وجَع “بايدن” من تمرُّد دول الخليج على رغباته!

مدة القراءة 7 د

ما بين الرياض وطهران وواشنطن مثلّث ملتبس يعبّر عن القواعد الجديدة في العلاقات بين الدول.
في الماضي القريب كانت مسألة تصنيف العلاقة ترتبط بتحالف أو عداء، صديق أو عدوّ، واليوم أصبحت تتعلّق:
1- حليف استراتيجي لكن تحكمه إدارة غير صديقة.
2- عدوّ استراتيجي لكن يمكن عقد صفقة معه.
3- دولة ليست عدوّة، لكنّها غير صديقة نضطرّ بحكم الواقع إلى أن نتعامل معها لأنّه ببساطة لا يمكن إغفالها أو إسقاطها من موازين حسابات الواقع الدقيقة.
لنتأمّل ماذا حدث في نصف العام الماضي فقط:
1- تمرّد دول الخليج بزعامة الرياض وأبو ظبي في “أوبك بلاس” على مطالب الرئيس الأميركي جو بايدن قبيل دخوله سباق الرئاسة للمرّة الثانية.
2- قمّتان برعاية السعودية، إحداهما عربية أميركية والأخرى عربية صينية.
3- اتفاق مفصّل للتعاون والاستقرار بين السعودية وإيران برعاية صينية، ثمّ توقيعه في بكين يوم 10 آذار الماضي.
4- قمّة عربية شاملة جامعة في جدّة بحضور الرئيس السوري بشار الأسد للمرّة الأولى بعد 12 عاماً من المقاطعة.
5- تبادل أسرى بين الحوثي والسلطة الشرعية مع الاستمرار بتمديد الهدنة.
6- لجنة أميركية – سعودية مقرّها جدّة تشرف على مفاوضات الهدنة في الصراع السوداني.

نحن في عالم له قانون جديد لمواجهة أزمات متعدّدة يمكن أن تتداخل وتصبح أزمة واحدة مركّبة ذات مخاطر مخيفة

زعامات الخليج على مساحة خارطة العالم
اليوم وخلال كتابة هذه السطور تأمّلوا أين زعامات دول الخليج العربي:
1- الأمير محمد بن سلمان في باريس في زيارة بالغة الأهميّة ولقاء مع ماكرون.
2- الشيخ محمد بن زايد في روسيا ولقاء مهمّ للغاية مع الرئيس بوتين.
3- الأمير تميم بن حمد في بغداد للمرّة الأولى لتدعيم الوجود الخليجي في شبكة المصالح العراقية.
4- الأمير فيصل بن فرحان في طهران بعد افتتاح السفارتين في السعودية وإيران، ولقاء مهمّ مع الرئيس إبراهيم رئيسي الذي وُجّهت إليه دعوة لزيارة المملكة.
قبل هذه الزيارات بثلاثة أسابيع كانت زيارة سلطان عُمان هيثم بن طارق لطهران.
يحدث ذلك كلّه في ظلّ 3 أحداث عالمية، وفي ظلّ 3 عناصر اقتصادية:

