على كتف كلّ وزير في حكومة رجب طيب إردوغان الجديدة حمولة زنبيل من ملفّات فيها الكثير من الهموم والمشاكل. والزنبيل هو القفّة الكبيرة أو الوعاء الكبير.
الثقل الذي سيحمله وزير المالية الجديد محمد شيمشاك يفوق أضعاف المرّات ما سيتحمّله غيره من الوزراء. هو الذي “افترق” عن أردوغان قبل 5 سنوات، وله رأي مختلف عن رأيه، في جوهر “المشكلة”. الرئيس يرى فيها “مؤامرة خارجية”، فيما الوزير العائد إلى منصبه بعد 5 سنوات تركية عجاف، يشترط أن لا يتدخّل أحد في القرارات التي سيتّخذها خلال العامين المقبلين كي يضمن إيصال اقتصاد البلاد إلى برّ الأمان انطلاقاً من العودة إلى “أساس منطقي في السياسات الاقتصادية لضمان القدرة على التنبّؤ بتبعاتها”.
الصحافي المقرّب من حزب العدالة والتنمية عبد القادر سلفي ينقل وجود “رغبة لدى إردوغان في أن يدير شيمشاك ملفّ الاقتصاد خلال هذه الفترة”.
وقال شيمشاك في تغريدة بعد أداء اليمين الدستورية أمام البرلمان إنّ أولويّته هي “إعداد برنامج اقتصادي جديد جدير بالثقة”، وإنّ كلّ ما يريد هو “بعض الوقت والصبر لتشكيل فريق عمله الذي سيقوم بذلك”.
هكذا وافق شيمشاك على الإمساك بكرة النار بين يديه. ودخل حقل ألغام الاقتصاد التركي الذي يُخفي الكثير. فهو يعرف أنّ البلاد أمام مفترق طرق اقتصادي وماليّ حسّاس. ستكون المواجهة بين وعود سياسية ذات طابع اقتصادي اجتماعي ماليّ أعلنها إردوغان في حملاته الانتخابية، وبين ما يقوله ويريده شيمشاك وما يستطيع أن يفعله انطلاقاً من ميزانية حكومية فيها الكثير من التقشّف والحذر في الإنفاق وزيادة الضرائب واتّخاذ قرارات غير شعبية تتطلّبها المرحلة المقبلة.
وافق شيمشاك على الإمساك بكرة النار بين يديه. ودخل حقل ألغام الاقتصاد التركي الذي يُخفي الكثير. فهو يعرف أنّ البلاد أمام مفترق طرق اقتصادي وماليّ حسّاس
تولّى شيمشاك حقيبة وزارة المالية بين عامَي 2009 و2015 في عهد الرئيس إردوغان وأحمد داوود أوغلو. ووُصفت تلك السنوات بالفترة الذهبية في تاريخ الاقتصاد التركي. تطوّرات وأحداث ما بعد عام 2015 في تركيا، وبينها تدهور العلاقات التركية مع دول الجوار العربي، والخليجي تحديداً، ومحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، وارتدادات أزمة وباء كورونا على الاقتصاد التركي، وانفجار الحرب في أوكرانيا وما حملته من تبعات سياسية واقتصادية، كانت كلّها في مقدَّم أسباب تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع سياسة تركيا المالية.
فلماذا عاد إردوغان ليطلب “مساعدة” شيمشاك؟ لأسباب كثيرة:
– أوّلها خارجي: وهو كسب ثقة الأسواق الخارجية، خصوصاً الغربية منها. فقد عمل شيمشاك في أهمّ المؤسّسات والمنظّمات المالية العالمية ويعرف كيف يكسب ثقتها ودعمها له، وتتطلّب المرحلة المقبلة تحسين العلاقات مع العواصم الأوروبية وواشنطن بعد جمود وتدهور العلاقات، ولا سيّما أنّ هناك حوالي 200 مليار دولار من الديون التركية الواجب تسديدها خلال العام الحالي.
– ثاني هذه الأسباب داخلي، وهو تنفيذ الوعود المالية والاقتصادية والاجتماعية التي أطلقها حزب العدالة والتنمية في حملاته الانتخابية، ومنها مواجهة ارتفاع أرقام التضخّم والبطالة وغلاء الأسعار وتحقيق خطط رفع الحدّ الأدنى للأجور، وحلّ مشكلة سنّ التقاعد، وبرامج الدعم الاجتماعي للأسر، وإعادة هيكلة الديون، واستمرارية برنامج الودائع بالليرة التركية المحميّة، وحزم الدعم التي ينتظرها المزارع والطالب.
