إفريقيا في صلب الصراع الأميركيّ – الصينيّ

مدة القراءة 6 د


سجّل المجلس العسكري الانقلابي في النيجر بعض النقاط على فرنسا إثر موقف الإليزيه المتصلّب والمتمسّك بمعاداة العسكريين الذين تسلّموا السلطة بانقلاب على الرئيس المنتخب محمد بازوم. فبعد شهرين من المواجهة المباشرة بين باريس وعسكر العاصمة نيامي، ورفض فرنسا التعاطي الواقعي والعقلاني والبراغماتي مع الوضع الناشئ المستجدّ في النيجر، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فجأة إعادة سفيره، وانسحاب جيشه من القواعد الفرنسية في النيجر.
لا ينحصر هذا الوضع بالنيجر، فالعلاقات الفرنسية شهدت تدهوراً مع كلّ من تشاد ومالي وبوركينو فاسو والغابون، إضافة إلى العلاقة المتوتّرة المستدامة مع الجزائر (وصل الأمر بها حدّ منع تعليم اللغة الفرنسية في المدارس الخاصة الجزائرية بدءاً من العام الدراسي المقبل). ولكن يبدو أنّ حال فرنسا في القارّة السمراء هو جزء من تغيّر في الخارطة الجيوسياسية عموماً بين دول الشمال والجنوب، وبين الغرب عامّة ودول العالم الثالث خاصّة.

عدم التنسيق الأميركيّ – الفرنسيّ
يذكّرنا المنحى الفرنسي الراهن بما حصل قبل عامين (2021)، حين شاب الانسحاب الأميركي من أفغانستان الفوضى والتراجع والتشفّي وعدم تحقيق الشعارات الكبرى وعلى رأسها شعار تعميم الديمقراطية وشعار القضاء على الإرهاب. فقد أعلن الرئيس الفرنسي أنّ الوجود العسكري في النيجر لن يعود بعد اليوم بالفائدة المرجوّة في “محاربة الإرهاب، لعدم تعاون الحكّام الجدد”.
لكن عند مقارنة الموقف الفرنسي “المتصلّب” بالموقف الأميركي “المرن”، يتبيّن مدى التناقض وعدم التنسيق بين الدول الغربية، والفوضى التي تعتري مواقفها المتباينة.
انسحبت فرنسا، وبقيت القواعد الأميركية في هذه المنطقة. واصلت واشنطن عملياتها في الرصد والتجسّس واستهداف فلول التنظيمات المتطرّفة كما حصل أخيراً في الصومال. زار موفدون أميركيون النيجر وتفاوضوا مع “العسكر” ولم تقطع واشنطن المساعدات ولم يتّخذ الأميركيون موقفاً سياسياً من الانقلابات.

لا يسع الولايات المتحدة رؤية انهيار الدول الإفريقية الواحدة تلو الأخرى وهي مكتوفة اليدين. لا يمكنها التسليم بسقوط النفوذ الفرنسي لمصلحة النفوذ الصيني المتمدّد في القارّة

توجّهت فيكتوريا نولاند (الثالثة بتراتبية وزارة الخارجية الأميركية) إلى الانقلابيين للتفاوض معهم، وأعادت واشنطن إرسال سفير أميركي جديد لتمثيلها لدى سلطات الانقلاب. وبقيت القواعد الأميركية في مكانها ولم تُغلَق الأجواء إلّا بوجه الطائرات الفرنسية. واشتعلت الانتقادات بين باريس وواشنطن وظهرت إلى العلن ولم تبقَ خلف الكواليس، وأتت جولة وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في إفريقيا وكأنّ هناك قراراً أميركياً بالحلول محلّ فرنسا.
انعكست هذه التناقضات الجانبية على الاتحاد الإفريقي، وعلى اتحاد دول إفريقيا الغربية، وهو ما شلّ قدرة الأفارقة على اتخاذ موقف واحد صلب.
سعت دول “إكواس” الإفريقية إلى القيام بعمل عسكري يحول دون استمرار سلطة الانقلابيين. غير أنّ تلويح المتظاهرين بالعلم الروسي ومطالبتهم بدعم موسكو، إلى جانب اغتيال بريغوجين قائد منظمة فاغنر (التي تصول وتجول في أنحاء إفريقيا)، قوّض مساعي التدخّل العسكري. ولكنّ من المهمّ الإشارة إلى أنّ أغلب الدول، وخاصة نيجيريا، كانت تترقّب الموقف الأميركي لتحسم أمر التدخّل في النيجر.

