لا شيء يوحي إلى الآن أنّ الاتّفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، يتجاوز حدود خفض التوتّر بين البلدين، الذي يعبّر عنه التزامان واضحان:
– الأوّل: هو توقّف الصواريخ والمسيّرات الحوثية، المرعيّة إيرانياً، من اليمن باتّجاه المدن السعودية.
– والثاني: هو خفض التصعيد الإعلامي السعودي ضدّ النظام الإيراني لا سيّما عبر محطة “إيران إنترناشيونال” الناطقة بالفارسية، التي تحوّلت إلى المصدر الأوّل للمتلقّي الإيراني الغاضب والثائر في شوارع المدن الإيرانية منذ مقتل الشابّة مهاسا أميني، مضافاً إلى ذلك وعود استثمارية سعودية في إيران قد تساعد على التخفيف من نتائج الانهيار الاقتصادي الإيراني.
يكتنف الغموض والتناقض كلّ ما عدا ذلك. فإيران زادت من أنشطة اعتراض السفن في مياه الخليج، عبر سلوك عدوانيّ يهدّد بتقويض المبادرات الدبلوماسية القائمة. وفقاً للبحريّة الأميركية، شاغبت إيران بحدود وأشكال متفاوتة على أكثر من 20 سفينة تجارية ترفع علماً دوليّاً في الخليج منذ عام 2021، وهو ما يثير شكوكاً جدّية بشأن حقيقة التزام إيران بالاستقرار الإقليمي والتعايش السلمي في الخليج.
لا شيء يوحي إلى الآن أنّ الاتّفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، يتجاوز حدود خفض التوتّر بين البلدين
وما زاد من تفاقم هذا المناخ العدواني، عودة إيران للمطالبة بحقوق سيادية في حقل غاز الدرّة، الأمر الذي استدعى تأكيداً سعوديّاً حاسماً أنّ الحقل المذكور هو ملكيّة سيادية مشتركة لكلّ من المملكة والكويت. وسبق لمثل هذه الادّعاءات في السابق أن أوصلت البلدين إلى مواجهة عسكرية محدودة بالطائرات أُسقطت في خلالها 3 طائرات إيرانية خرقت الأجواء السعودية، بأوامر مباشرة من الملك الراحل فهد بن عبد العزيز. وقد أمر الملك يومها على مسمع رفيق الحريري بالإعلان عن إسقاط طائرة واحدة فقط لتقليل حجم الإحراج الإيراني وضبط التصعيد.
المربك فعلاً أنّ التصعيد المستجدّ حول حقل الدرّة يتزامن مع اجتماعات سعودية إيرانية على هامش مؤتمر أوبك الأخير قبل أيام بحثت في مستقبل الاستثمارات المشتركة في قطاع الطاقة، حيث تتشارك إيران والمملكة 28 حقلاً غازيّاً غير مفعَّل.
فأيّ المقاربتين تعبّر عن سلوك إيران الحقيقي حيال خفض النزاع والتوتّر مع الإقليم؟ بل أيّ إيران هي التي نتعامل معها في الإقليم؟ هذا هو السؤال الأهمّ الذي تعكف عليه الدوائر السياسية في الخليج.
صراعات إيران الداخليّة
واحد من التفسيرات التي توضح الإشارات الإيرانية المتناقضة يشير إلى خلفيّات الصراع الداخلي الحادّ داخل الهيكل السياسي المعقّد في إيران. فلم يكن عابراً إقصاء الأمين العامّ للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني من منصبه بعد أيّام من الاتفاق السعودي الإيراني والذي برز فيه شمخاني كممثّل لبلاده، أكان في حفل التوقيع أم في الاتصالات والزيارات التي سبقت وأعقبت الإعلان عن الاتفاق. وعُزيت الإقالة يومها إلى إدانة علي رضا أكبري، الذي عمل لسنوات مع شمخاني، بتهمة التجسّس لصالح بريطانيا، والحكم عليه بالإعدام (أُعدم مطلع العام الجاري).
