مصالحات كثيرة وسلام معدوم

مدة القراءة 9 د

يضيف مناخ المصالحات الجارية في المنطقة، ولا سيّما بين قوى الاستقرار في النظام العربي، أي مصر والسعودية والإمارات من جهة، واللاعبين في محور المقاومة، أي إيران وسوريا من جهة ثانية، بالإضافة إلى سياقات السلام والمصالحة الأخرى مع إسرائيل وتركيا، صفحة جديدة إلى تاريخ مديد من محاولات صناعة السلام والاستقرار في المنطقة، والتي نادراً ما كُتب لها طول العمر أو ثبات النجاح.

على الرغم من النوايا النبيلة والمساعي الدبلوماسية الحثيثة التي بدأتها الإمارات وتصدّرتها السعودية الآن، والحاجة الملحّة إلى الاستقرار، إلا أنّ الكثير من محاولات السلام على مر تاريخ الشرق الاوسط لم تثمر إلا لحظات عابرة من التفاؤل. وحيث نجح السلام، بقي بارداً من دون أن يتحوّل إلى ديناميّة حيّة تتوسّع باتجاه ترسيخ ثقافة سلام تتجاوز المصالح المباشرة للمعنيّين به.

منذ اتفاق العُلا في السعودية، الذي أنهى المقاطعة الخليجية والمصرية لقطر، تتقدّم المنطقة على خطى توسعة المصالحات وتصفير المشاكل، وذلك بموازاة عقد الاتفاق الإبراهيمي بين كلّ من الإمارات والمغرب والبحرين والسودان وإسرائيل

معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل

على الرغم ممّا شهدته السبعينيّات من لحظة محورية في العلاقات العربية الإسرائيلية مع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 بين إسرائيل ومصر والولايات المتحدة، ثمّ معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، إلا أنّ المعاهدة عزلت مصر عن بقيّة العالم العربي، بدل أن توسّع المكان بين العرب لمصر الجديدة الخارجة من ظلال جمال عبد الناصر وترسّبات خطابه القومي. وبقي السلام المصري الإسرائيلي، على الرغم من نجاحه كاتفاقية سياسية قانونية، بارداً. فلا تعمّق السلام باتجاه تطبيع شامل يفعِّل الإمكانات الكامنة لمناخ السلام، ولا قدّم الكثير لمعالجة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الأوسع، لتظلّ أحجية السلام كفكرة وثقافة ومنظومة قيم عصيّة على الحلّ.

بل فشل السلام المصري الإسرائيلي في التوسّع نحو لبنان، الذي وإن كان وقّع اتفاق سلام مع إسرائيل هو اتفاق 17 أيار 1983، إلا أنّ الاتفاق سرعان ما انهار متوسّطاً مساراً معقّداً لتغيير المعادلة السياسية في لبنان بين الانقلاب الدموي الذي بدأ باغتيال رئيس الجمهورية اللبنانية المنتخَب بشير الجميّل عام 1982 وسطو الميليشيات اليسارية والإسلامية على الدولة عام 1984. أمّا اتفاق الطائف الذي وُقّع في عام 1989 وأُنيط به إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، فما لبث أن تعرّض لأوّل الانهيارات الجدّيّة عبر اغتيال الرئيس رينيه معوّض، بعد شهرين من توقيع الاتفاق وبعد ثلاثين يوماً من إقراره كقانون في البرلمان اللبناني. ولئن استمرّ الاتفاق أعرجَ حتى عام 2005 فما لبث أن تعرّض لعملية اغتيال عاصفة مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بعدما كانت تخلّلته “تحوُّرات” في مضامينه ومراميه بسبب الخلل المستمرّ في مرتكزات التوازن السياسي في البلد والتحوُّلات في الإقليم.

اختلّ سلام لبنان على وقع اختلال مشروع السلام الأوسع في المنطقة الذي بشّرت به التسعينيّات مع مؤتمر مدريد في عام 1991 واتفاقيات أوسلو في عام 1993. فلا مؤتمر مدريد، الذي استضافته الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (قبل أسابيع من تفكّكه)، ورعى عملية تفاوض مباشر بين إسرائيل ولبنان والأردن وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، ولا اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير، أسفرت عن أفق ثابت للسلام أو منعت صعود اليمين الإسرائيلي الذي بدأ انقلابه باغتيال عنوان معسكر السلام في إسرائيل إسحاق رابين، ومهّد تالياً لأعمق انقلاب اجتماعي في إسرائيل مستمرّ حتى اليوم.

