“عندما أُنجز اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل (في 27 تشرين الأول 2022) أهدى الأميركيون إيران تشكيل حكومة عراقية برئاسة محمد شياع السوداني يهيمن عليها “الحشد الشعبي” الحليف لطهران. تُرى ماذا سيهدي الأميركيون إيران في حال إنجاز ترسيم الحدود البرّية الذي انطلق الحديث عنه في الأيام الماضية؟ فلننتظر ونرَ”.
هكذا علّق قطب سياسي لبناني على أنباء زيارة آموس هوكستين لتل أبيب الثلاثاء في 12 تموز الجاري، التي قالت وسائل إعلام إسرائيلية إنّها هدفت إلى البحث في إزالة التوتّر الحدودي بين لبنان وإسرائيل، فيما أشارت مصادر دبلوماسية إلى أنّه سيبحث أيضاً في ترسيم الحدود البرّية.
في اليوم نفسه أكّد وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب أنّ “طرح الترسيم البرّي جنوباً جدّي، وهو الحلّ لمختلف الإشكالات على الحدود الجنوبية، وهو لا يعني تطبيعاً”.
لبنان طلب رسميّاً بإيحاء أميركيّ؟
على الرغم من نفي البعض للحاجة إلى ترسيم الحدود البرّية، بحجّة أنّها مرسّمة منذ عقود والمطلوب إزالة التعدّيات الإسرائيلية عليها، واستبعاد البعض الآخر إمكان التفاوض عليها في ظلّ الفراغ الرئاسي، تقدّم لبنان بطلب الترسيم البرّي رسمياً في مناسبات متعدّدة، منها:
خلال الاجتماع الدوري للّجنة العسكرية الثلاثية التي يشارك فيها لبنان وإسرائيل و”اليونيفيل” في مقرّ قيادة الأخيرة في الناقورة في شهر حزيران الماضي، وفق ما أكّده مصدر دبلوماسي معنيّ لـ”أساس”، مشيراً إلى مطالبة الجانب الإسرائيلي بأن يكون جدّياً في هذا المجال. وجرى قبل أسبوعين بحث الأمر مع موفد للأمم المتحدة إلى القدس، فطالبت الأخيرة بسحب الحزب الخيمة التي نصبها مناصروه في منطقة بسطرة في مزارع شبعا المحتلّة.
تشبّه الأوساط المنخرطة في جهود الترسيم البرّي المفترض، التوتّر الحدودي الحاصل بذلك التوتّر المضبوط الذي شهدته الجبهة الإسرائيلية اللبنانية في ربيع وصيف 2022
– خلال لقاء الوزير بوحبيب في 10 الجاري مع كلّ من المنسّقة الخاصة لأنشطة الأمم المتحدة في لبنان الممثّلة الشخصية للأمين العامّ يوانا فرونتسكا، والسفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، لبحث التوتّر على الحدود جرّاء الجدار الأمني الذي تبنيه إسرائيل في الجزء الشمالي من قرية الغجر المحتلّة تكريساً لسيطرتها عليها، ونصب الحزب خيمة في بسطرة (إضافة إلى خيمة ثانية في المنطقة اللبنانية المحاذية للخطّ الأزرق).
ثمّة من يقول إنّ الجانب اللبناني طرح الأمر بعد إيحاء من الجانب الأميركي، إذ إنّ المفاوضات في ترسيم الحدود البحرية بين عامَيْ 2020 و2022 أدّت إلى فصل الترسيم البحري عن الترسيم البرّي. جرى هذا على الرغم من أنّ رئيس البرلمان نبيه برّي كان شدّد، قبل وأثناء إعلانه “اتفاق الإطار” الشهير لمفاوضات الترسيم البحري في الأوّل من تشرين الأول 2020، على تلازم الترسيم بين البرّ والبحر.
