لماذا لم يخسر إردوغان بالضربة الاقتصاديّة القاضية؟

مدة القراءة 8 د

صبيحة اليوم التالي لتقدُّم رجب طيب إردوغان في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التركيّة تراجعت الليرة التركيّة بحدّة لتقترب من أدنى مستوى سجّلته بعد زلزال شباط الماضي، وهوت أسعار السندات الحكومية والأسهم في بورصة إسطنبول إلى الحدّ الذي اضطرّها إلى وقف التداول مؤقّتاً. لكن هل كان الاقتصاد حقّاً ورقة إردوغان الخاسرة انتخابياً؟ يحتاج الأمر إلى بعض التدقيق، فالاقتصاد كما يراه المستثمرون في أسواق المال يختلف عمّا يراه الناخبون.
يمكن افتتاح الحديث هنا بالإشارة إلى تطوّرات مفصلية أثّرت في مسار الاقتصاد التركي في الأشهر القليلة الماضية، قد يكون أهمّها التغيّر الذي طرأ على السياسة الخارجية، مع عودة أنقرة إلى إصلاح علاقاتها السياسية والاقتصادية بمحيطها العربي، ولا سيّما السعودية والإمارات ومصر. ويمكن الإشارة بشكل خاص إلى الاتفاقية بين البنكَين المركزيَّين الإماراتي والتركي لمبادلة العملات بقيمة 18 مليار درهم (نحو 5 مليارات دولار) في كانون الثاني، والاتفاقية مع الصندوق السعودي للتنمية لإيداع خمسة مليارات دولار في البنك المركزي التركي في آذار الماضي.
يمكن إضافة هذا العامل إلى خطوات أخرى اتّخذها إردوغان، ومنها هندسة سياسة الودائع المضمونة بالليرة التركية، التي تتكفّل بموجبها وزارة المالية بدفع فارق سعر الصرف إذا انخفض عن حدّ معين، والتي أدّت إلى الحدّ من الدولرة في النظام المالي. ويمكن الالتفات إلى أنّ العملة التركية ظلّت مستقرّة نسبياً في الأشهر الأخيرة، أقلّه منذ ما بعد الزلزال المدمّر في جنوب شرق البلاد.

مشكلة تركيا في السنوات القليلة الماضية مع حركة المستثمرين الأجانب تشبه مشاكل مصر والأرجنتين والعديد من الدول الناشئة الأخرى

