع على تطوير الاقتصاد والتمويل وخفض الميزانية وضبط سعر صرف الروبل، بأنّ الربع الثاني من عام 2022 كان الأصعب.

لكنّ كلّ شيء تبدّل اليوم. فالتضخّم اقترب من أدنى مستوى تاريخي له عند 2.9 في المئة، والبطالة انخفضت إلى 3.3 في المئة، بينما تشهد المالية العامّة توازناً مائلاً إلى العجز بسبب تأجيل الإنفاق. ليست الأمور سهلة في ما يتعلّق بعائدات النفط والغاز بعد العقوبات، لكن في المقابل أصبحت ديناميكية الإيرادات غير النفطية والغازية تجذب الانتباه، بحسب ما يؤكّد المدير التنفيذي للمنتدى ومستشار بوتين، أنطون كوبياكوف.

خلال شهر نيسان من هذا العام، نما الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 3.3 في المئة، وبحلول نهاية العام سيرتفع أكثر من 1 في المئة أيضاً، وسيراوح النمو بين 1.5 إلى 2 في المئة.

“الإصلاح الذكيّ”: خطّة روسيا الجديدة

رسمت روسيا لنفسها هدفاً مفاده أنّه بحلول عام 2030 يجب أن يتضاعف النموّ نحو 5 مرّات، إلى 10 تريليونات روبل، وذلك وفق “أجندة اقتصادية طموحة للغاية”، وذلك بحسب بوتين الذي قال: “سنعزّز سيادتنا في جميع المجالات”، وخصوصاً بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا التي دفعت الدولة الروسية إلى أن تكون “المصدر الرئيسي للاستثمار” وأن تضاعف نفقاتها بمقدار مرّة ونصف.

تضع روسيا اليوم دراسة لخطّة جديدة سُمّيت “الإصلاح الذكي لرأسمالية الدولة”، وجوهرها الرئيسي هو الخصخصة، مع احتفاظ الدولة بـ”الحصّة الذهبية”، إضافة إلى بيع المؤسّسات غير الفاعلة مع اعتماد اللامركزية في إدارة الشركات التي تكون الدولة شريكة فيها.

إقرأ أيضاً: روسيا والمثليّة الجنسية: ما قصة “المليار الذهبيّ”؟

لا يرى منظّرو “الخصخصة الجديدة” في ذلك مشكلة، لأنّ ظروف العقوبات والتكلفة العالية للاقتراض نتيجة الاضطرابات تجعل من المستحيل إنقاذ الكثير من أصول الدولة، ولهذا يقول منطقهم: “لا بأس بالخصخصة”، فبعدما كانت أصول الدولة “خطاً أحمر”، أصبحت الخصخصة ممكنة، لكن من دون المساس بالمصالح الاستراتيجية.

أمّا سعر صرف الروبل فيرى منظّرون اقتصاديون روس أنّه في “منطقة آمنة” إلى حدّ كبير، بل في منطقة مثالية للاقتصاد، إذ يراوح بين 80 و90 روبلاً للدولار الواحد، وهذا رقم مريح لميزانية الدولة وللمصدّرين والمستوردين على السواء.

*كاتب لبناني مقيم في موسكو

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…