غزّة: أكبر من السلطة وحماس.. أوسع من منظّمة التحرير

مدة القراءة 5 د


صوت المقاومة الفلسطينية عالٍ، لا يُعلى عليه، لكنّ إيقاع السياسة الفلسطينية خافت يكاد يطنّ. ومثل هذا الحال يبقي مطالب الفلسطينيين بالحرّية والدولة ذات السيادة الكاملة في مهبّ نيران الاحتلال الثقيلة.
منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل الفائت)، لم يعد ممكناً التصرّف على طريقة السلطة، ولا طريقة حماس التقليدية، فالأمر أكبر منهما وأوسع نطاقاً من منظمة التحرير أيضاً، حيث تشنّ إسرائيل برفقة الولايات المتحدة الأميركية هجوماً كاسحاً يستهدف في مبتغاه النهائي إسكات الصوت الوطني الفلسطيني.
ما تقوم به إسرائيل على أرض الواقع في غزّة والضفة الغربية، يفوق توصيف إبادة بشرية جماعية، ويتعدّاه إلى ذلك المتعلّق بكلّ الفلسطينيين أينما وجدوا وحلّوا، ليقول لهم إنّ حلمهم بنيل الحرّية، كبر أم صغر، سينال من الآن وصاعدا ما غشي غزّة وأكثر.
هذا ليس ما تقوله إسرائيل وحسب، بل ما تسعى إلى تحقيقه في مثال مواجهة المقاومة في غزّة، ومعها يؤيّدها بكلّ ما أوتي من قوّة، حلف غربي شرس، تقف على رأسه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، ولا رادع ولا زاجر لهم إلا من أصوات شعبية عالمية في غالبها ما زالت بعيدة عن التحوّل إلى ضغوط عملية على أصحاب القرار.
في غزّة، يتواصل سفك دم الفلسطينيين، وتدمير بيوتهم ومرافقهم، ومنعهم من الوصول إلى الماء، والغذاء، والوقود. كلّ ذلك على مدار الساعة وعلى مرأى من العالم أجمع، في الوقت الذي ترفض فيه إسرائيل وقف إطلاق النار. وفي الضفة الغربية، تتصاعد المواجهات الدموية بين مقاومين وناشطين من جهة، وجنود ومستوطنين إسرائيليين من جهة أخرى. وهي مواجهات لم تتوقّف أبداً.

إنّها ليست حرباً بين دولتين كما يحاول مسؤولون إسرائيليون تصويرها، بل إنّها الصراع الذي عاد إلى طبيعته الأصلية مع فجر السابع من أكتوبر الماضي