استراتيجية واشنطن: مواجهة الصين وروسيا
لا يسع الولايات المتحدة رؤية انهيار الدول الإفريقية الواحدة تلو الأخرى وهي مكتوفة اليدين. لا يمكنها التسليم بسقوط النفوذ الفرنسي لمصلحة النفوذ الصيني المتمدّد في القارّة.
نظرت واشنطن إلى كامل الصورة الاستراتيجية المرسومة في القارّة السمراء وفي العالم قاطبة. تيقّنت أنّ الاستمرار بمعاداة الشعوب ومعاندتها يجعل الصين وروسيا وربّما إيران تملأ الفراغ الناشئ، ولا سيما أنّ بكين مستعدّة لصرف المليارات في إفريقيا كاستثمار طويل الأمد، وهذا ما تؤكّده الوقائع منذ أكثر من عقدين. فاستثمارات الصين منذ عام 2000 تجاوزت 400 مليار دولار في فترة قصيرة. وليس بناء القواعد العسكرية والبحرية في دجيبوتي ومدغشقر وموزامبيق ومرفأ الحمدانية في الجزائر إلا أدلّة على سياسة بكين الناعمة الطويلة النفس والأمد التي ظاهرها اقتصادي وباطنها سياسي – عسكري.
بالموازاة لا تريد واشنطن توسّع تغلغل منظمة فاغنر الممثّلة لمصالح روسيا، ورعاية هذه المنظمة للانقلابات والاستيلاء على موارد إفريقيا. فالنيجر مثلاً تمتلك خمسة في المئة من اليورانيوم الموجود في العالم الذي كانت “مجموعة أورانو” النووية الفرنسية تعالج خامه لتشغّل المحطات النووية في فرنسا .أيقظت الحرب في أوكرانيا تدخّل موسكو في إفريقيا فتسلّطت فاغنر على موارد القارّة وسيطرت عليها بالاتفاق مع ديكتاتوريّيها.

إفريقيا.. أسيرة ديونها
تواجه دول إفريقيا تخلّف النموّ المسبّب لمعضلة الديون. فمحنة الديون تلاحق 22 من دول القارّة وتعصف باقتصاداتها. فديون الدول الإفريقية تضاعفت أكثر من خمس مرّات منذ عام 2000، متجاوزة حدّ تريليون دولار، في حين تُظهر الأرقام استحواذ الصين على أكثر من 12% من إجمالي ديون القارّة السمراء، وسط توقّعات بتخلّف الكثير من الدول عن السداد، وهو ما سيدفع نحو سيطرة صينية ماليّة واقتصادية على النشاط التجاري والصناعي في دول القارّة، ولا سيّما أنّ بكين كباقي المقرضين ترفض الانضمام إلى “نادي باريس” للديون العالمية وإعادة هيكلته تحت إشراف صندوق النقد الدولي الذي يخطّط لزيادة رأسماله بحدود 125 مليار دولار خلال العقد الحالي. في الوقت نفسه، تسعى بكين إلى تقوية “بنك التنمية” الذي أوجدته في شنغهاي، وتتطلّع إلى اعتماده من قبل دول البريكس على الرغم من معارضة الهند.

إقرأ أيضاً: الصراع الآذريّ – الأرمنيّ مثال على التناقضات في لعبة الأمم

للصين خططها الناعمة والطويلة الأجل للتمدّد في إفريقيا، الأمر الذي يقضّ مضاجع واشنطن ويجعلها لا تستمرّ في دعم السياسة الفرنسية التقليدية في القارّة السمراء .
كما هو حال المحيطين الهادئ والهندي، وبحر اليابان الشرقي، وبحر الصين الجنوبي، وتايوان، تشكّل إفريقيا جزءاً أساسياً في الصراع الدولي. فلا يجدي التباين الغربي – الغربي نفعاً في ضوء اندفاع التنين الصيني والتدخّل الروسي. والظهور بمظهر العاجز قرار بيد كلّ من فرنسا وأوروبا وواشنطن .

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: BadihYounes@

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…