رهان المعارضة على الاقتصاد
غير أنّ ذلك لا يُغني عن النظر في السياق الأبعد للملفّ الاقتصادي ودوره في الانتخابات الأخيرة. كانت المعارضة التركيّة مقتنعة بأنّه إذا كان ثمّة عامل واحد يمكن أن يُخرج إردوغان من قصر الرئاسة فهو التضخّم بلا شكّ، ولذلك اختار مرشّحها الرئاسي كمال كليجدار أوغلو تصوير العديد من فيديوات حملته الانتخابية من مطبخ منزله، ليجعل تكاليف السلّة الغذائية الموضوع الأساس الذي يختار على أساسه الناخبُ مرشّحَه. وثمّة إجماع على مسؤولية إردوغان شخصياً عن السياسات التي أدّت إلى انخفاض الليرة بنحو 60% في العامين الأخيرين، وجنون التضخّم الذي وصل إلى نحو 85% في تشرين الأول الماضي، ولو أنّه انخفض إلى ما دون 50% في آخر البيانات. فقد بدا الرئيس، بصلاحيّاته شبه المطلقة، وكأنّه في كوكب خاصّ به وهو يصوغ السياسات المالية والنقدية، إذ خرج بنظرية معاكسة لِما هو سائد في أعراف البنوك المركزية الغربية حين أصرّ على خفض الفائدة فيما التضخّم يسجّل مستويات لا سابق لها منذ عقدين، وهذا ما أدّى إلى عزوف المستثمرين الأجانب عن الاستثمار في الأسهم والسندات التركية.
ظلّ إردوغان مصرّاً على نظريّته التي نالت الكثير من النقد والاستغراب في الصحافة الاقتصادية الغربية، حتى وصل الأمر بصحيفة “فايننشال تايمز” أن تنقل عن مديري الصناديق الاستثمارية قولهم إنّ مهمّة إعادة بناء الاقتصاد واستعادة ثقة المستثمرين “صعبة لدرجة مثيرة للسخرية”، بغضّ النظر عن هويّة الفائز في النهاية.
المفارقة أنّ إردوغان لم يتمكّن من السلطة إلّا بفضل نجاحه الاقتصادي في سنوات حكمه الأولى بعد عام 2002. فقد وصل إلى الحكم إثر واحدة من أشدّ أزمات التضخّم في العالم، سحقت القدرة الشرائية للطبقات الدنيا وأدّت إلى موجة إفلاسات في القطاع المصرفي. لكنّه بدا في السنوات الأخيرة وكأنّه لم يعد يستمع لأحد، حتى إنّه يبدو اليوم وكأنّه بلا “مايسترو” لسياسته المالية والنقدية. فعرّاب نجاحه الاقتصادي علي باباجان، الذي كان لسنوات طويلة وزيراً للاقتصاد ثمّ نائباً لرئيس مجلس الوزراء ومسؤولاً عن الملفّ الاقتصادي، تخلّى عنه واستقال من حزب العدالة والتنمية عام 2019. وكذلك فعل الخبير الاقتصادي الشهير محمد شمشيك، الذي تنقّل بين وزارتَي الاقتصاد والمالية بين عامَي 2009 و2015، وابتعد إلى لندن عام 2019. وقد اجتمع به إردوغان قبل أشهر من الانتخابات من دون أن يتمكّن من إقناعه بالعودة إلى صفوف فريقه، ربّما لأنّ إردوغان لم يبدِ استعداداً للتوقّف عن التدخّل المباشر في سياسات البنك المركزي. وحتى صهر إردوغان برات البيرق، الذي تولّى وزارة المالية بين عامَي 2018 و2020، استقال من منصبه وابتعد عن الأضواء، ولم يُعرف ما إذا كان الأمر استقالة أو إقالة.

أرقام التضخم وعناد أردوغان
تؤكّد أرقام التضخّم عناد إردوغان، إذ إنّه ارتفع إلى 11% في 2017، ولم ينخفض في أيّة سنة بعد ذلك إلى خانة الآحاد، بل إنّه قفز إلى قرابة 20% في 2021، ومع ذلك ظلّ إردوغان يقيل حاكم البنك المركزي كلّما رفض الامتثال لسياسة خفض الفائدة، فكانت النتيجة الانهيار المتسارع للعملة التركية في 2022 وقفزة التضخّم فوق 80% أواخر العام الماضي.
لكنّ إردوغان ليس عديم الخطّة كما يبدو، بل إنّه خاض مغامرة كبيرة. في النظرية الاقتصادية، يُحكى عن “ثلاثية مستحيلة” (impossible trinity)، ومفادها أنّ من المستحيل على أيّة دولة أن تجمع بين السماح بحرّية حركة الأموال، والتحكّم بسعر الفائدة، والتحكّم بسعر صرف العملة. لا بدّ للدولة أن تخسر إحدى زوايا المثلّث إذا أرادت الإمساك بالزاويتين الأخريَين.
اختار إردوغان عن سابق تصميم التحكّم بسعر الفائدة خلافاً لما يطلبه المستثمرون وفق منطق السوق، والإبقاء على حرّية حركة الرساميل، فكان لا بدّ أن يفلت من يده السيطرة على سعر صرف الليرة، وكان ثمن ذلك كبيراً على مستوى التضخّم والقدرة الشرائية للمواطنين.
لكنّ الرجل لديه أسبابه، فهو كان يعطي الأولوية لإعادة تحريك عجلة النموّ الاقتصادي بأيّ ثمن، بعد التباطؤ الذي وصل إلى حافة الركود عام 2019، أي قبل جائحة كورونا مباشرة. ومن المعروف في النظرية الاقتصادية أنّ الحكومات والبنوك المركزية تظلّ في حالة من شدّ الحبال المتقابل، إذ إنّ أولوية الحكومة، أيّة حكومة، تبقى دائماً دفع عجلة النموّ لإبقاء البطالة منخفضة، في حين أنّ أولوية البنك المركزي السيطرة على التضخّم والحفاظ على تنافسية العملة الوطنية. ولذلك تحبّذ الحكومات إبقاء الفائدة منخفضة لضخّ السيولة في الاقتصاد.