فشل السلام المصري الإسرائيلي في التوسّع نحو لبنان، الذي وإن كان وقّع اتفاق سلام مع إسرائيل هو اتفاق 17 أيار 1983، إلا أنّ الاتفاق سرعان ما انهار متوسّطاً مساراً معقّداً لتغيير المعادلة السياسية في لبنان بين الانقلاب الدموي

السلام في الشرق الأوسط

حين اقترحت جامعة الدول العربية من بيروت عام 2002، في أعقاب اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، وجريمة 11 أيلول 2001، التي نفّذها تنظيم القاعدة في نيويورك وواشنطن، واُفتُتِح بعدها عقدُ الحرب على الإرهاب، وقعت الدعوة على آذان صمّاء، كان أصحابها يتهيّأون في ذروة فوران مشروع المحافظين الجدد للانقضاض على العراق بعد أفغانستان.

ظلّ السلام بعيداً، إلى أن أطلّ مجدّداً من نافذة تعثّر المشروع العسكري الأميركي في العراق، في منتصف الولاية الثانية لجورج دبليو بوش، المنهك، والمحاصَر بفضائح أفغانستان والعراق، عبر مؤتمر أنابوليس عام 2007، الذي عُقد في الولايات المتحدة، بهدف تنشيط عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية.

كما محاولات عقلنة سوريا الجارية اليوم، عبر الاندفاعة الخليجية العربية نحوها، دُعيت سوريا إلى مؤتمر أنابوليس، ووافق على المشاركة، بشار الأسد الذي وجد في اللحظة السياسية هذه مناسبة للخروج من مأزق عزلته القاتلة التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري وخروج جيشه من لبنان. أدرك الأسد أنّ القليل سيتمخّض عن المؤتمر في ضوء اندفاعة إيران في العراق عبر تعزيز هيمنة “البيت الشيعي” وفي لبنان عبر حرب 2006 وفي الأراضي الفلسطينية عبر انقلاب حركة حماس صيف 2007 على “اتفاق مكّة” بين الحركة وفتح. وما إن أطلّ عام 2008 حتى أيقن الأسد أنّ المعادلة الإقليمية والدولية تغيّرت لصالحه مستعيناً بدور قطري لإعادة تسويقه في فرنسا عند الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، وهو ما أثمر دعوة الأسد إلى احتفالات العيد الوطني الفرنسي، بعدما كان سبقه انقلاب الحزب في لبنان على حكومة فؤاد السنيورة الأولى، الذي أنتج اتفاق الدوحة، وغيّر المعادلة السياسية في الداخل اللبناني بشكل يريح دمشق. سقط اتفاق مكّة، وسيسقط اتفاق الدوحة لاحقاً مع إقالة حكومة الرئيس سعد الحريري نهاية عام 2010 وسيدخل المشرق في أتون الثورة السورية المندلعة بعد ذلك بأشهر قليلة.

بعد ذلك تراجعت كلّ محاولات التقدّم نحو السلام والاستقرار في المنطقة، إن كان بين دوله المتخاصمة أو بين العرب وإسرائيل عامّة، لصالح تركُّز الجهود الغربية على معالجة القضية النووية الإيرانية. بلغت هذه الجهود ذروتها لحظة التوصّل إلى خطّة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، وهي اتفاقية بين إيران ومجموعة 5 + 1 (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا). سعى الاتفاق إلى تقييد برنامج إيران النووي مقابل تخفيف العقوبات، من دون أن يعالج الأدوار الإقليمية لإيران التي من شأن معالجتها فتح فضاء سياسي جديد للاستقرار في الشرق الأوسط الغارق في الانهيار المتعاقب لدوله. أُضيف إلى هذا الخلل البنيوي في الاتفاق، شهيّة إيران لتوظيفه لصالح مشروعها التوسّعي، واعتباره انتصاراً يؤكّد على صواب سياساتها التصعيدية. وما لبث انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية في عام 2018 في ظلّ إدارة الرئيس دونالد ترامب أن قوّض كلّ فرص هذه المحاولة التفاهميّة.

منذ اتفاق العُلا في السعودية، الذي أنهى المقاطعة الخليجية والمصرية لقطر، تتقدّم المنطقة على خطى توسعة المصالحات وتصفير المشاكل، وذلك بموازاة عقد الاتفاق الإبراهيمي بين كلّ من الإمارات والمغرب والبحرين والسودان وإسرائيل، بالإضافة إلى التفاهمات بين أبوظبي والرياض ونسبياً القاهرة مع تركيا. أمّا ذروة هذا المسار فإعادة سوريا إلى الجامعة العربية بعد 12 سنة من طردها في أعقاب القمع الوحشي للثورة السورية.

