احتكاك إيجابي بين الحزب وأميركا بالفرنسية..

مدة القراءة 8 د


صحيح أنّه بات من المؤكّد أنّ حلّ أزمة الرئاسة اللبنانية التي تجتمع فيها كلّ عناصر الأزمة اللبنانية لن يكون في أجل قريب بالنظر إلى الاستعصاءين الداخلي والخارجي أمام إمكان اجتراح حلّ سريع لأزمة عميقة ومعقّدة تنطوي في طيّاتها مخلّفات الانقسامات اللبنانية، أقلّه منذ عام 2005، وقد أُضيف إليها انقسام جديد يتمثّل في الخلاف بين الحزب والتيار الوطني الحرّ بشأن الملفّ الرئاسي وأبعد منه حتّى، لا سيّما في ظلّ اتّخاذ الشرخ السياسي وجهات طائفية حادّة ستترك بلا أدنى شكّ بصمات أكيدة على قواعد اللعبة السياسية وعلاقات المجموعات اللبنانية بعضها مع بعض ضمن الاجتماع اللبناني وداخل النظام السياسي.
لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الحلّ للمعضلة الرئاسية وإن تأخّر أشهراً معدودة فهو قيد التحضير الآن أكثر من أيّ وقت مضى، ولو أنّ ظروفه، وبالتحديد الخارجية، لم تنضج بعد. بالتالي فإنّ الجمود الذي يلفّ الملفّ الرئاسي منذ جلسة 14 حزيران الماضي ليس جموداً كاملاً، باعتبار أنّ المبادرة الفرنسية دخلت، بعد تعيين جان إيف لودريان موفداً رئاسياً فرنسياً إلى بيروت، مرحلةً جديدة تجتمع فيها أكثر من ذي قبل، وخصوصاً لناحية الأجواء الخارجية المرافقة لها، شروط أفضل لنجاح المسعى الفرنسي ولو في أمد غير قريب.

مبادرة ضروريّة
والحال لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال اعتبار أنّ الحراك الفرنسي تجاه لبنان مسدودُ الأفق، بل على العكس تماماً. فالمبادرة الفرنسية لم تفقد غطاءها الداخلي، والأهمّ غطاءها الخارجي. فغطاؤها الداخلي متأتٍّ بالدرجة الأولى من قبول الحزب بها، فهو الطرف الأكثر قدرة على التحكّم بالملفّ الرئاسي. أمّا غطاؤها الخارجي فمتأتٍّ من دعم الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية لها، ولم تظهر بطبيعة الحال اعتراضات إيرانية عليها. طبعاً أمكن طوال الفترة الماضية رصد مشاغبات، داخلية وخارجية، على الطرح الفرنسي القائم على تبنّي ترشيح سليمان فرنجية مقابل تولّي نوّاف سلام رئاسة الحكومة، لكنّها مشاغبات “تكتيكية” في إطار ضيّق لا تُسقط الغطاء عن هذه المبادرة، خصوصاً أنّها الوحيدة القادرة على خلق أرضية سياسية في الداخل والخارج لإنتاج حلّ للأزمة المستعصية، وهي ضرورية لترجمة أيّ تفاهمات أو تقاطعات خارجية على الساحة اللبنانية.

المبادرة الفرنسية بنسختها الجديدة تتحرّك في ظلّ هذا المناخ الإقليمي المعقّد لكن المتأرجح بين مسارَي التصعيد والتفاوض ضمن سقوف مضبوطة، ولا سيّما بين طهران وواشنطن

إذاً النقطة المركزية في محاولة فهم تطوّرات الوضع اللبناني تكمن في الاعتراف بالدور المحوري لباريس على خطّ الأزمة الرئاسية. وهذا دورٌ يكتسب “شرعيّات” إضافية في ظلّ مناخ التفاوض الحاصل في المنطقة، وبالتحديد بين إيران والسعودية وبين أميركا وإيران. بالتالي فإنّ المنطقة بأكملها لا تسير في مسار تصعيدي مفتوح، بل على العكس تماماً، فالمسار الرئيسي فيها هو مسار تفاوضي وفي اتجاهات مختلفة. طبعاً من البديهي أنّ أيّ مسار تفاوضي ينطوي ضمناً وبالضرورة على خطوات تصعيدية بين القوى المتفاوضة لتحسين شروط التفاوض ورسم حدود النفوذ لكلّ منها، لكنّ هذا التصعيد يبقى مدروساً ومحدوداً ما دام المسار الرئيسي مساراً تفاوضياً لا مسار مواجهة.

