خالد خليفة… لاعَبَ الموت حتى فاجأه في “دمشقه”

مدة القراءة 9 د


رحل الروائي والسيناريست السوري خالد خليفة إثر نوبة قلبية وحيداً في بيته الدمشقي الذي أبى أن يتركه على الرغم من كلّ المضايقات. رحل خطفاً مستعجلاً تماماً كما كنت أراه في بيروت عابراً ليسافر إلى بلدان أخرى: “رنوش ما عندي كتير وقت، خليني شوفك أنا ورايح على تشيكيا أو على الإمارات أو على برلين”. كان يسافر كثيراً، لكنّه لا يستطيع البقاء خارج سوريا حبيبته الأبدية، أكثر من أيام معدودة…

اليوم سافر إلى عوالمه الخاصة وخيالاته الواسعة… ربّما هذه الأرض وفضاءاتها لم تعد تتّسع لخياله وإبداعه وطيبته وكرمه. كان يقول لي إنّه أحياناً يملّ ويضجر من الروتين فيسافر إلى اللاذقية ليُلاعب الموج ويرسم ويتأمّل الشاطئ والرمال، حيث اكتشف موهبة الرسم خلال العزلة المفروضة علينا خلال الوباء.

رحل الروائي والسيناريست السوري خالد خليفة إثر نوبة قلبية وحيداً في بيته الدمشقي الذي أبى أن يتركه على الرغم من كلّ المضايقات

الموت حدثاً عاديّاً

سألته مرّة: لماذا لم تترك الشام على الرغم من كلّ المآسي، والعروض المغرية؟ قال: “أنا كالسمكة إذا خرجت من سوريا أموت”! 

لا يليق بك الموت يا خالد البسيط في كلّ شيء، في كلامك وفي لباسك وفي تعاطيك مع الناس وحبّهم وفي حماستك ودهشتك كالطفل. لا يليق الموت بمن له تاريخ طويل مع ثيمة الموت. مقته وتأثّر به وكرهه، لكنّه في النهاية تعوّد عليه وأصبح من يوميّاته كما كان يقول لنا. ربّما ساعدته المآسي التي شهدها والكتابة عن الموت على تقبّله كقوّة فوق فلسفة الوجود كما يقول الشاعر الزجلي اللبناني رفعت مبارك.

المفارقة أنّ هذا الكاتب الحسّاس جدّاً والمرهف، المثقّف بكلّ ما للكلمة من معنى، الموهوب، رافقت ثيمة الموت صناعة رواياته التي تُعتبر الأفضل اليوم في العالم العربي والتي وصلت إلى جوائز عالمية وتُرجمت إلى لغات عدّة. لكنّ الموت بين سطوره تقابله حياة ويقابله حبّ. فهو متورّط في التفكير والعيش والكتابة عن هذه المتلازمة. متورّط في الكتابة السياسية الحرّة بعيداً من ثقافة البعث والقومية والأيديولوجية والعناوين الفضفاضة واللغة المعقّدة.

إنّه كاتب الجيل الثاني من الرواية السورية. نرى سوريا بعيونه ودهشته وحبّه. نشمّ روائح شوارع حلب والشام واللاذقية في أدبه ومسلسلاته. نتحسّس رقابنا وننتفض للظلم والقمع في “مديح الكراهية” و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، ونرى الموت أمام عيوننا في “الموت عمل شاقّ” وفي “لم يصلِّ عليهم أحد”.

الخيال الذي يخفّف مآسينا

عندما أُصبت بانفجار مرفأ بيروت وأنا في مكتبي حينذاك في جريدة النهار، كنت قد انتهيت من قراءة “لم يصلِّ عليهم أحد”، الملحمة الخيالية الواقعية الساحرة التي أعتبرها من أفضل ما قرأت لكاتب عربي حديث. وعندما سقط الموت علينا في ذاك المساء ونحن نتدحرج على درج المبنى والدماء تغطّي وجوهنا، كانت أحداث الرواية تمرّ أمامي كفيلم سينمائي. كانت تحضر الشخصيات ومشاهد الطوفان والخوري والمقابر الجماعية وشوارع حلب كلّها في ذهني كما وصفها خالد خليفة…. سيطرت عليّ تفاصيل البشر الذين ماتوا في لحظة ولم يبقَ من يُخبر عنهم إلا ذاك الخوري الذي كان خارج القرية. كنت خائفة أن لا أموت تحت الأنقاض ولا تجدني أمّي ولا تعانقني ابنتي ولا تصرخ عليّ أختي وأقاربي، كما حصل مع شخصيات خالد… لقد هوّن عليّ خالد بإبداعه وخياله مصيبتي وأنا أنزف. لكن ما يحزّ في نفسي أنّه مات اليوم وحيداً ولا أدري بما كان يفكّر حين أصابته النوبة القلبية؟ وهل أسعفه خياله لينام نوماً خالداً هادئاً؟

