بلينكن في السعودية: تحريض على إيران؟

مدة القراءة 8 د

تأتي زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية أنتوني بلينكن المنطقة ولقاؤه القادة السعوديين بعد عدد من المؤشّرات:

1- يشارك في الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي لمحاربة داعش الذي انعقد أمس في الرياض بمشاركة 85 دولة ومنظمة شريكة، حيث سيجري تأكيد أهميّة الشراكة الأمنيّة مع المملكة والدور المحوري الذي تقوم به في محاربة داعش وامتلاكها الخبرات الكبيرة في الأمن ومحاربة الإرهاب.

2- بعد مضيّ أسبوعين على زيارة جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي في إدارة بايدن، المملكة نفسها، لمناقشة العديد من القضايا الإقليمية والأمنية والاقتصادية.

3- وسط تحوّلات كبيرة في العلاقات بين دول المنطقة، عقب الاتفاق السعودي الإيراني الذي جرى في آذار الفائت برعاية الصين. وتنظر الولايات المتحدة وإسرائيل إلى هذا الاتفاق بعين الحذر الشديد، وتراقبان خطوات الانفتاح القائمة بين البلدين، وتأثيره على مستقبل الشرق الأوسط. مستقبل يسير نحو الاستقلالية عن واشنطن، فيما تعيد صياغة دورها وسياساتها في ضوء تحوُّل اهتمامها الاستراتيجي إلى المحيط الهادىء لضبط الصعود الصيني. أميركا الراغبة بقوّة في تعزيز اندماج إسرائيل في الاقتصاد الإقليمي، وضمّ دول أخرى إلى اتفاقات أبراهام.

على الرغم من استدارة بايدن وعودة العلاقات السعودية الأميركية إلى مسارها الصحيح، بقيت التساؤلات السعودية قائمة عن سرّ الغموض الذي يكتنف الموقف الأميركي من إعلان استراتيجية واضحة حيال الملفّ النووي الإيراني والتهديدات الأخرى

بايدن 2023: الخطر إيراني

يحمل بلينكن في جعبته الدبلوماسية استراتيجية “مواجهة الخطر الأكبر في الشرق الأوسط” و”منع إيران من امتلاك السلاح النووي”. ما لبث تعريف هذا الخطر أن حصره بـ”الخطر الذي تواجهه إسرائيل ويمثّله النظام الإيراني الذي يهدّد بشكل روتيني بمحو إسرائيل عن الخارطة”. وهذا ليس مفاجئاً. إذ إنّ الاهتمام الأميركي في هذه المنطقة ما تزال ركيزته الأساسية أمن إسرائيل وتوفير النفط في الأسواق العالمية.

يحضر في قلب هذه الاستراتيجية إقناع قادة المملكة بالانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، وهو ما صرّح به بلينكن حين قال إنّ للولايات المتحدة مصلحة أمنية وطنية وحقيقية في تعزيز التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وإنّ تعميق علاقات إسرائيل مع جيرانها من خلال التكامل الإقليمي وخفض التصعيد يشكّل حجر الزاوية في سياسة بايدن الخارجية للشرق الأوسط.

هل يجب على المملكة أن تصدّق هذه “الصحوة” في مواجهة الخطر الإيراني؟ أم وراء الأكمة ما وراءها؟ أمّا التطبيع مع إسرائيل الذي يخدم مصالح أميركا فهذا مفهوم. لكن هل يخدم القضية الفلسطينية في ظلّ ما يجري في فلسطين من انتهاكات وتقويضٍ لحلّ الدولتين؟ وهل بهذه البساطة ستتجاوز المملكة هذا الواقع المأساويّ في فلسطين، بعدما أكّد وليّ العهد محمد بن سلمان في قمّة جدّة الأخيرة مركزيّة القضية الفلسطينية؟ 