مسار تفاوضيّ
هذا أمر يمكن رصده في مختلف دول المنطقة التي تشهدُ صراعات مباشرة و/أو بالوكالة منذ سنوات عديدة، بين إيران من جهة وبين أميركا وإسرائيل من جهة ثانية، وخصوصاً في سوريا، حيث إنّ الخطوات التصعيدية بين واشنطن وطهران لم تخرج طوال الفترة الماضية عن سقوف محدّدة يمكن أن تنسف المسار التفاوضي العريض، وإن كان التحشيد العسكري المتقابل في منطقة الفرات ينذر بمواجهة عسكرية بين الطرفين لا يمكن توقّع حدودها ونتائجها لكنّها لن تؤدي حتماً إلى معركة مفتوحة بينهما، ولو كانت إيران ستسعى إلى تحقيق نصرٍ استراتيجي هناك. وفي السياق عينه يمكن السؤال عن أسباب تراجع الضربات الإسرائيلية للأهداف الإيرانية في سوريا، التي كانت قد شهدت وتيرة تصعيدية غير مسبوقة في أعقاب توقيع الاتفاق السعودي – الإيراني؟ فهل يحصل ذلك بطلب أميركي أم الأمر متّصل بتوقيت إسرائيلي خاصّ؟
بيدَ أنّ التطوّرات الأخيرة في الضفّة الغربية المحتلّة وفي الجنوب اللبناني تعكس وجهاً رئيسياً من وجوه الصراع بين إيران وإسرائيل. وإذا كانت التطوّرات في الضفّة تخضع لمنطق خاصّ بالنظر إلى الصراع التاريخي بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال، فإنّ التوتّرات الأخيرة بين الحزب وإسرائيل على الحدود الجنوبية تحفّز على رصد حدود الصراع بينهما و”قوانينه”، لا سيّما بعد توقيع اتفاقية الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل في أيلول الماضي.
من جانب آخر، مهما تَكن طبيعة الأوضاع الراهنة في اليمن فهي أفضل ممّا كانت عليه قبل توقيع الاتفاق السعودي الإيراني. فالأكيد أنّ التبريد الإيراني السعودي بدأ ينعكس في اليمن، وفي منطقة الخليج ككلّ. حتّى إنّ مجريات الخلاف المتجدّد حول حقل الدرّة النفطي بين الكويت وإيران وموقف السعودية منها لم تعطِ مؤشّرات إلى أنّ العلاقة الجديدة بين الرياض وطهران تسير في اتجاه معاكس.
ربّ قائلٍ إنّ إيران تواصل احتجاز السفن في الخليج، وإنّ الغرب يواصل الضغوط على إيران في الملف النووي وملف حقوق الإنسان وفي موضوع إبقاء العقوبات على البرنامج الإيراني للصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة التي ينصّ قرار أممي بشأن الاتفاق النووي المبرم عام 2015 على رفعها في 18 تشرين الأوّل المقبل، لكن على الرغم من ذلك كلّه فإنّه لا يمكن القول إنّ العلاقة المتوتّرة بين الغرب وإيران هي الآن في مرحلة “الخروج عن السيطرة”، أو إنّ هناك عودة إلى مرحلة “الضغوط القصوى” على طهران.

ليس هناك أدنى شكّ في أنّ الرهان الفرنسي في لبنان كان يقوم منذ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت في صيف 2020 على تقاطعات أميركية إيرانية وسعودية إيرانية حول لبنان

ملفّان أساسيّان
والحال هذه فإنّ المبادرة الفرنسية بنسختها الجديدة تتحرّك في ظلّ هذا المناخ الإقليمي المعقّد لكن المتأرجح بين مسارَي التصعيد والتفاوض ضمن سقوف مضبوطة، ولا سيّما بين طهران وواشنطن. وهو ما يحيل بشكل أساسي إلى الملفّ اللبناني حيث يفترض تتبّع مجريات ملفّين مرتبطين مباشرة بالعلاقة بين أميركا والحزب ومن خلفه إيران، وهما ملفّا الحدود الجنوبية ومصرف لبنان. ففي الملفّين من المرجّح رصد “احتكاك إيجابي” بين واشنطن وطهران، بعد دخول أميركا على خطّ حلّ النزاع المستجدّ بين إسرائيل والحزب جنوباً على قاعدة أن يفكّك الحزب خيمته في منطقة مزارع شبعا مقابل وقف الجدار الذي تبنيه إسرائيل حول قرية الغجر المحتلّة، بما في ذلك نصفها الشمالي في الأراضي اللبنانية. وحتّى لو رفض الحزب هذا الطرح، فإنّ غالب الظنّ أنّ الوساطة الأميركية تلك ستفتح مساراً جديداً باتجاه الترسيم البرّي للحدود بين لبنان وإسرائيل استتباعاً لرعايتها الناجحة لملفّ الترسيم البحري بينهما.
أمّا في ملفّ مصرف لبنان فإنّ احتمال تولّي نائب الحاكم الأوّل وسيم منصوري مهامّ حاكم المصرف المركزي المنتهية ولايته رياض سلامة، ينطوي ولو بصورة غير مباشرة ومعلنة على تقاطع بين الحزب، الذي كان أمينه العامّ قد دعم سابقاً تولّي منصوري لهذه المهامّ وفق القانون، وبين واشنطن التي تولي اهتماماً خاصّاً لملفّ المصرف المركزي، علماً أنّ هناك تقاطعاً للمعلومات بأنّ الزيارة الأخيرة لمنصوري لواشنطن كانت “ناجحة”. وهذا كلّه لا يمكن فصله عن المسار العامّ للمفاوضات بين أميركا وإيران.