… وإجازة إيرانيّة تحت سقف التوتّر؟
بصرف النظر عن التفاصيل الكثيرة الأمنيّة والسياسية المحيطة بطرح الموضوع، فإنّ الأوساط المعنية بهذا الأمر الحسّاس تتعاطى معه مثلما تعاطت مع مفاوضات الترسيم البحري انطلاقاً من أنّ أبعاده إقليمية لا ثنائية، وأنّه إجازة من إيران ومن الحزب للتفاوض مع إسرائيل عبر الأميركيين الحريصين على تثبيت الهدوء والأمن على حدود الدولة العبرية مع لبنان، لأسباب تتعلّق بالتنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية وبحفظ أمن الغاز الإسرائيلي المستخرَج من حقل “كاريش” وغيره من الحقول والذي سيصدَّر إلى أوروبا. وهذا هو السبب الرئيس الذي حمل كبير مستشاري الخارجية الأميركية “لأمن الطاقة العالمي”، ومهندس الترسيم البحري، على العودة إلى الشاشة، مع توقّع أن يزور لبنان لأسباب متّصلة بقرب بدء الكونسوسيوم النفطي الحفر في البلوك 9 في المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان الذي يشمل حقل “قانا”، وبتقاسم عائدات ما يمكن اكتشافه من غاز فيه، إذ نصّ الاتفاق البحري على أنّ لإسرائيل جزءاً من عائداته تسدّده لها شركة “توتال إنرجي”.
تشبّه الأوساط المنخرطة في جهود الترسيم البرّي المفترض، التوتّر الحدودي الحاصل بذلك التوتّر المضبوط الذي شهدته الجبهة الإسرائيلية اللبنانية في ربيع وصيف 2022 والذي شكّل حافزاً وغطاءً لتكثيف التفاوض على الحدود البحرية وصولاً إلى إنجاز الترسيم. فتوالي حوادث الحدود خلال الأسابيع الثلاثة الماضية في الغجر، ونصب الخيمتين، ثمّ إلقاء إسرائيل قنبلة على شبّان تحرّكوا قرب الحدود في قرية البستان الجنوبية وجرح ثلاثة من “الحزب”، تماثل، حسب المراقبين، إطلاق “الحزب” في الثاني من تموز 2022 ثلاث مسيّرات فوق حقل “كاريش” أسقطت إسرائيل اثنتين منها، بينما كان هوكستين يتباطأ في دراسة خرائط الترسيم البحري، وهو ما أدّى في حينها إلى استعجال وتيرة تحرّكه وإلى تبادله الرسائل عن خطورة الوضع مع الأمين العامّ للحزب عبر المدير العام للأمن العام السابق اللواء عبّاس إبراهيم. وأفادت المعلومات في حينها أنّها رسائل إيرانية واضحة تتعلّق بتنامي الضغوط الأميركية الإسرائيلية المباشرة على إيران التي شملت تكاثر التفجيرات في إيران والاغتيالات لمسؤولين إيرانيين عن الملفّ النوويّ.
تذهب الأوساط المراقبة للتوتّر الحدودي، التي ترصد ما سيؤول إليه التفاوض على الحدود البرّية، إلى حدّ تشبيه سلوك “انضباط” التوتّر الذي مارسه الحزب عام 2022، على وقع التفاوض البحري، بما يجري حالياً
التشابه يشمل التوتير “المنضبط”
تذهب الأوساط المراقبة للتوتّر الحدودي، التي ترصد ما سيؤول إليه التفاوض على الحدود البرّية، إلى حدّ تشبيه سلوك “انضباط” التوتّر الذي مارسه الحزب عام 2022، على وقع التفاوض البحري، بما يجري حالياً. فنصر الله تريّث في خطابه لمناسبة الذكرى السابعة عشرة لعدوان تموز 2006، قبل 3 أيام، كالآتي:
– في ردّة فعله على إلقاء قنبلة على 3 شبّان كانوا عند السياج التقني، قالت الأخبار الإسرائيلية إنّهم من الحزب، أوضح نصر الله أنّ “الحادثة قيد التحقيق، وأنا أنتظر الإخوان أن يرسلوا لي ماذا جرى بالضبط على الحدود ليبنى على الشيء مقتضاه”. هكذا كان يتريّث بانتظار تحديد ما إذا كانت المنصّة العائمة التي استقدمتها إسرائيل لاستخراج الغاز من “كاريش” قد بدأت في ذلك أم لا، لتنفيذ تهديده بقصف الحقل، وصولاً إلى قياس بُعدها عن “كاريش”.
