في الأسبوع الماضي كتبت في “أساس” مقالةً بعنوان: “أهل السُّنّة ما لهم وما عليهم”. والذي لهم أن يبقوا فئات اجتماعية معتبرة كما كان شأنهم دائماً، وفي المجتمع السياسي اللبناني أن يكونوا لُحمةً تستعصي على الهوان والانقسام، ويجتمع من حولها اللبنانيون في أزمنة الراحة والشدّة فتصنع الجديد والمتقدّم لأعضائها ولمجتمعها ولمحيطها العربي.
عندما قرأت مذكّرات الرئيس صائب سلام وجدت هذا التجسيد لِما أقوله طوال القرن العشرين: أربعة أجيال تتوالى على بناء المدن الحديثة ومؤسّساتها الاجتماعية والاقتصادية، وتمضي باتجاه الجميع من أجل بناء الاستقلال والدولة الحديثة، وتعمل مع العرب من موقعٍ متقدّمٍ في اعتبار الانتماء الواحد والمصير الواحد.
لا يمكن تصوّر المجتمع السياسي اللبناني بدونهم، ولا المجتمع التربوي والاغتراب. وعندما بدأت النزاعات في البلاد، سواء في الخمسينيات أو الستّينيات، كان شعارا صائب سلام اللذان لا يختلفان ولا يخفتان: “التفهّم والتفاهم”، و”لبنان واحد لا لبنانان”. وما غادرتهم أبداً روح المدينة ولا وعيها بمسؤوليّاتها.
ترتبط حياة العرب الباقية بالذات بمنطق الدولة، وهو المنطق الذي تعتنقه الكثرة الكاثرة من اللبنانيين اليوم. الكثرة الكاثرة تريد الاستقرار والإعمار وتطمح إلى الجديد والمتقدّم في العالم من حولها
طرابلس القويّة والمُكتفية
أخبرني والدي، ونحن من قريةٍ نائيةٍ بجبل لبنان، أنّ رئيس جمعية المقاصد عمر الداعوق أتى إليهم عام 1933 فبنى لهم مدرسةً ومسجداً، وظلّت الجمعية حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي ترسل إليهم المدرّسين، وتستقدم أولادهم بعد الشهادة الابتدائية ليتابعوا دراستهم في معاهدها ببيروت. وعندما أتيت إلى بيروت في الستّينيات كان زملائي في الدراسة من البقاع وعكّار وصيدا والجنوب. وكان الطرابلسيون قلّةً بيننا، فلمّا سألنا عن سبب ذلك قال لنا الفتيان الطرابلسيون إنّ لديهم مدارس ومعاهد أقدم من أمثالها في بيروت. لكنْ لأنّ بعض أهلهم يعملون في العاصمة آثروا متابعة دراستهم في بيروت، بدليل أنّ المقاصد فتحت مدارس في سائر أنحاء لبنان باستثناء طرابلس القويّة والمكتفية التي تنشر ثقافتها في الجوار الشمالي أيضاً.
في بيان “الفجر الصادق” الذي افتتحت به جمعية المقاصد أعمالها التربوية عام 1878 يذكر مؤسّسو الجمعية أنّ “الوطن في نهوضه مثل الطائر الذي لا يطير إلّا بجناحين، وقد نهض أحد جناحيه، فيكون من الملائم للاجتماع وليس للافتراق أن يحلّق الجناح الآخر ليستقيم أمر الطائر وأمر الوطن”.
عندما أشرقت “نهضة” رفيق الحريري بين أواخر السبعينيات وأواسط الثمانينيات، وكان جناحها المحلِّق تربويّاً وتعليميّاً أوّلاً، ونصف المستفيدين من الأرياف، ذكرتُ للرئيس الحريري مقولة السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1864-1920) أنّ العالِم والسياسي اللذين يريدان النجاح حقّاً ينبغي أن يتوافر لكلٍّ منهما: “أخلاق الرسالة”، و”أخلاق المسؤوليّة”. أخلاق الرسالة تقتضي الاندفاع في حملها وأخلاق المسؤوليّة تقتضي الاحتراف الذي يتطلّبه تتبّع وسائل وسُبُل التنفيذ.
كان ذلك في مطالع التسعينيات، وكانت مؤسّسة الحريري في ذروة نشاطها، وتبتعث الآلاف إلى جامعات لبنان وأوروبا والعالم. طلب إليّ الحريري أن أُكرّر ما قلتُ ففعلْتُ. فاتّخذ وجهه البسّام صبغة الجدّية وقال وأراد أن يسمع ذلك الحاضرون بالمجلس: “لو فكّرتُ قبل عشر سنوات كما أفكّر الآن لما اهتممتُ إلّا بالتعليم. لقد بدأ أوائل خرّيجي المؤسّسة يتردّدون عليّ ولا فرحة تُضاهي فرحتي وأنا أستقبلهم وأُصغي إليهم، بعدما ودّعتهم قبل سنواتٍ قليلة ذاهبين إلى جامعات العالم”. قلت له: “لكنّني سمعتُك تقول إنّك كنت تطمح إلى أن تكون رئيساً لبلدية بيروت”! فضحك وقال: “النهوض ينبغي أن يكون شاملاً، والعمران في التعليم وفي تجديد شباب مدننا. وطموحي الآن أن تصبح الفئات التي تعلّمت، هي الفئات التي تتشكّل منها الطبقة السياسية الجديدة بعد الحرب”.
