لا بوادر لحلول في الأفق الغزّيّ. نتانياهو يبحث عبثاً عن طوق نجاة ينقذه من نهاية مأساوية تدخله التاريخ من النفق، وأزمته معقّدة مع جيشه وقضائه والأحزاب، ويوم المساءلة والمحاسبة على الأبواب، ولا يملك من مخرج سوى مواصلة دكّ القذائف وإطالة لائحة الضحايا والمجازر التي قد تنقلب مزيداً من تشويه صورته وصورة كيانه، ويعانده صمود فلسطيني وتضحية استثنائيان لا مفرّ منهما. جو بايدن قلبه على إسرائيل وأمنها واستعادة هيبتها وعينه على تجديد ولايته الرئاسية في انتخابات حاسمة يعتقد أنّ إرضاء اللوبي اليهودي بإراقة الدم الفلسطيني قد يجنّبه خسارتها. المخارج التي يسوّقها لا قدرة لأحد على القبول بها أيّاً كان الثمن. مصر لا يضيرها أن ترى إسرائيل في مأزق، ولن تتساهل مع تهجير جديد لا يحتمله أيّ حاكم في القاهرة. الترانسفير خطّ أحمر لأمنها القومي، وخطورته تتجاوز خطورة المسّ بمياه النيل. يمكن المصريون تحمُّل العطش. لا يمكن تحمّل بيع السيادة والأرض. غزّة للفلسطينيين وسيناء للمصريين، ما عدا ذلك كلام لا محلّ له في قواعد الإعراب المصرية.
لا جدوى للتصعيد العسكري
في غياب الأفق السياسي يستعر التصعيد العسكري وإن كان من دون جدوى. تعتقد إسرائيل أنّ تفكيك “حماس” بضرب بنيتها العسكرية يردّ لها اعتبارها، ويسهّل لها حلّ مشكلة الفلسطينيين بترحيل القسم الأكبر منهم وتطويع البقيّة بسلطتين على مقاسها في الجزءين الباقيين من الضفّة والقطاع أو في غزّة الجديدة، تكونان شرطة إضافية لها تحمي حدودها والمستوطنات مقابل فتات اقتصادي لا يغني ولا يسمن. واشنطن تخشى ذهاب إسرائيل بعيداً في خيار سياسي كهذا من شأنه التأثير على عملية التطبيع وتأجيج التطرّف في المنطقة. لذا ما تزال توافق على إضعاف “حماس” على أن يتبع ذلك تمهيد لتشكيل حكومة إسرائيلية أقلّ يمينية والعودة نظرياً إلى حلّ الدولتين الذي صار أكثر تداولاً وأكثر صعوبة في الوقت نفسه.
في بيروت، صمدت المقاومة الفلسطينية والمقاومون اللبنانيون ثلاثة شهور في وجه اجتياح إسرائيلي شديد الضراوة حظي بدعم أميركي واسع
تسعى الإدارة الأميركية إلى فرض إيقاعها على المعركة مع “حماس”. أوفدت كبير ضبّاطها في معركتَي الفلوجة عام 2004 ضدّ تنظيم “القاعدة” والموصل عام 2016 ضدّ “داعش”، الجنرال جيمس غلين الملقّب بـ”سفّاح العراق”، إلى إسرائيل لتقديم النصيحة لقادتها العسكريين باختيار أحد خيارين: نموذج الموصل وهو مزيج من الضربات الجوّية الدقيقة وغارات العمليات الخاصة المستهدفة، وفتح ممرّ آمن لخروج المدنيين والمقاتلين لتسهيل الاستيلاء على المدينة ولو طال وقت العملية، أو نموذج الفلّوجة، أي شنّ هجوم برّي واسع النطاق، من شأنه أن يعرّض المهاجمين والرهائن والمدنيين للخطر، ويؤجّج التوتّرات في المنطقة.
لكن مهلاً، “داعش” و”القاعدة” مجموعتان مسلّحتان تحرّكهما أجندات مشبوهة لا تمثّل العراقيين لا بل أضرّت بهم عموماً، ولا سيما بالبيئة التي ادّعيا “نصرتها”. في غزّة اليوم المعركة ليست ضدّ “حماس” التي تمثّل قطاعاً واسعاً من الفلسطينيين، بل صارت ضدّ فلسطين وضدّ الشعب الفلسطيني كلّه. هكذا يصير القطاع أمام خيارين: بيروت 1982 أو الجزائر 1955.