بيد أنّ التدقيق في تفاصيل صراعات النظام الإيراني يشير إلى خلفيّات أخرى لإقالة شمخاني، التي وضعها البعض في سياق ردّ الحرس الثوري الإيراني على إقالة رئيس استخباراته ورجل الحرس الثوري داخل النظام، حسين طائب، صيف عام 2022، بعد سلسلة من الإخفاقات الاستخباراتية البارزة، التي تسلّلت منها إسرائيل ونفّذت ضربات موجعة في الداخل كاغتيال العالِم النوويّ محسن فخري زاده. أدّت إقالة طائب إلى تمركز النفوذ الاستخباراتي في يد شمخاني وعزّزت بالتالي من ديناميكيات الصراع بين الأجنحة المتشدّدة داخل الحرس الثوري وبقيّة مكوّنات النظام المعقّد التي تتنافس بلا هوادة على تشكيل سياسات البلاد الداخلية والخارجية.
واحد من التفسيرات التي توضح الإشارات الإيرانية المتناقضة يشير إلى خلفيّات الصراع الداخلي الحادّ داخل الهيكل السياسي المعقّد في إيران
ماذا قال شمخاني للسّعوديّين؟
ينقل مصدر خليجي عن شمخاني قوله إنّ خامنئي لن يسمح بنموّ التفاهم السعودي الإيراني أبعد من الحدود الدنيا للاتّفاق. وهذا ليس مستغرباً في ظلّ احتدام المعركة الداخلية في إيران خلال ما يسمّيه البعض “اللحظة الانتقالية” إلى ما بعد خامنئي لا سيّما بعد مقتل عنوان المستقبل الإيراني الجنرال قاسم سليماني.
قُتل سليماني بعد نحو عام على إطلاق المرشد عام 2019 في الذكرى الأربعين للثورة استراتيجية “الخطوة الثانية” للجمهورية الإسلامية، فاتحاً الطريق أمام إعادة هيكلة واسعة للنخبة الحاكمة والتمهيد لجيل جديد من شبيبة الثورة تحت قيادة سليماني، ووفق تعريف محدّد للأهداف الاستراتيجية للثورة.
ما زاد من شراسة التحدّي الذي تواجهه إيران أنّ شبيبة مضادّة انفجرت في وجه نظام خامنئي بعد مقتل الشابّة مهاسا أميني في أيلول 2022، ما لبثت أن تحوّلت من مستوى المطالبة بالحرّيات الفردية إلى مستوى المطالبة بإسقاط النظام، وهو ما شكّل أحد أكبر وأخطر الاحتجاجات ضدّ النظام منذ عام 2009. وقد عكست صراعاً ثانياً بين عموم النظام وتيّار شبابيّ عريض يُضاف إلى الصراع داخل النظام نفسه. وهذا أدّى إلى أنّ الانتخابات الإيرانية عام 2020 حقّقت أدنى مشاركة للناخبين منذ قيام الجمهورية الإسلامية، لتؤكّد هذه اللامبالاة على أزمة ثقة بقدرة النظام على تلبية تطلّعات شعبه، والإحباط المتزايد من الافتقار إلى إصلاحات سياسية واجتماعية جوهرية.
إقرأ أيضاً: إيران – السعودية: إمتحان “حقل الدرّة”.. والذكاء الاصطناعي
إيران العالقة في هذه الدوّامة المعقّدة من الديناميكيات المتناقضة، التي يُضاف إليها دائماً عنوان الصراع بينها وبين إسرائيل، عاجزة عن تطوير المصالحة مع المملكة العربية السعودية باتّجاه تعاون إقليمي أوسع. وهذا التفاهم محطّة قد تكون عابرة في مسيرة نظام ثوري يقف اليوم عند منعطف حاسم، ما لم تنجح جمهورية خامنئي في معالجة التحدّيات الداخلية والخارجية التي يواجهها النظام.
وحدها هذه النتائج ستكشف مسار إيران المستقبلي في المنطقة وخارجها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@