تعرّض سُنّة لبنان لمحنةٍ قاسيةٍ بسبب المشروع العمراني الذي تحمّلوا أعباءه. وكما يلتحق الأوباش بالنخب البانية في أزمنة النهوض، يلتحق الضعفاء والمتردّدون بالمخرّبين في أزمنة المِحَن أو النكبات
فلماذا حصل ما حصل؟
هناك أسبابٌ خاصّةٌ وعامّة. أهمُّ الأسباب الخاصّة بلبنان أنّ الذين تعلّموا ليعمّروا وليكوّنوا نخبة لبنان الاقتصادية والسياسية ليسوا هم الذين تولّوا أمور الشأن العامّ، بل الذي حصل أنّ أبطال الحرب الداخلية هم الذين استمرّوا في السيطرة بعد انتهاء الحرب. أمّا الأسباب العامّة فهي عربية وإقليمية ودولية. ففي التغالُب على مستوى المنطقة، سيطرت جهاتٌ وسياساتٌ بحيث ما عاد هناك إلّا زعماء متفرّدون، أو دول تتقاسم السيطرة فيها النخب الحزبية أو العسكرية مع الميليشيات المسلّحة (!).
ما اختلفت مصائر لبنان عن مصائر المنطقة في العراق وسورية وحتى في فلسطين. مشروع الحريري في لبنان ما انتهى باستشهاده، لكنْ ما ساد في المنطقة في زمن التغالب هو كما قلنا: “سياسات الهيمنة والغَلَبة، وخراب المدن والعمران”. فتأجّل المشروع الذي لا ينتهي لأنّه مشروع الحياة والعمران والمستقبل، وساد المشروع الآخر الذي ما تغيّرت ممارساته.
يُقال إنّ العملة الرديئة تطرد العملة الجيّدة من السوق. والمدنيّ هو الذي يصنع الحضارة، وأمّا الميليشياويّ فيصنع الدمار الذي لا يتحمّله البشر الأسوياء فيهاجروا أو ينكفئوا.
أهل السُّنّة في لبنان وسورية والعراق واليمن وليبيا والسودان في حالة انكفاء وتهجير. وهي المرحلة الجديدة بعد عقود سيطرت خلالها على الفضاء العام صورة أهل “التكفير والهجرة”، التي حاول المتطرّفون تعميمها على مشهد السُّنّة في لبنان والعالم، لكن من دون نجاح كبير. فهل تتغيّر المصائر باستمرار السطوة والحروب؟ بالطبع لا. لكنْ للنهوض أعباؤه الكبرى التي لا يتمكّن من عملها إلّا خرّيجو جامعات الحريري، ومدنيّو التعليم في سورية والعراق والبلاد العربية الأخرى المنكوبة بالزعامات وبالميليشيات التي سادت فيها.
زمان الخراب… في نهاياته
تعرّض سُنّة لبنان لمحنةٍ قاسيةٍ بسبب المشروع العمراني الذي تحمّلوا أعباءه. وكما يلتحق الأوباش بالنخب البانية في أزمنة النهوض، يلتحق الضعفاء والمتردّدون بالمخرّبين في أزمنة المِحَن أو النكبات. لنتصوّر ما حصل، فحتى في أوساط الأكثريّات خرجت ميليشيات تفوّقت على الآخرين في القتل والفتك. وهو زمانٌ يوشك أن ينتهي لكنّ آثاره أو بعضها ستبقى لزمنٍ طويل.
زمان الهيمنة والتخريب يوشك أن ينتهي، ليس بسبب متغيّرات السياسات الإقليمية والدولية، بل لأنّ منطق الدولة يقتضي ذلك أو تستمرّ البلدان في الهلاك والإهلاك، والمتضرّرون تُقدَّر أعدادهم بعشرات الملايين.
ترتبط حياة العرب الباقية بالذات بمنطق الدولة، وهو المنطق الذي تعتنقه الكثرة الكاثرة من اللبنانيين اليوم. الكثرة الكاثرة تريد الاستقرار والإعمار وتطمح إلى الجديد والمتقدّم في العالم من حولها.
إقرأ أيضاً: سُنّة لبنان ما لهم وما عليهم
لذلك حياة أهل السُّنّة اليوم مثل حياة سائر اللبنانيين: الاجتماع على إعادة تكوين المؤسّسات الدستورية، والاجتماع على أن يسود بالتدريج منطق البناء، وتظهر ولو بالتدريج فئاتٌ سياسيّةٌ همُّها إعادة البناء، ومغادرة المنطق الذي يقول إنّ لبنان مقدَّرٌ عليه أن تستفحل فيه أزمة كلّ عشر سنوات أو خمس عشرة سنة.
إنّ ما لأهل السُّنّة اليوم هو حقُّهم أن يكونوا مؤثّرين في صناعة حاضر وطنهم ومستقبله. والذي عليهم هو اجتماع الإرادة والكلمة على المهمّة التي كانت لهم طوال عمر لبنان: اللحمة الوطنية، وصنع الجديد والمتقدّم.