قبل سبعة أعوام فقط كتبت بعض أقلام لبنان (بيروت) عن أمين معلوف هذا الكلام: إنّه “ليون الإسرائيليّ”. يمثّل “خيانة المثقّفين”. “لا تنسوا أنّه كان عضواً في وفد أمين الجميّل للسلام مع العدوّ”. هو في “نهج الخصومة الانعزالية التاريخية مع العرب وفلسطين”. “يقف سياسياً في المعسكر المضادّ لقضايا العرب والشعب الفلسطيني”. “إعتذر عمّا فعلت”…
يومها كانت “فعلة” الكاتب الفرنسي اللبناني الأشهر، أنّه أدلى بحديث ثقافي لقناة تلفزيونية إسرائيلية.
بعد سبعة أعوام، الذين كتبوا الكلام السابق، كلّهم بلا استثناء، بلعوا ألسنتهم وكمّوا أقلام رصاصهم، أو رصاص أقلامهم، حين أبرمت مرجعياتهم السلطوية اتفاقاً دولياً حدودياً وماليّاً مع إسرائيل، موثّقاً ومسجّلاً في الأمم المتحدة، بحسب أصول القانون الدولي للمعاهدات والاتفاقيات الدولية. وفيه من “الفعلات” (على قياس جمع “فعلة” معلوف) ما لم يُحكَ ويُكشف بعد.
الدجل الفردي التاريخي
اليوم تحتفي بيروت نفسها بمعلوف نفسه، أميناً عامّاً للأكاديمية الفرنسية، مستحقّاً لعضويّة “الخالدين” ولأمانتهم والاحتفاء…
إذن هو شيء من الدجل الفردي التاريخي في أرضنا ولدى بعض ناسها. وهو غالباً ما يثير بسمة استهزاء أو طرافة سخرية. لكنّه حين ينتقل إلى مجال الشأن العامّ، يصبح قاتلاً. وحين يبلغ قضايا الجرائم الجماعية، يتحوّل شيئاً من جريمة الرأي والضمير.
قبل أيام تداعى البعض في بيروت للقاء أرادوه نخبويّاً، تنديداً بمأساة التهجير الجماعي الذي ارتُكب في حقّ أرمن أرتساخ.
وجد المتداعون أنفسهم أمام استحالة جمع “نصاب وطني”. والأسوأ أنّ الدعوة إلى حفلة مرثيّات وكليشيهات وخشبيّات تبدع في إيجاد أنواع التورية كافّة للتعبير عن مضمون واحد: العجز.
أصلاً، في كلّ جريمة، وخصوصاً في جرائم الإبادة والحرب، ثمّة معادلة ثلاثية ثابتة: هناك الظروف التي سمحت بالجريمة. وهناك الضحية. ولكن أيضاً وأوّلاً وقبلاً، هناك الجلّاد.
الخطير في أدبيّات جنائزيّاتنا أنّه إزاء جرائم كهذه يصير التركيز على الظروف المتآمرة. وحتى على الضحيّة. وننسى الجلّاد ونُغفله ونُجهّله. وحتى غالباً لا نذكره بالاسم
الخطير في أدبيّات جنائزيّاتنا أنّه إزاء جرائم كهذه يصير التركيز على الظروف المتآمرة. وحتى على الضحيّة. وننسى الجلّاد ونُغفله ونُجهّله. وحتى غالباً لا نذكره بالاسم.
أخطاء الأرمن أنفسهم
أرمن أرتساخ آخر مثال حيّ، أو ميت، على جريمتنا هذه. كتبنا كثيراً عن ظروف المذبحة. عن “تآمر الغرب وصمته المريب وسكوته المتواطئ”. وعن “مصالح أميركا الإمبريالية ووحشية حسابات الغاز”. وعن “ازدواجية معايير المجتمع الدولي، ونفاق الرأسمالية”. وطبعاً لم ننسَ “العامل الصهيوني تسليحاً وتجسّساً وعسكرة” على ضفاف قزوين، بين جدارَي طهران ثورتنا وموسكو قيصرنا… حتى آخر المعزوفة المعروفة.
كتبنا أيضاً عن أخطاء الأرمن أنفسهم. عن غباء بعض سياسيّي يريفان. والبعض قال تواطؤهم. وعن قِصر نظرهم وغياب رؤيتهم وقصور قيادتهم لشعبهم.
