ما بين الوليّ والحاخام أبعد من كفرشوبا والغجر

مدة القراءة 7 د


في خطابه الذي اختتم به مراسمَ عاشوراء في عام 2019، ربط الأمين العامّ للحزب ربطاً وثيقاً لا فكاك منه بين “استراتيجية المقاومة” ومحوريّة الالتزام الديني والولاء المطلق لمرشد الثورة الإسلامية السيّد علي خامنئي.
قال نصرالله حرفيّاً: “نحن هنا من لبنان نقول للعالم كلّه إنّ إمامَنا وقائدَنا وسيِّدنا وعَزيزنا وحُسينَنا في هذا الزمان هو سماحة آية الله العظمى الإمام السيد علي الحسينيّ الخامنئي دام ظلُّه، وإنَّ الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران هي قلب المحور وهي مركزُه الأساسيّ وهي داعمُه الأقوى وهي عنوانُه وعنفوانُه وقوّتُه وحقيقتُه وجوهره”.
لا يُمكنُ مُطلقاً فهمُ استراتيجية الحزب في المنطقة، وتشديدُه على الموقع “الاستراتيجي” لرئيس الجمهوريّة، وعلى دور لُبنان في هذا المحور، إلّا من خلال هذا المفهوم الدينيّ العميق الذي يربط الحزبَ بإيران على نحوٍ وثيق، ويربط الطرفين بمفهومِ التراث الشيعيّ الحُسينيّ الاثني عشريّ. وبالتالي فإنّ كلّ ما يُقال عن مستقبل النظام السياسيّ اللُبناني، وعن قضايا الحدود وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر ومزارع شبعا وغيرها، وعن آفاق الصراع مع إسرائيل، يفقد كلَّ أهميّته ما لم يُنظر إليه من هذه الزاوية الدينية الشرعيّة التكليفيّة.
تكتسب هذه الصفة الدينيّة بُعداً عميقاً في ذهن نصرالله وأذهان مقاتلي الحزب. حتى لتكاد بعضُ روايات من قاتَل منهم إسرائيل في عام 2006 تربط الجزء الأكبر من أسباب الانتصار بهذا البعد الدينيّ. فيروي المقاتلون حكاياتٍ كثيرةً عن رؤى في خلال المعركة، وعن صاروخٍ كان يستهدف دبّابةً فأصاب بالصُدفة منزلاً اجتمع فيه قادةٌ إسرائيليون.

نحن أمام فترة خطيرة جدّاً، ذلك أنّ كلّ شيء قابلٌ للتسويات إلاّ القناعات الدينيّة

قاسم نقلاً عن خامنئي
في كتابه “الوليّ المُجدّد” يشرح نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم الأفكار التي نقلها عن خامنئي بالنسبة للبعد الإيماني في قضيّة فلسطين. فنقرأ أنّ مرشد الثورة يقول التالي:
1 – إنّ قضيّة فلسطين بالنسبة للجمهوريّة الإسلاميّة ليست أمراً تكتيكيّاً، بل هي أمرٌ بنيويّ أساسيّ ناشئ عن الاعتقاد الإسلامي.
2 – إنّ تكليفَنا بأن نُحرّر هذا البلد الإسلاميّ من سُلطة وقبضةِ القوّة الغاصبةِ وحماتِها الدوليين وبأن نُرجعها إلى شعب فلسطين، إنّما هذا تكليفٌ دينيٌّ وواجبٌ على جميع المسلمين.
3 – إنّ قضيّة فلسطين قضيّةُ عقيدةٍ وقضيةٌ إنسانيّة وليست قطعة أرض وحسب. هي ليست قضيّةً سياسيةً أو قضيّةَ نفوذٍ إقليميّ ودوليّ، بل هي قضيّةُ إيمان واعتقاد، وهي ستتحرّر.
4 – فلسطين سوف تتحرّر ولا يخالجكم أيّ شكّ أو شُبهة في هذا الخصوص. فلسطين ستتحرّر، وهي يقيناً ستعود إلى أهلِها.