المملكة والرهانات الأميركيّة الجديدة 

لا بدّ من الإشارة إلى أدوار كثيرة توسّعت إليها سياسات المملكة مؤخّراً: فهي تقوم بدور إنساني كبير في سوريا لتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية الأساسية للسوريين القاطنين في المناطق التي تخرج عن سيطرة النظام. وأمّا مهمّة إجلاء الرعايا العرب والأجانب من السودان التي قامت بها المملكة، فأكّدت قدراتها وإرادتها الاضطلاع بأدوار بنّاءة في مرحلة الأزمات. وتسعى حالياً مع الولايات المتحدة الأميركية إلى إيجاد تسوية في الخرطوم لوقف الاقتتال ومنع انزلاق البلاد إلى حرب أهلية تهدّد دول الجوار وأمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب. لهذا فإنّ إعادة الرهان على دور المملكة في المجالات كافّة تمثّلان استكمالاً للاستدارة التي تقوم بها إدارة بايدن.

صحيح أنّ من مصلحة السعودية أن تتعامل بجدّية مع هذه الاستدارة وتقوم من جهتها بالتزامات تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، لكنّ ذلك لا يمنع توخّي الحذر من الطروحات الأميركية، والتساؤل عن كيفية تعامل محمد بن سلمان مع تحدّيات هذه الاستراتيجية الأميركية الثلاثية الأبعاد، ومع الرغبة الأميركية في التطبيع مع إسرائيل فيما حلّ الدولتين يلفظ أنفاسه، وكيفية التوفيق بين التناقضات التي تحملها الاستراتيجية الأميركية والتفاهمات مع إيران.

يبقى السؤال الأهمّ: هل يقرأ وليّ العهد في هذه الاستراتيجية بتوقيتها ومضمونها أنّها تهدف إلى تفخيخ الاتفاق السعودي الإيراني واحتواء التوسّع الصيني نحو الخليج؟ الجواب على هذا السؤال رهن بنتائج الزيارة وتطوّرات الموقف السعودي في الأشهر المقبلة.

يمكن التأكيد أنّ محمد بن سلمان، الذي سار منذ تولّيه ولاية العهد في حقول ألغام متعدّدة وخرج منها بحنكة، يبدو اليوم كمن يهيّء نفسه للسير على سطح المياه. فهل من مهمّة أصعب؟

الخفض الذي أعلنته المملكة منذ أيام من خلال وزير النفط السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان بمعدّل مليون برميل يومياً، تعاملت معه إدارة بايدن بواقعية وأعلنت ثقتها باستراتيجية السعودية لاستقرار أسواق النفط

استدارة بايدن 

منذ بداية ولايته لم يخفِ بايدن أنّ موقع المملكة في سياسته الخارجية يخضع لمراجعة شاملة، بدءاً من وصفها بالبلد “المنبوذ”، مروراً بوقف شحنات الأسلحة للجيش السعودي في حربه اليمنية، وصولاً إلى التعامل ببرودة مع محاولات المملكة إنهاء حرب اليمن وإيجاد تسوية سياسية، وبلامبالاة مع قصف آرامكو وتصاعد التهديدات الإيرانية والحوثية للأمن القومي السعودي وأمن الممرّات المائية.  

كما استخدم بايدن استراتيجية الغموض في الموقف من السياسات الإيرانية، وكاد أن يوافق على إعادة العمل باتفاقية العمل الشاملة مع إيران ورفع الحرس الثوري عن لائحة العقوبات، من دون الاكتراث لهواجس السعودية. الأمر الذي أدخل العلاقات الأميركية السعودية في أزمة ثقة غير مسبوقة.

بايدن المسكون بنظريّة الصراع في القرن الحادي والعشرين بين “الأنظمة الديمقراطية” “والأنظمة الدكتاتورية”، سرعان ما انعطف بما يوازي 180 درجة، وركب موجة الواقعية السياسية وصارت الحاجة إلى السعودية على جدول أعماله المستعجل. فقام بزيارتها وصافح وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان الذي يمسك بسياستها الخارجية. وذلك على وقع التأثيرات الجيوسياسية للغزو الروسي لأوكرانيا، وما أفرزته من أزمة الطاقة وارتفاع أسعار برميل النفط إلى أرقام غير مسبوقة. الأمر الذي ضاعف من حدّة التضخّم الذي يكافح البنك الفيدرالي الأميركي من أجل السيطرة عليه من خلال سياسات متشدّدة في رفع أسعار الفائدة وصولاً إلى حدود 5%.