أصلاً من زار أرمينيا في الأعوام الماضية، واستمع إلى تحليلات مسؤوليها عن أنّ البشرية المخلَّصة انطلقت من بلادهم، بعدما رسا فُلك نوح على جبل آرارات بعد الطوفان، وأنّ بلادهم أوّل دولة مسيحية، منذ القدّيس غريغوار المتنوّر سنة 301، قبل قسطنطين بعشرين عاماً، وأنّ مملكة أرمينيا العظمى كانت تمتدّ من المحيط الهندي إلى المتوسّط. وفي المقابل لم يدرك هؤلاء أبعاد مشاريع خطوط أنابيب الطاقة من حولهم، ولا نتائج فوارق الناتج الوطني بين يريفان وباكو. من سمع هذا الكلام هناك، تذكّر بلا شكّ زجليّات بعض القادة اللبنانيين هنا، عن بلاد الأرز وحضارة الستّة آلاف سنة واختراع الأبجدية وصدفة الموركس وقدموس وإليسار وابنتنا أوروبا. وأدرك مذّاك أنّ الشعب الأرمني المسكين، محكوم بسياسيين يعيشون على سرديات أمجاد قرون غابرة، ليتناسوا أو يخدّروا شعبهم، عن وعي أيام راهنة قاهرة.
كتبنا الكثير عن مسؤولية مسؤولي يريفان. وجلدنا الضحية تكراراً. ولم نذكر الجلّاد.
لم نذكر بكلمة أنّ سبب المأساة نظام مجاور استبدادي توارثه الابن عن الأب. وارتكبا كلّ موبقات السلطة والحكم. من فساد واضطهاد وقتل. ولم ينسيا استخدام الله وبضاعة القومية، ذريعة ومبرّراً وأفيوناً لذلك كلّه. لم نذكر بكلمة أنّ الجلاد له اسم، من عائلة علييف، الذي نرتبط معه بصلات وصل عن بعد. فهو مثلما عندنا، أحد الأسماء الشهيرة في فضائح وثائق بنما مثلاً، عن ناهبي ثروات شعوبهم وبلدانهم ودولها. وهو مثل مفتضحينا في القضية ذاتها، بدل أن يُحاكَم، ظلّ حاكماً متحكّماً. تماماً كما أعطيناهم نحن في بيروت ألقاب الدولة وحتى طموح الرئاسة.
لم نذكر بحرف، أنّنا قبل أقلّ من ثلاثة أعوام، وبعد المذبحة ما قبل الأخيرة في أرتساخ، وقفنا إلى جانب الجلّاد في احتفال لنصب تذكاري لجنود أذربيجان علييف. هنا في شمال لبنان بالذات. وبحضور سياسي شامل. وبعد أقلّ من سنتين من تلك الوقفة الكريمة، وقف أهل الفقيد والضحيّة والشهداء، سياسيّو الأرمن أنفسهم، في صفّ واحد مع المتضامنين مع الجلّاد، في تحالف انتخابي واحد.
السياسة أخلاق
كأنّها صناعتنا الوطنية الأكثر عراقة وبامتياز. الدجل النموذجي، على طريقة أن تضع رجلاً في فلاحة “المقاومة الإسلامية”، ورجلاً أخرى في بور من بقي من دعاة “صيحي يا بلادي صيحي بدنا وطن مسيحي”.
لم تعد مسألة سياسة هذه. باتت قضية أخلاق لا غير. فليس صحيحاً أنّ “السياسة” تكريس لجذر مفردتها العربية، في أن “تسوس” البشر كما تُساس الغنم. السياسة انبثاق من مصدرها الفلسفي اليوناني، في أن تبني “مدينة” على مبدأ الخير العامّ والحقّ العامّ.
السياسة أخلاق أوّلاً وأخيراً.
إقرأ أيضاً: من لبنان إلى ناغورني كاراباخ… زوال الغطاء السياسيّ؟
أما عن معادلة الحقّ والقوّة، فعليك أن تختار وأن تحسم خيارك. يمكنك أن تكون مع القوّة ضدّ الحقّ، في لعبة سلطوية لك ولزبانيتك وحسب. لكن عندها، أوقف هذا الدجل المثير للغثيان، في أنّك مع الحقّ.
يمكنك أيضاً أن تكون مع الحقّ ضدّ القوّة. ولو في وقفة غير محسوبة، للمبدأ والتاريخ لا غير. لكن عندها، أوقف هذه الذمّيّة السياسية، في ممالأتك القوّة على حساب حقّك.
في النهاية، تبقى التهنئة واجبة لأمين معلوف. أميناً عامّاً لأكاديمية ريشليو، كاردينال مساكنة الدين والدولة، أو الحقّ والقوّة، صاحب مقولة “خسارة الشرف أقسى من خسارة الحياة”، و”السياسة هي أن تجعل الضروري ممكناً”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@