في بيروت، صمدت المقاومة الفلسطينية والمقاومون اللبنانيون ثلاثة شهور في وجه اجتياح إسرائيلي شديد الضراوة حظي بدعم أميركي واسع. لكنّ حصيلته الفورية كانت إنتاج مقاومة وطنية لبنانية تمكّنت في بضع سنوات من طرد المحتلّ بالقوّة من أرض محتلّة للمرّة الأولى في تاريخ الصراع. هذه المقاومة ظلّت لبنانية صرفة إلى أن أُدخلت اللعبة الإقليمية في ظروف معقّدة ساعد في بلورتها احتدام صراع المحاور والطبيعة الطائفية للنظام اللبناني. أمّا المقاومة الفلسطينية التي خرجت من بيروت إلى تونس وعواصم عربية أخرى سرعان ما شقّت طريقها إلى فلسطين في اتّفاق سال حبر كثير في تقويمه واتّخاذ المواقف منه. لكنّ حصيلته النهائية هو أنّه أعاد القضية إلى حيث يجب أن تكون، على أرضها وترابها في الوطن الأمّ.
أمّا الجزائر التي احتلّها الاستعمار الفرنسي 132 سنة فقد سعى فيها بكلّ ما أوتي من قوّة إلى مسح هويّتها وإلحاقها بالكامل بأراضيه، فقد شهدت في 20 آب 1955 ما يشبه ما شهدته غزّة في 7 تشرين الأوّل
من بيروت إلى الجزائر
أمّا الجزائر التي احتلّها الاستعمار الفرنسي 132 سنة فقد سعى فيها بكلّ ما أوتي من قوّة إلى مسح هويّتها وإلحاقها بالكامل بأراضيه، فقد شهدت في 20 آب 1955 ما يشبه ما شهدته غزّة في 7 تشرين الأوّل. في ذلك اليوم وبعد نحو سنة من إطلاق جبهة التحرير الوطني الجزائري حرب الاستقلال، ظنّ الفرنسي أنّه أخمد الثورة بعدما اغتال عدداً كبيراً من قادتها وشتّت الآخرين في أصقاع الأرض، لا سيما في مصر. لكنّه صُدم عندما نزل رفاق زيغود يوسف من الجبل في قسنطينة بالبواريد القديمة وسكاكين المطبخ بجرأة نادرة، إلى مستوطنات (المعمّرين) الفرنسيين في القرى والمدن المحصّنة والمدجّجة بالسلاح وخرقوا حامياتها لساعات طويلة ثأراً لاغتيال قائدهم ديدوش مراد. أحدث الهجوم زلزالاً سياسياً ضخماً، وكانت رسالته واضحة أنّ تحت الرماد بركاناً متفجّراً وأنّ الجزائريين يريدون الاستقلال. جنّ الفرنسي فأمعن قتلاً ودماراً، وبلغت حصيلة ضحاياه مليوناً ونصف مليون شهيد جزائري. لكنّ جنونه أنتج القطيعة مع الجزائر وأجّج ثورة شعبها التي أثمرت بعد سبع سنوات من 20 آب 1955 استقلالاً وحرّية.
إقرأ أيضاً: قال غوتيريش كلمته… ولن تُمحى
مساحة الجزائر كبيرة، لكنّ مساحة فلسطين تتخطّى حدودها الضيّقة إلى أرجاء واسعة. 7 تشرين الأول أعاد فلسطين إلى مكانها. قبل هذا التاريخ كانت غائبة ومغيّبة، وكاد يطويها النسيان، وكانت خطوط التسويات والنفوذ تُرسم بعيداً عنها وعلى حسابها. اليوم عادت هي المحور وهي الأساس، فلا يمكن إبرام أيّ تسوية من دونها. وصارت القطيعة بين الطرفين أمراً حاضراً بعدما ظهر أنّ التنسيق وهم وفعل عبثي إذا لم يستند إلى توازن. بدت إسرائيل مفكّكة وسهلة الاختراق ووحدتها هشّة، ولن تعود أقوى حتى لو اجتاحت بدبّاباتها والطائرات القطاع، لأنّ الدمار سيُنتج مقاومة أشدّ وأفعل، ولأنّ حلفاءها لن يستمرّوا في هيمنتهم المطلقة، وكذلك العالم يتغيّر. يكفي في هذا السياق الإشارة إلى الدعم العالمي الكبير للقرار الأخير الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة والمطالِب بهدنة إنسانية فورية في غزّة على الرغم من الدولة العبرية وحليفتها الكبرى.
الدرب الفلسطيني طويل ومليء بالجمر، لكن لا بدّ من بعض التفاؤل في زمن التشاؤم والصور الرمادية.