بالنسبة للأحداث:
1- استمرار الحرب الروسيّة الأوكرانية مع تصعيد في مستوى التسلّح واتجاه تصاعدي في الدمار والخسائر تمهيداً لخلق وضع أفضل لأيّ من الطرفين على مسرح العمليات قبيل التفاوض النهائي.
2- غزل سرّي بين طهران وواشنطن يمهّد لإبرام اتفاق نووي صرف لا يعالج الصراعات الإقليمية خلافاً لرغبات دول مجلس التعاون التي أعلنت رسمياً ضرورة مشاركتها في أيّ اتفاق إقليمي.
من هنا وصلت دول الخليج كلّها إلى قناعة بأنّ اتفاق واشنطن لن يكون أبداً بوّابة لتسوية إقليمية مع إيران، وأنّ الباب الوحيد المتاح هو التفاهم المباشر الصريح بين هذه العواصم وإيران. أمّا بالنسبة للضغوط الاقتصادية فإنّ هناك عدّة حقائق رقمية لا يمكن تجاهلها:
1- ارتفاع منسوب التضخّم العالمي من 6% إلى متوسط 8.5% مع بلوغه معدّلات غير صحيّة في دول مثل تركيا وإيطاليا وفرنسا ووصول الدين العامّ الأميركي إلى أعلى مستوياته التاريخية وانخفاض استخدام العملة الرسمية الأميركية بشكل غير مسبوق في التعاملات الدولية.
2- الوصول إلى حقيقة راسخة بأنّ سياسة العقوبات الاقتصادية والتجارية المفروضة على دول مثل الصين وروسيا وإيران وسوريا وفنزويلا، وقبلها بزمن كوبا، تعني خسائر لكلّ الأطراف، وأنّ هناك ألف طريقة وطريقة للتهرّب منها.
3- بالنسبة لأسعار الطاقة قامت دول “أوبك بلاس” بخفض أوّل للكمّيات في 5 تشرين الأول 2022 خلال اجتماع للأعضاء في النمسا بواقع مليون برميل يومياً، وهو ما يعادل 2% من إجمالي الإنتاج، وأمّا الخفض الثاني فكان طوعياً يوم 2 نيسان الماضي حينما أعلنت المملكة خفضها الطوعي البالغ 500 ألف برميل يومياً عند سعر 70 دولاراً للبرميل.

القراءة الصحيحة للرياض
يحدث ذلك بسبب القراءة الصحيحة للرياض لأوضاع الطلب في أسواق العالم الذي يعيش أزمة طاحنة بسبب الديون. فقد ارتفع الدين العالمي من 100 تريليون دولار إلى ما يلامس 300 تريليون دولار في نهاية العام الماضي.
بعد كلّ هذه التفاصيل المركّبة والمعقّدة والمتداخلة يمكن القول إنّه لم يعد في العلاقات الحالية مَن يمكن اعتباره حليفاً كاملاً أو عدوّاً مبيناً، ولم تعد هناك قطيعة كاملة أو تعاون مثالي، أو صداقة ممتدّة أو عداء مستحكم.
يلعب الجميع اللعبة بما يخدم مصالحه، بمعنى أنّه يمكن ضرب مصالح الحليف أو مكافأة العدوّ إذا دعت الحاجة وفرضت المصلحة.
إذاً دعوني هنا أصل إلى خلاصة رؤيتي التي قد تبدو للوهلة الأولى تآمريّة من الطراز المعقّد!
أقول إنّ الولايات المتحدة أو بالأصحّ إدارة بايدن غير قادرة على قبول تمرّد وليّ العهد السعودي على الرغبات الأميركية من خلال عدم خفض أسعار الطاقة وكمّياتها وتجميد أيّ تفاهم مع إسرائيل، والتقارب مع الصين (أكبر ميزان تجاري خارجي للمملكة مع الصين) وإدخالها إلى مفاتيح الحلّ من أوسع الأبواب من خلال اتفاق بكين بين الرياض وطهران.
هذا كلّه موجع للذات الأميركية ذات التكبّر الإمبراطوري التي يهدّد صعود العملاق الصيني بفقدانها المكانة والهيبة بالتزامن مع ظهور كيانات دولية مستقلّة.
من هنا غضّت إدارة بايدن النظر عن المخالفات الإيرانية في مبيع النفط الإيراني الذي انخفض إلى 300 ألف برميل في آخر عهد إدارة ترامب ووصل الأسبوع الماضي إلى ما بين 2.5 و3 ملايين برميل يومياً في عهد بايدن.
دخول إيران بقوّة على خطّ الإنتاج بهذا الكمّ، بالإضافة إلى وصول حجم الإنتاج الأميركي إلى 13.5 مليون برميل وبيع روسيا مباشرة للصين والهند، يؤثّر على سعر برميل “أوبك بلاس” الذي يراوح اليوم بين 70 و71 دولاراً للبرميل.
بناء على دراسة لمحطة بلومبيرغ الاقتصادي، فإنّ متوسّط السعر المطلوب كي تحقّق المملكة خطّتها الطموحة يجب ألّا يقلّ عن 75 دولاراً في المتوسّط.
يحدث ذلك في الوقت الذي عقدت فيه المملكة أكبر صفقة طيران تجاري في العقد الأخير مع الولايات المتحدة لإنشاء شركة “طيران الرياض” التي ستكون أقوى ناقل جوّي تجاري جديد في المنطقة.
يحدث ذلك فيما نجحت أبو ظبي في إبرام اتفاق مع واشنطن للحفاظ على البيئة نظيفة من استخدامات الطاقة، وهو الاتفاق الأكبر في التاريخ في هذا المجال ويبلغ 100 مليار دولار.