لكن على الرغم من استدارة بايدن وعودة العلاقات السعودية الأميركية إلى مسارها الصحيح، بقيت التساؤلات السعودية قائمة عن سرّ الغموض الذي يكتنف الموقف الأميركي من إعلان استراتيجية واضحة حيال الملفّ النووي الإيراني والتهديدات الأخرى.

إعلان بلينكن لهذه الاستراتيجية التي كشف فيها عن “مواجهة الخطر الأكبر في الشرق الأوسط”، مؤكّداً أنّ “كلّ الخيارات على الطاولة” لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، يطرح الكثير من الأسئلة، ولا سيّما عن التوقيت الذي يتزامن مع صدور البيان الفرنسي – الألماني -البريطاني بخصوص البرنامج النووي الإيراني. بيان أكّد أنّ إيران تواصل تخصيب اليورانيوم بما يتجاوز 21 مرّة الحدّ المسموح به بموجب الاتفاق.

وكان خبراء أكّدوا، بحسب صحيفة “الشرق الأوسط”، أنّ إيران تملك مخزوناً من اليورانيوم المخصّب بنسبة 60 في المئة كافياً لإنتاج ثلاث قنابل نووية، إذا تمّ تخصيبه بنسبة أعلى تصل إلى 90 في المئة، وأنّ هذا يمكن أن يحدث خلال شهر واحد.

فماذا يدور في رأس بايدن؟

وهل فعلاً ترتبط هذه الاستراتيجية بالمستوى الخطير الذي وصل إليه تخصيب اليورانيوم في إيران، أم تستهدف قطع الطريق على الاتفاق السعودي الإيراني؟ 

ثبات موقع المملكة الاستراتيجيّ 

بايدن الذي “نفذ بريشه” في الانتخابات النصفية، كما يُقال، كان يراهن من خلال الضغوط على مملكة تتمتّع بنفوذ جيوسياسي كبير في منظمة “أوبك +”، أن تتوقّف سياسة خفض الإنتاج. وكانت الدنيا قد قامت ولم تقعد حين تفاهمت المملكة مع شركائها في منظمة أوبك على خفض الإنتاج استجابة لمؤشّرات السوق، ولا سيّما العرض والطلب. فاتُّهمت بأنّها تخدم مصالح روسيا لمساعدتها على تمويل الحرب في أوكرانيا. ثمّ تبيّنت لاحقاً صحّة “استراتيجية النفط” التي اعتمدتها المملكة، والتي تهدف إلى استقرار الأسواق والحفاظ على مستوى الأسعار، الذي يُمَكِّن المملكة من تمويل مشاريعها الضخمة، وفي مقدَّمها مشروع نيوم الذي يحتاج إلى حوالي 500 مليار دولار.

إقرأ أيضاً: إسرائيل أمام “السعوديّة النوويّة”

الخفض الذي أعلنته المملكة منذ أيام من خلال وزير النفط السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان بمعدّل مليون برميل يومياً، تعاملت معه إدارة بايدن بواقعية وأعلنت ثقتها باستراتيجية السعودية لاستقرار أسواق النفط.

يشكّل هذا التحوّل نجاحاً كبيراً للمملكة في تكريس السياسة المبنيّة على مراقبة مؤشّرات السوق وتحليلها. وممّا يدلّ على ثبات موقع المملكة الاستراتيجي في المنطقة ما جاء في تصريحات صدرت عن البيت الأبيض والخارجية الأميركية قبل زيارة بلينكن، أكّدت بمعظمها الشراكة الاستراتيجية مع السعودية، ودورها في استقرار المنطقة وفي محاربة الإرهاب.

* أستاذ الدراسات العليا في كلّية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية. 

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…