زخم جديد
ليس هناك أدنى شكّ في أنّ الرهان الفرنسي في لبنان كان يقوم منذ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت في صيف 2020 على تقاطعات أميركية إيرانية وسعودية إيرانية حول لبنان. ولذلك هذه الاحتكاكات الإيجابية، سواء بين واشنطن وطهران أو بين الأخيرة والرياض، تعطي زخماً أكيداً للمسعى الفرنسي لحلّ الأزمة الرئاسية. هذا المسعى الذي تكمن نقطة قوّته الرئيسية في أنّ فرنسا هي الجهة الوحيدة القادرة على التحرّك بين الدول المعنيّة بالملفّ اللبناني، خصوصاً أنّه لم يعد ممكناً توقّع حلّ داخلي للأزمة، بل إنّ الحلّ هذه المرّة أيضاً سيكون في مرتكزاته الأساسية خارجياً، مع إبقاء هامش للقوى السياسية لرسم صورة مصالحها في التسوية الجديدة أو لإيجاد طرق مناسبة لـ “النزول عن الشجرة”.

إقرأ أيضاً: الفدرالية: بوابة الحزب لتغيير النظام.. و”الحُكم”

لكنّ السؤال: إلى أيّ حدّ الحزب مستعدّ لخفض شروطه الحالية لتسهيل التسوية؟ الواقع أنّ الظرف الإقليمي الذي يشهد “هجمة” إيرانية لتكريس أقصى حدّ من النفوذ في المنطقة يتيح له التمسّك بأعلى سقف لمطالبه، لكنّه لن يطالب من تلقائه بما لا يمكن له تحقيقه. وهذا لا ينطبق حتّى الساعة على ترشيحه لسليمان فرنجية، إذ ما تزال استراتيجيته الرئاسية قائمة على إيصاله إلى قصر بعبدا. لكنّه قد يبدي، في المقابل، ليونة في ما يخصّ التعديلات الدستورية. وهو ما أشار إليه أمينه العام في خطابه الأربعاء. بيد أنّ الأكيد أنّه يريد تركيبة للحكم مؤاتية بكاملها له، من رئاسة الجمهورية مروراً بمجلس الوزراء والتعيينات العسكرية والإدارية، وصولاً إلى البرلمان حيث سيسعى ألّا تتكرّر تجربته المريرة مع البرلمان الحالي. لكن كيف سيتصرّف خصومه التقليديون في هذه الحالة؟ والأهمّ كيف سيتصرّف جبران باسيل الذي لعب معظم أوراقه ولم تبقَ له سوى ورقة يلعبها مع الحزب؟

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@

مواضيع ذات صلة

قنوات مفتوحة بين قائد الجيش و”الثّنائيّ الشّيعيّ”

في آخر موقف رسمي من الانتهاكات الإسرائيلية اليومية والفاضحة لقرار وقف إطلاق النار تكرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “لفت نظر” لجنة المراقبة لوجوب وقف هذه…

“اللقاء الديموقراطي” يدعم التوافق على جوزف عون

أقلّ من 25 يوماً تفصل عن موعد الاستحقاق الرئاسي. حراكٌ في مختلف الاتّجاهات، وتشاورٌ على كلّ المستويات. الشغل جدّي لإجراء الانتخابات يوم التاسع من كانون…

سفراء الخماسيّة “أسرى” جلسة الرّئاسة!

لا صوت يعلو فوق صوت “مطحنة” الأسماء المرشّحة لرئاسة الجمهورية. صحيح أنّ الرئيس نبيه برّي يتمسّك بتاريخ 9 كانون الثاني بوصفه المعبر الإلزامي نحو قصر…

سليمان فرنجيّة: شريك في رئاسة “قويّة”

من يعرفه من أهل السياسة أو من أهل الوسط يصفونه بفروسيّته ربطاً بأنّه يثبت على مبدئه مهما طال الزمن ومهما تقلّبت الظروف. سليمان فرنجية الحفيد…