إردوغان ليس عديم الخطّة كما يبدو، بل إنّه خاض مغامرة كبيرة. في النظرية الاقتصادية

هذا ما فعله إردوغان بالضبط خلال جائحة كورونا، وقد نال ثناء وانتقاداً في الوقت نفسه من صندوق النقد الدولي. إذ إنّه سخّر البنوك الحكومية التركية لتوفير القروض بفائدة منخفضة خلال الجائحة، جاعلاً تركيا واحدة من دول قليلة سجّلت نمواً إيجابياً لناتجها المحلّي بنحو 1.9% عام 2020، لكنّ ثمن ذلك ما زالت تدفعه تركيا إلى اليوم، إذ قفز معروض النقد وانهارت الليرة وهربت أموال الأجانب الساخنة.
لكنّ اللافت أنّ تلك السياسة استمرّت، إذ سجّل الاقتصاد نموّاً استثنائياً بنسبة 11.4% في 2021، بحسب بيانات صندوق النقد الدولي، ثمّ أضاف نموّاً بنحو 5.8% في 2022، ليسجّل ثالث أقوى نموّ بين دول مجموعة العشرين، بعد السعودية الأولى، والصين.

هل كان اردوغان على حق؟
هل تكفي نسب النمو المرتفعة للقول إنّ إردوغان كان على حقّ؟ ليس تماماً، لكنّ تجربة تركيا في السنتين الماضيتين تعيد طرح جدليّة عميقة بين ما يحتاج إليه الاقتصاد وما يريده المستثمرون في أسواق رأس المال.
مشكلة تركيا في السنوات القليلة الماضية مع حركة المستثمرين الأجانب تشبه مشاكل مصر والأرجنتين والعديد من الدول الناشئة الأخرى. كلّ هذه الدول وجدت نفسها أمام مستثمرين أجانب يبيعون سندات خزائنها والأسهم في بورصاتها، ويتّجهون إلى الولايات المتحدة والأسواق الأخرى المتقدّمة التي تعطي فوائد مرتفعة. فما يهمّ المستثمرين الدوليين في النهاية هو “معدّل الفائدة الحقيقي”، أي الحصيلة النهائية للفائدة التي يحصل عليها بعد احتساب أثر تغيّر سعر الصرف. فمن يوظّف أمواله بالسندات التركية بفائدة 8% يحتاج إلى ثبات العملة على الأقلّ ليحصل على هذه النسبة فعليّاً، أمّا إذا تراجعت العملة إلى النصف فتكون الفائدة الحقيقية عندئذٍ بالسالب.

إقرأ أيضاً: أردوغان لم “ينتصر” و المعارضة لم “تنهزم”.. بعد

لذلك يبقى الحكم على السياسات الاقتصادية للدول الناشئة إلى حدٍّ بعيد مستنداً إلى هذا المعيار لدى المستثمرين.
ومن اللافت مثلاً أنّ مقالاً في “فايننشال تايمز” يشير إلى أنّ تركيا تحتاج إلى رفع الفائدة من مستوياتها الراهنة عند 8.5% إلى 40% لتجتذب المستثمرين الأجانب مجدّداً.
إذا فاز إردوغان في الجولة الثانية فبالإمكان المراهنة على أيّ شيء إلّا أن يغيّر سياسته في اتّجاه كهذا!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…