اليهو – مسيحيّة: دمار إسرائيل
هذا اليقين الإيمانيّ بتحرُّر فلسطين يقابله في المعتقدات اليهوديّة والمسيحيّة الإنجيليّة الأصوليّة قناعةٌ بدمار إسرائيل قبل عودة السيّد المسيح ثمّ الانتصار على كلّ الأعداء. ومَن يُراقب ازديادَ نسبةِ جنوح الخطاب الدينيّ الإسرائيليّ صوب التعصّب والتشدّد والعنصريّة في الحكومات أو حتّى المؤسّسة العسكريّة في السنوات القليلة الماضيّة، يُدرك من دون جُهدٍ كبيرٍ أنّ القناعات الدينية والماورائيّات والغيبيّات صارت تتحكّم بمفاصل الصراع أكثر من أيّ شيء آخر، وهي التي قد تُفجّره في أيّ لحظة على الرغم من الضوابط الأميركيّة والدوليّة المعهودة.
يدعمُ هذا الطرح الإسرائيلي العنصريّ، الذي استباح جنين ونابلس في الأيام القليلة الماضية، والراغب بطرد الفلسطينيين من مناطق واسعة من الضفّة واستكمال تهويد البشر والأرض والشجر، عنصريون آخرون وأكثر خطورة، وهم من يُسمَّون بـ”الإنجيليّين الجدد” أو “الإنجيليّين الصهاينة”. وقد بات عددُهم في الأميركيّتين الشماليّة والجنوبيّة يربو على 100 مليون شخص، ويملكون الكثير من وسائل الإعلام والمال والتأثير.

ماذا يعني كلّ هذا؟
نحن أمام فترة خطيرة جدّاً، ذلك أنّ كلّ شيء قابلٌ للتسويات إلاّ القناعات الدينيّة. ربّما موجات الإرهاب والتكفير الرهيبة التي اجتاحت المنطقة في السنوات القليلة الماضية وجلبت معها عقولاً مغسولة من دول العالم قاطبةً، وعقولاً أخرى جاهزة للانتقام من “الآخر” وتستند إلى تفسيرات غريبة ومُضلِّلة لنصوص إسلاميّة عريقة، كانت خيرَ شاهدٍ على قسوة ودمويّة هذه الحروب التي جعلت المسلم يُبسمل ويُحمدل وهو يذبح مُسلماً آخر في شرقنا، والبوذيّ المعروف بتسامحه يذبح المسلم ويهجّره ويهدم قراه في بورما، و”بوكو حرام” و”داعش” ينهشان أجساد المسلمين والمسيحيين من نيجيريا حتّى أدغال إفريقيا ومدنها، والمسلم الأويغوريّ الصينيّ والأوزبكيّ والشيشانيّ يؤاخون المسلمَ الأوروبي في مذابح الدم، ضمن ما يصفونه بـ”الجهاد الدمويّ” لإقامةِ الخلافة العتيدة، بينما الُمسلمان الشيعيّ والسُنّيّ في شرقنا كادا يغرقان بحروب دمويّة تمتدّ لمئة عام أخرى.
يأخذ هذا المشهد اليوم بُعداً خطيراً بين تشدّد محور “المقاومة والممانعة” المستند خصوصاً إلى عمق ديني (شيعي في إيران وعند الحزب، وسُنّيّ عند حركتَيْ حماس والجهاد) وتطرُّف المحور الإسرائيليّ الإنجيليّ. وطالما أنَّ كلَّ طرفٍ يعتبر أنَّ هذه فرصتُه الدينيّة والسياسيّة للانتصار على الآخر، فمن الصعب التفكير في مستقبل تفاوضيّ سلميّ إلّا حين تقتضي مصلحةُ الطرفين ذلك، كما حصل في ترسيم الحدود البحريّة بين لُبنان وإسرائيل. فمثلُ هذه الاتفاقيات تؤجّل الحروب ولا تُلغيها.
فكيف لا نكون جاثمين فوق برميل بارود في هذا الشرق الذي تحوّل إلى مهد الحروب ولحدِ ناسِها، بعدما كان مهدَ الأديان ومنارةً للعلوم والحَرْفِ والحضاراتِ الإنسانيّة.