يلعب الجميع اللعبة بما يخدم مصالحه، بمعنى أنّه يمكن ضرب مصالح الحليف أو مكافأة العدوّ إذا دعت الحاجة وفرضت المصلحة

هذا كلّه توصيف للأزمة الجديدة التي يعيشها العالم والتي تحوّلت من حالة أزمة (crisis) إلى ما اصطلح على تسميته محرّرو قاموس كوينز الإنكليزي العام الماضي بـpermacrisis، وتعريفه بالنص: “الأزمة الدائمة التي يمكن وصفها بأنّها فترة ممتدّة من انعدام الأمن وعدم الاستقرار، نعرف متى بدأت ولا نعرف متى تنتهي”.

قانون جديد لمواجهة الأزمات
ببساطة نحن في عالم له قانون جديد لمواجهة أزمات متعدّدة يمكن أن تتداخل وتصبح أزمة واحدة مركّبة ذات مخاطر مخيفة.
في ظلّ هذا الفهم لطبيعة هذا العالم الشديد الذي يعيش حالة من التشكّل المعقّدة نرى:
1- الصين تدخل كلّ مناطق الصراع في العالم بقوة لكن بحكمة ومن دون تورّط.
2- الولايات المتحدة مستعدّة لبيع الحلفاء وإبرام صفقات مع الأعداء من إيران إلى فنزويلا، وتجري حوارات سرّية مع الكوريين الشماليين والسوريين.

إقرأ أيضاً: سماسرة الأزمات يتاجرون بمصائر 400 مليون عربي..

3- في ظلّ ضعف الاقتصاد الأميركي، فإنّ السياسة الأميركية تهدف إلى تكبيد المنافسين فواتير مكلفة، من الحلفاء الأوروبيين (في الغاز وتمويل الحرب الأوكرانية) إلى الضغط من أجل خفض أسعار الطاقة واتّباع سياسات نقدية من الاحتياطي المركزي الأميركي للإضرار بالعملات الأخرى.
4- بناء على هذه القراءة فإنّ دول الخليج العربي أصبحت متحرّرة تماماً من الالتزام بقواعد المصالح الأميركية، وتفتح أبواب الحوار المباشر مع بكين وموسكو وطهران، وتعطي الأولوية في الصفقات التجارية لما يخدم مصالحها العليا بالدرجة الأولى.
علينا أن نفهم الآن أنّ التعامل مع الحليف السابق الأميركي قد يكون من منظور التعامل مع إدارة غير صديقة.
ونفهم أنّ التعامل مع العدوّ السابق الإيراني قد يكون من منظور الإدارة التي ترغب في الصداقة تكتيكياً.
وعلينا أن ندرك أنّ إدارة بايدن لن تغفر لنا أنّنا نخدم مصالحنا العليا بصرف النظر عن خدمة مصالحها.
عالم شديد التعقيد يجب أن نفهمه جيّداً.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر:  Adeeb_Emad@

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…