حاجة الرئيس لخبرات الوزير
يريد شيمشاك أن يقود إعادة تأسيس وبناء الاقتصاد التركي وامتصاص ارتدادات الأزمات المالية الحادّة التي عصفت بتركيا في بيئة مالية محلية وإقليمية صعبة، قبل الحديث عن الخطط والمشاريع الاستراتيجية الإقليمية العملاقة. فهل يوافق له إردوغان على ذلك؟
يقول إنّه لا يملك العصا السحرية، لكنّه سيفعل ما بوسعه. هو يعرف أنّ ما ينتظره عند الفشل لن يقلّ قساوة عمّا تعرّض له وهو يغادر مقعده الوزاري، حتى لو كان سيلعب دور من يشخّص المرض ويختار وصفة العلاج وسيكون في موقع الطبيب المداوي.
بين أولويّات شيمشاك استكمال تشكيل فريق عمله الماليّ والاقتصادي، وعلى رأسه الأكاديمية المعروفة حفيظة غايا أركان التي ستكون الرئيس الجديد للمصرف المركزي. وسيتمّ الإعداد لقرار يتعلّق بسعر الفائدة سيصدر بعد أسبوعين من الآن، وسيكون أوّل امتحان ومؤشّر إلى السياسة المالية الجديدة. لكن بين أولويّات الرئيس إردوغان إعادة إعمار المناطق المنكوبة بفعل الزلزال الذي ضرب البلاد في 6 شباط الماضي، وتجهيز مناطق شمال سوريا لاستيعاب مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في إطار العودة الطوعية التي يجري الحديث عنها في تركيا. فأين وكيف ستلتقي هذه المسارات؟
الوزير شيمشاك له أولويّاته طبعاً، لكنّ أولويّات إردوغان هي التي ستتقدّم. فكيف سينجح الطرفان في دمج الأولويّات وترتيبها؟ هي مهمّة شيمشاك قبل أن تكون مهمّة إردوغان.
اقتصادي منفتح.. ونظرية المؤامرة
كيف وأين ستلتقي أفكار إردوغان وقيادات حزب العدالة التي ما يزال بعضها يتبنّى نظرية المؤامرة وخطط استهداف تركيا واقتصادها من الخارج بهدف إزاحة الحكم، مع أفكار وطروحات شيمشاك، الاقتصادي المنفتح على العواصم الغربية التي عاش ودرس فيها ويتكلّم لغتها وحمل جنسيّتها إلى جانب هويّته التركية، والذي يتبنّى تطبيق نظريّات وقواعد اقتصاد السوق الحرّ والسياسات الاقتصادية التقليدية؟
كيف سيتعامل مع خطط التوازن السياسي والاقتصادي المعتمدة في الأعوام الأخيرة بين الشرق والغرب وإبقاء العلاقة التجارية والاقتصادية بين تركيا وروسيا على ما هي عليه اليوم؟ مع الأخذ بعين الاعتبار متطلّبات المرحلة الماليّة الصعبة وضرورة العودة إلى الانفتاح على الغرب بعيداً عن النماذج التي وضعها وطبّقها حزب العدالة والتنمية حتى اليوم..
استحالة الجمع بين ما يقوله إردوغان وما يريده شيمشاك اقتصادياً وماليّاً لإخراج تركيا من أزماتها واضحة كوضوح الشمس في عزّ النهار. فكيف سينجح الرجلان في التقريب سياسياً بين ما يقولانه ويريدانه لناحية منظومة العلاقات التي بناها إردوغان مع الخارج في العقدين الأخيرين وفيها الكثير من الحذر والدقّة والحساسيّة؟ هل يسمح لشيمشاك بالاقتراب منها وتعريضها للخطر وتركه يتلاعب بها من أجل الانفتاح على مؤسّسات النقد العالمية ومحاولة الحصول على القروض والتمويل العاجل الذي يحتاج إليه الاقتصاد التركي بأسرع ما يكون؟ من الذي سيتراجع أمام الآخر؟ هذا هو السؤال الذي ينتظر الإجابة. الحديث عن فرص للوصول إلى تفاهمات ترضي الجانبين فيه الكثير من الحقيقة طبعاً. لكنّ المشكلة هي: هل يرضي تفاهمهما هذا الشركاء والحلفاء الذين يرفضون سياسة أنقرة الحالية المنفتحة على روسيا والعواصم الغربية في الوقت نفسه؟
إقرأ أيضاً: تركيا: حكومة “زخرفة العصر التركي الجديد” .. هل يتخلى أردوغان عن القرار المالي؟
اعتاد إردوغان أن يحدّد ما يريد وأن يصل إليه عاجلاً أم آجلاً. سيكون قدوم شيمشاك مختلفاً هذه المرّة. فمن الذي سيقنع الآخر بما يقول ويريد؟ وهل يتراجع إردوغان مثلاً عن معادلته الشهيرة القائمة على أنّ خفض أسعار الفائدة يعني خفض معدّلات التضخّم إرضاء لمحمد شيمشاك؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@