الحرب الكبرى آتية؟
ثمّ ماذا لو طرحنا سؤالاً آخر:
إذا كانت كلُّ اتفاقيّاتِ “السلام” منذ مؤتمر مدريد ثمّ اتفاقية أوسلو وعمليّاتِ التطبيع العربيّة  والمبادرة العربية للسلام في قمّة الدول العربية في بيروت عامَ 2002، لم تؤدِّ إلى أيّ تقدّم على المسارِ التفاوضيّ السلميّ، وإذا كانت القناعاتُ الدينيّة تزداد حضوراً في المنطقة، فمَن يستطيع بعد اليوم لجمَ حربٍ كُبرى تُكمل الدمارَ وحمّاماتِ الدم والدموع؟
ما لم نجد جواباً منطقيّاً على هذا السؤال، وما لم يضع العربُ مشروعاً موحَّداً وموحِّداً لحلٍّ عادلٍ ومُنصفٍ للقضيّة الفلسطينيّة قبلَ كلّ شيء، وإقناعِ العالم بأنّه لا يُمكن القبولُ بأيّ حلّ منقوصٍ لا يُعطي الفلسطينيّ دولةً كاملةَ الأوصافِ ومُستقلّة، فإنَّ المنطقةَ برُمَّتها ستبقى فوقَ بُركانٍ قابلٍ للانفجار الدينيّ في أيّ لحظة.
الخطرُ اليوم لا يُشبه أبداً مخاطرَ الأمس، ليسَ بسبب ترسانات الأسلحة الاستراتيجيّة لدى المحورين، وإنّما لأنّ فوق هذه الترسانات توجدُ قناعاتٌ دينيّة سيكون من المستحيل ضبطُها في المُستقبل.

إيران – السعوديّة: فرصة.. أو انفجار
ربّما التقارب الإيرانيّ السُعودي، الذي أعقب الخطوات الجريئة جدّاً من قبل وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان للجم التطرّف والغلوّ الدينيّين وإعادة النظر في الفكر الوهّابيّ نفسه، يفترض مقاربةً أخرى لما بقي من صراعٍ عربيّ إسرائيليّ، ولما بقي من أزمات المنطقة، وبينها أزمة لُبنان، تؤكّد من جهة على الحقّ الفلسطيني في إقامة دولة مُستقلّة وسيّدة، وتفيد من المحاور الدوليّة بين الغرب والشرق لفرضِ معادلةٍ سلميّة مُغايرة وأكثر فعّاليّة من كلّ ما حصل سابقاً، وتُساهم في التسويات المحليّة وتُشجّع على الحوار والتوافقات.

إقرأ أيضاً: فاغنريّو لبنان وقائد الجيش والرئاسة

هذه فرصةٌ نادرة قد تدفع صوب انفراجاتٍ حقيقيّة لو استُغلّت نظراً لحاجة الأطراف الدوليّة المُلحّة إلى دول المنطقة وثرواتها ومعابِرِها، أو تؤدّي إلى انفجاراتٍ كُبرى خدمةً لمصالح الآخرين، وتتقدّم فيها القناعات الدينيّة التفجيريّة على الخيارات السياسيّة التفاوضيّة، خصوصاً أنّ شبابَ فلسطين أثبتوا جيلاً بعد جيل أنّهم لن يتعايشوا مُطلقاً مع آخر نظامِ فصلٍ عُنصريٍّ دمويٍّ حاقدٍ في العالم.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: samykleyb@

مواضيع ذات صلة

سوريا: حصان الاقتصاد الجديد في الشّرق؟

“إنّه ذكيّ جدّاً (إردوغان). لقد أرادوها (أراد الأتراك سوريا) لآلاف السنين، وقد حازها، وهؤلاء الناس الذين دخلوا (دمشق) تتحكّم بهم تركيا، ولا بأس في ذلك”….

أسئلة في العقبة حول تفرّد الشّرع بالمرحلة الانتقاليّة

من بين الأسئلة الكثيرة التي تناولتها اجتماعات العقبة العربية الدولية السبت الماضي مدى استعداد أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) لإشراك قادة المعارضة الآخرين في إدارة المرحلة…

سوريا: تركيا تتقدّم.. إيران تتراجع.. والعرب يتمهّلون

شكَّل سقوط النظام السوري تتويجاً للمتغيّرات بالمنطقة، وعنى تراجعاً للمحور الإيراني، وتعاظماً للنفوذ الإسرائيلي والتركي. والفرق أنّ تركيا تملك قوّة عسكرية وقوّة ناعمة، بينما لا…

“أساس” يُحاور بشّار الأسد: يحيى خرّب كلّ شيء

في غرفة أقرب ما تكون إلى الظلمة منها إلى الضوء، جلست ومعي قلم ودفتر بعدما سحبوا منّي آلة التّسجيل. كانت الساعة فوق الموقدة المشتعلة تُشير…