عودة الصراع إلى طبيعته
إنّها ليست حرباً بين دولتين كما يحاول مسؤولون إسرائيليون تصويرها، بل إنّها الصراع الذي عاد إلى طبيعته الأصلية مع فجر السابع من أكتوبر الماضي، عندما هزّ مقاومون فلسطينيون مؤسسة إسرائيل الأمنيّة التي تشكّل عماد احتلالها للفلسطينيين وأرضهم. إذن هي معركة جديدة بين الاحتلال والمحتلّ، بين الغاصب والمغتصب.
لأنّ الصراع عاد إلى طبيعته الأصلية، بعد محاولات مضنية لدفنه امتدّت على عقود، فإنّ ثمّة أهدافاً معلنة وواضحة تضعها إسرائيل ومن معها نصب أعينهم، وهي في باطنها تحمل ما يتطلّب فحصه جيداً حتى يتسنّى تلمّسه وإدراكه. إنّها الأهداف الخاصة بالحيلولة دون تحقيق الفلسطينيين مطالبهم بالحرّية والدولة.
لم تنتظر إسرائيل وقت حسم المعركة، ولا حتى قرب حلوله، وسارعت في شنّ هجومها السياسي الدعائي، وافتتحته بتوصيف المعركة على أنّها حرب بين إسرائيل وحماس. ويتمّ تقديم إسرائيل باعتبارها “الدولة الديمقراطية”، الحضارية التي تدافع عن نفسها أمام حماس “الداعشية الدموية المجرمة” التي لا تهدّد إسرائيل وحسب، بل إنّ تهديدها، وفق ما صرّح به رئيس وزرائها بنيامين نتانياهو، سيطال العالم بأسره.
بل إنّ آخرين في إسرائيل وصفوا غزّة بأنّها “دولة إرهابية نازية”. لذلك لم يتردّد أحد الوزراء في أن يدعو إلى محو غزّة بقنبلة نووية. وفي حقيقة الأمر أنّ الشهر الأوّل من المعركة شهد قصف إسرائيل لغزّة بأكثر من ثلاثين ألف طن من المتفجّرات، وهو ما يوازي ضعفَي قوّة القنبلة الذرية التي استخدمتها أميركا لضرب هيروشيما اليابانية.
يقع كلّ ذلك في نطاق الأهداف الشاملة للمعركة التي أخذت بالتطوّر سياسياً ودعائياً، ووصلت إلى مرحلة الحديث عن اليوم التالي لنهايتها، أو تحديد ملامح غزّة الجديدة، غزّة ما بعد السابع من أكتوبر، غزّة كما تريدها إسرائيل والإدارة الأميركية، لا ما يريده الفلسطينيون لغزّتهم ولدولتهم العتيدة. وراحت المقترحات والمقاربات الإسرائيلية والأميركية تتوالى، تتوافق، وتتضارب، لكنّها جميعاً تهدف إلى أمر واحد مفاده أن لا تكون غزّة أبداً ذات صفة وطنية فلسطينية، بل أن يصار إلى إخراجها من كنفها الفلسطيني.

رفض أميركا احتلال غزّة
تتحدّث إسرائيل عن إعادة احتلال، وعن إدارة أمنيّة، بينما تقترح معها معالجات مثل تهجير أهلها واستيطان أرضها، فيما ترفض أميركا إعادة الاحتلال وتفحص علناً مقترحات بإدارة عربية أو من قبل الأمم المتحدة، أو حتى من قبل السلطة الفلسطينية ومن دول عربية. مقترحات تلتقي وتتباعد، لكنّها تتفق على أمر واحد أكيد، وهو أن لا تعود غزة كما كانت قبل السابع من أكتوبر، وأن تخرج حماس منها أو أن تخرج هي من حماس، لا فرق، فهذا معناه العملي إبعاد غزة عن المقاومة وإبعاد المقاومة عن حماس، وهذا لا يمكن ترجمته إلا ببقاء الاحتلال.
يجري كلّ هذا البحث في مستقبل غزّة الفلسطينية، وخطاب الفلسطينيين، ما عدا خطاب المقاومة، ما زال يحبو بعيداً عن درجة الإبادة التي وصلت إليها المعركة. السلطة الفلسطينية ومعها فصائل منظمة التحرير لم تتمكّن من مغادرة موقفها الضعيف أمام حلّ الدوليتن الذي جرى دفنه مرّات ومرّات منذ إعلانه عام 1988. وحتى خطاب قادة حركة حماس لم ينجح في مضاهاة قوة الخطاب الإسرائيلي الأميركي الذي لا يأبه بآهات ضحايا أهل غزّة، وحتى بالكاد ينتبه لتصريحات قياداتهم.

إقرأ أيضاً: من يقود فلسطين… بعد حرب غزّة؟

ثمّة ما هو مطلوب أكثر من قادة فلسطين الكثر: خطاب يقوم على أنياب سياسية وأصوات تعلو على صوت الإبادة السياسية التي تنتهجها إسرائيل وأميركا، أصوات يخرج منها ما هو على مقاس الفلسطينيين وأحلامهم، لا على مقاس الاحتلال وأعوانه، وهو أيضاً أكبر من حماس والسلطة ومنظّمة التحرير.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…