– تعامل مع الخروقات الإسرائيلية بالقول إنّه “منذ 2006 العدوّ الإسرائيلي كان يستمرّ بالخروقات… لكنّ هذا الأمر كان وما يزال مسؤولية الدولة ومسؤولية الجيش مع “اليونيفيل”، والمقاومة تساعد”. تماماً كما حصل مع الترسيم البحري، إذ كان يقول إنّه يقف خلف موقف الدولة التي تقرّر المناسب في خطّ الحدود البحرية، فيما كان منخرطاً بأدقّ التفاصيل خلف الستار.
– أقرّ بأنّه “من السنة الماضية بدأ الإسرائيلي بتشييد سياج ليضمّ القسم الشمالي من بلدة الغجر وفي الآونة الأخيرة أكمل السياج وشيّد الجدار وأزال الحواجز بين الجزء اللبناني والجزء السوري المحتلّ. وهذا كلام حاول الردّ فيه على تساؤل ردّده مصدر دبلوماسي في حديثه مع “أساس”: لماذا استفاق “الحزب” على قضية الغجر الآن في وقت نصب الجيش الإسرائيلي سياجاً فنّياً لفصل شمالها عن لبنان منذ أيلول عام 2022؟ وهو تساؤل يشبه ذلك الذي طُرح إبّان التفاوض على الحدود البحرية حين سأل هوكستين المسؤولين اللبنانيين: لماذا استفقتم الآن على حقل كاريش في حين أنّني أخبرتكم قبل سنتين بأنّ إسرائيل تقدّمت في الحفر والاستكشاف فيه وقريباً ستستخرج منه الغاز؟
العبارة المفتاح والأسئلة المتشكّكة
العبارة المفتاح في خطاب نصر الله الأخير هي قوله في معرض تبريره إقامة الخيمتين في بسطرة المحتلّة وما يدور حولهما من توتّر: “قيمة الخيم أنّها أضاءت من جديد على كلّ الوضع على الحدود”. وأضاف: “توجد مشكلة تحتاج إلى حلّ، منذ 17 سنة هناك مشكلة لم تُحلّ، كما قصّة ترسيم الحدود البحرية”.
لا يدع الكلام الحرفيّ لنصر الله مجالاً للشكّ في أنّ ما يجري على الأرض يستدرج التفاوض على الحدود البرّية، تحت غبار وضجيج التوتّر الحدودي، من دون أن يلغي ذلك المخاطر من انفلات محدود نتيجة سوء تقدير للحسابات، سواء من إسرائيل أو من “الحزب”.
إقرأ أيضاً: TransOcean تَحفِر قبالة “شبه دولة”!
لا تلغي مؤشّرات الاتجاه نحو التفاوض الأسئلة المتشكّكة في إمكان نجاحه، نظراً إلى حراجة الموقف حيال نقطتين من نقاط الحدود البرّية الـ13 المختلَف عليها والتي جرت معالجة ستّ منها وبقي سبع، الأهمّ بينها هي نقطة الـB1 عند الناقورة التي تؤثّر على انطلاق خطّ الحدود البحرية. ولا تلغي أيضاً الأسئلة عن اختلاف الظروف الراهنة عن ظروف التفاوض في البحر، سواء لجهة غياب رئيس في لبنان أو صعوبة تقديم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو تنازلات كالتي قدّمها سلفه يائير لابيد السنة الماضية أو مدى استعداد سوريا للإقرار بحقّ لبنان في جزء من مزارع شبعا المحتلّة… إلى غير ذلك من الأسئلة.
لكنّ مصدراً دبلوماسياً رفيعاً معنيّاً بمسألة الحدود البرّية أبلغ “أساس” أنّ التفاوض على الحدود البرّية يفتح الباب على سلّة تفاوض في ظلّ أزمة الفراغ الرئاسي المتشعّبة المواضيع إقليمياً.
لربّما هذا ما دفع القطب السياسي إلى السؤال عن الثمن الذي ستحصل عليه إيران مقابل الترسيم في البرّ.
وللحديث صلة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@