الآمال الضعيفة بالسلام والاستقرار

يحتاج المرء إلى الكثير من التفاؤل ليراهن على أن لا تلحق الاندفاعة التفاهميّة الراهنة بمثيلاتها، التي ما أنتجت سوى بعض الآمال الضعيفة بسلام واستقرار دائمين ومستدامين. فتاريخ محاولات السلام في الشرق الأوسط منذ السبعينيّات حتى الاتفاق النووي هو مسار طويل من الطموح المتجدّد والآمال المحبَطة. ولطالما دُفنت المصالح الأكيدة بالاستقرار والسلام تحت التعقيدات السياسية والعرقية والدينية في المنطقة، بالإضافة إلى الدور المدمّر للتدخّلات الخارجية، أو للتدخّل المدمّر للعواصم الثورية في شؤون الخارج.

إقرأ أيضاً: حِجاب السفارة.. رؤوسكم ملكٌ لي!

ففي تناقض صارخ مع التاريخ المضطرب لمحاولات السلام في الشرق الأوسط، تمكّنت أوروبا مثلاً من الحفاظ على واحدة من أطول فترات السلام المستدام في تاريخ البشرية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. لعب إنشاء المؤسّسات السياسية والاقتصادية التعاونيّة مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي دوراً مهمّاً في هذا الإنجاز، في حين عزّز الاتحاد الأوروبي، على وجه الخصوص، السلام على قاعدة التكامل الاقتصادي وتعزيز المعايير الديمقراطية بين دوله الأعضاء، ونجح في تبديد قرون من العداء بين الدول وتحويلهم إلى شركاء. كما كان تطبيق مبدأ الأمن الجماعي من قبل الناتو بمنزلة رادع ضدّ النزاعات المحتملة، ورافعة لِما يسمّى في الأدبيات السياسية باسم “السلام الطويل”، وهي تجربة تسلِّط الضوء على إمكانية الاستقرار الطويل الأمد عندما يتماشى التعاون الإقليمي، والمصالح الاقتصادية المشتركة، واتفاقيات الدفاع المتبادل بشكل فعّال. لذلك استطاعت أوروبا أن تتجاوز “الاستثناء اليوغوسلافي” ومنعت التفكّك العنيف ليوغوسلافيا من تهديد مرتكزات السلام الأوروبي بمثل ما تصارع أوروبا اليوم لمنع النزاع الروسي الأكراني من إسقاط سلام القارّة الطويل.

جلّ هذه المرتكزات غائبة في الشرق الأوسط، حيث تفتقر مبادرات السلام إلى العمق والاتّساع اللازمين لمواجهة التحدّيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقّدة في المنطقة، وهو ما يجعل منها مجرّد مشاريع هُدَن هشّة عرضة لتكرار الأزمات وتجدّد الصراعات. إنّ معركة معسكر السلام والاستقرار تكمن في جعل هذين المفهومين نقطة تحوُّل في الثقافة السياسية العربية لاستيلاد نهج يعالج الأسباب الجذرية لثقافة الصراع والمشاحنة وإعادة تعريف مفاهيم النصر والكرامة، بل إعادة تعريف الإنسان نفسه.

لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@

مواضيع ذات صلة

سوريا: حصان الاقتصاد الجديد في الشّرق؟

“إنّه ذكيّ جدّاً (إردوغان). لقد أرادوها (أراد الأتراك سوريا) لآلاف السنين، وقد حازها، وهؤلاء الناس الذين دخلوا (دمشق) تتحكّم بهم تركيا، ولا بأس في ذلك”….

أسئلة في العقبة حول تفرّد الشّرع بالمرحلة الانتقاليّة

من بين الأسئلة الكثيرة التي تناولتها اجتماعات العقبة العربية الدولية السبت الماضي مدى استعداد أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) لإشراك قادة المعارضة الآخرين في إدارة المرحلة…

سوريا: تركيا تتقدّم.. إيران تتراجع.. والعرب يتمهّلون

شكَّل سقوط النظام السوري تتويجاً للمتغيّرات بالمنطقة، وعنى تراجعاً للمحور الإيراني، وتعاظماً للنفوذ الإسرائيلي والتركي. والفرق أنّ تركيا تملك قوّة عسكرية وقوّة ناعمة، بينما لا…

“أساس” يُحاور بشّار الأسد: يحيى خرّب كلّ شيء

في غرفة أقرب ما تكون إلى الظلمة منها إلى الضوء، جلست ومعي قلم ودفتر بعدما سحبوا منّي آلة التّسجيل. كانت الساعة فوق الموقدة المشتعلة تُشير…