المرِح والحسّاس

خالد مرِح وحسّاس حتى الثمالة. مرح في جلساته وفي حديثه وفي علاقاته، ومرح في تعاطيه مع الحياة بخفّة. لا تعنيه الشهرة ولا المال، ولا يبذل أيّ جهد من أجل الجوائز. هو من الكتّاب القلائل الذين يتباهون بالقرّاء الجدد والصغار الذين يتكاثرون كلّ يوم أكثر من قبل، ويعدّهم بمنزلة جائزة له. يفتخر عندما تترجَم رواياته الى الهندية والفارسية، ويتغيّر صوته كالطفل الفرح بلعبة مخبراً الأصدقاء عن ذلك بشغف الأطفال وعيونهم اللامعة.

هو مرح ومدهش وبسيط في أدبه غير المتكلّف مثله، على الرغم من المآسي التي تعكسها الملاحم التي كتبها والواقعية السحرية في رواياته، إلا أنّه يلعب بأدواته الإبداعية وبناء شخصياته وأسلوبه كما كان يُلاعب الحياة ويسخر منها بخفّة وجدّية في آن. تشعر وأنت تقرأ رواياته أنّه شغوف برسمها. يلعب بها ويلاعبها. فكان يقول لي إنّ “شخصياته تخضع لتطوّرات معقّدة أثناء الكتابة، وهو نفسه لا يعرف إلى أين ستصل، وإلى أين سيصل به التجريب”.

يلاعب شخصيّاته

يذكّرني باللعبة التي تلعبها ابنتي على الإنترنت roblox التي يبني فيها الأطفال شخصيات وهمية، ويرسمون ملامحها ويبنون لها بيوتاً وعوالم كما يحلو لهم، ويحرّكونها كما يحلو لهم. ويقرّرون هم أنفسهم مع من تلعب ومع من تتواصل، ويخترعون شخصيات موازية لتبني علاقات مع الشخصية الأساسية…. لكنّ الفارق أنّ خالد الحرّ في فكره وشخصيّته وطبعه، بالمعنى السياسي للكلمة والمعنى الإنساني، يطلق العنان لشخصياته ولا يضعها في قالب جافّ مؤطّر. لا يحبسها في عالم واحد قاتم. فهو من أجرأ الكتّاب الذين كتبوا “مديح الكراهية” في 2006 ضدّ القمع والخوف في عزّ القمع الذي مارسه النظام السوري، فمنع الرواية وخاف منها حينذاك. لكنّها انتشرت وقُدّرت بجدارة وتُرجمت إلى أكثر من 8 لغات. اختارها موقع “لِيسْت ميوز” الثقافي الأميركي ضمن قائمة أفضل مئة رواية عبر التاريخ.

وثّق خالد خليفة أدبيّاً تاريخ سوريا الحديث مُطعّماً إيّاه بخياله وفكره الواسع. لكنّ أدبه لم ينحصر في فترة زمنية محدّدة، بل جعل من رواياته باباً للخيال والتخيّل

أدب مفتوح على الأزمنة.. وهويّات قاتلة 

وثّق خالد خليفة أدبيّاً تاريخ سوريا الحديث مُطعّماً إيّاه بخياله وفكره الواسع. لكنّ أدبه لم ينحصر في فترة زمنية محدّدة، بل جعل من رواياته باباً للخيال والتخيّل وفتح الأبواب المغلقة وطرح الأسئلة الاجتماعية والأنتروبولوجية والسياسية والإنسانية ليصبح أدبه مفتوحاً على كلّ الأزمنة وليس محصوراً بمنطقة أو مرحلة معيّنة.

نعى خالد خليفة الهويّة الوطنية السورية في “الموت عمل شاقّ”، معتبراً أنّها سقطت حين حلّت محلّها الهويّات الطائفية الضيّقة أو القاتلة. وهذه الهويّات القاتلة على حدّ تعبير أمين معلوف الذي احتفينا به رئيساً للأكاديمية الفرنسية منذ يومين، أصبحت جزءاً أساسياً من الحرب السورية بحسب مفهوم خليفة. وهي في الحقيقة استُخدمت أبشع استخدام للتغطية على الوجه الحقيقي للثورة التي فجّرها السوريون في الأشهر الأولى من عام 2011، وذلك من أجل الاحتماء بها.

لكنّ خالد خليفة كان متفائلاً بأنّ تلك الهويّة الطائفية لن تدوم طويلاً في الحياة السورية، وأنّها ستنتهي مع انتهاء الحرب وإيجاد حلّ حقيقي لهذه الكارثة، كما صرّح لي في إحدى مقابلاته. لكنّ الحلّ لم يأتِ والكارثة توسّعت وخالد رحل متفائلاً وسط كلّ هذا السواد والظلم. رحل مع حزنه على وطنه وفراق الأصدقاء وأولاد البلد يهاجرون ويتشتّتون. رحل في عزّ عطائه أديباً عالمياً لم يترك قلمه ومسوّداته وألوانه إلا حين خانه قلبه، كما خانه بلده!

ودّع خالد خليفة سوريا، من خلال رحلة تشييع الأب في “الموت عمل شاقّ”. فكانت رحلة وداعية لسوريا القديمة بكلّ رموزها القومية والوطنية والسياسية والاجتماعية، برموز الحزب الحاكم وتاريخه عبر خمسين عاماً الذي طبع البلاد بطابعه، ورحلة وداعية لسوريا القمع المتواصل الذي لم يتوقّف. لكن كيف ستودّع سوريا اليوم أديباً من الطراز الرفيع أعلى من مأساتها إلى مستوى الأدب والإبداع وجعلنا نعيش مع إنسانها المظلوم والظالم والمشتّت والمهجّر والميت المدفون في المقابر ومن لم يجد مدفناً؟ كيف ستودّع سوريا ذاك الإنسان الممتلئ بالحبّ والذي حوّل الرواية العربية والسورية من هواية إلى صناعة حقيقية لها أدواتها وأسلوبها وغنيّة بالمحتوى والشخصيات والعوالم، فأصبح من الأصوات الروائية المميّزة والفريدة في عالم لغة الضاد؟

إقرأ أيضاً: بيروت على جدران بيتها

كيف ستودّع سوريا من انتقدها ووثّق قمعها ونسج من تاريخها الأسود قصصاً وحكايات جذبت العالم إليها وتعاطفت مع أهلها وثوّارها؟ كيف ستودّع سوريا السلطة القمعية التي ساءلته وراقبته طوال حياته واعتقلته عام 2012 وكسرت يده لأنّه شارك في جنازة تشييع شهداء الثورة؟ هل تمنعه من الرقود في أرضها التي رفض تركها على الرغم من كلّ الأسى والموت من حوله؟ كيف ستودّع سوريا خليفة الذي سرد المخفيّ والمحكيّ والمعاد من تاريخها مع الحرب والديمقراطية المنكوبة والقمع والظلم والفساد والسلطة الفاقعة حدّ الذبح والنفاق المجتمعي والانقسامات، مجاوراً إيّاها بجمل وأفكار وصور ساحرة فيها حبّ وإنسانية مفرطة حدّ البكاء؟ كيف ستودّع سوريا من كان صوتنا وروحنا في الداخل السوري؟ كيف ستودّع سوريا من يختصرها بالنسبة لأجيال كاملة من أبنائها المهجّرين والمخفيّين والنازحين والمشتّتين الذين وجدوا في خالد الإنسان والروائي والصديق والخال كما ينادونه المقرّبون، وطناً بديلاً لما فقدوه… فالروائي الموهوب لا يموت وأدبه يبقى نابضاً في خيالنا.

*خالد خليفة: كاتب سيناريو، وروائي سوري، من مواليد مدينة حلب، سنة 1964، تُرجمت أعماله إلى الكثير من اللغات. في رصيده حتى الآن ستّ روايات هي: “حارس الخديعة” (1993)، و”دفاتر القرباط” (2000)، و”مديح الكراهية” (2006) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربيّة، و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” (2013) التي وصلت أيضاً إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر، وحازت جائزة نجيب محفوظ لعام 2013، و”الموت عمل شاقّ” (2016)، و”لم يُصَلِّ عليهم أحد” (2019) التي أُدرجت على القائمة الطويلة لجائزة بوكر. وتصدر له قريباً رواية عن دار “هاشيت أنطوان” كتبها قبل وفاته وكان ما يزال يتابع تحريرها وتنقيحها قبل وفاته.

مواضيع ذات صلة

90 عاماً من فيروز: صوت تاريخنا… ولحن الجغرافيا

اليوم نكمل تسعين سنةً من العمر، من الإبداع، من الوطن، من الوجود، من فيروز. اليوم نحتفل بفيروز، بأنفسنا، بلبنان، وبالأغنية. اليوم يكمل لبنان تسعين سنةً…

سيرتي كنازحة: حين اكتشفتُ أنّني أنا “الآخر”

هنا سيرة سريعة ليوميّات واحدة من أفراد أسرة “أساس”، وهي تبحث عن مسكنٍ لها، بعد النزوح والتهجير، وعن مساكن لعائلتها التي تناتشتها مناطق لبنان الكثيرة…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (1/2)

العبثيّة، ثيمة تكرّرت في روايات الياس خوري بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. عبثيّة إمّا نحن نخوضها لتحرير الأرض والثورة على الجلّاد غير آبهين بحياتنا…

فيلم سودانيّ على لائحة الأوسكار… يحطّ في طرابلس

يأتي عرض فيلم “وداعاً جوليا” للمخرج السوداني محمد كردفاني الفائز بعشرات الجوائز في العالم، في مهرجان طرابلس للأفلام المنعقد بين 19 و25 أيلول الجاري في…