منذ عقودٍ افترض كمال الصليبي، المؤرّخ اللبناني الذي يفسّر التاريخ باللغة، أنَّ “التوراة جاءت من الجزيرة العربية”. وعندنا أنّ العرب، غير المسلمين، ثمّ المسلمين، أطلقوا جوادهم الحضاري من معمورة الجُزر العربية، وشكّلوا أمَّةً عربيةً كبرى، وأمماً إسلاميّة أكبر، تُضارع حالياً كبريات أمم العالم المتفاعلة في مصاهر التصنيع التكنولوجي للتمدّن والعمران. وقد لاحظ المؤرّخ السويسري جاك ريسلر في كتابه “الحضارة العربية”، الحائز جائزة الأكاديمية الفرنسية، أنّ الجواد الحضاري العربي الذي كبا مع أفول الدولة العباسية في عام 1258م، سيعاود صعوده مع مجدّدين عربٍ ومسلمين. ولاحظنا من خلال زياراتنا لبعض الدول في الخليج، العربي من جهة العرب، والفارسي من جهة الفرس، أنَّ ثمّة نهضةً عمرانيةً في الممالك والإمارات تفوقُ نَهْضَاتٍ جمّة في عالمنا المعاصر. وكان فؤاد مطر قد لفتنا في سلسلة أعماله حول ملوك آل سعود، “من فهد إلى سلمان (قاطرة سلمان)”، إلى أنّ العمران حديث، لكنّما بعقلية تقليدية أو سلفية مُتصخّرة، قناعها سؤال التويجري “أيّها النفط ماذا فعلت بنا؟”، ووجهها الساطع “ماذا سنفعل بالنفط، أي بالبترودولار؟”. جوابه، كما نراه الآن، جاء من عقل محمّد بن سلمان، وجيله من خلال خطّته 2030. فهل يخرج العالمان العربي والإسلامي من كبوات الجواد، بل الجياد العربية، منذ انكسارات القرون الوسطى؟
سيكون على محمّد بن سلمان، حفيد الملك عبد العزيز، ووريث آخر الملوك من أبنائه أن يستهلّ حقبة نهضوية عربية عنوانها “نحن أيضاً سادة بلادنا”
مع وليّ عهد المملكة العربية السعودية، بدأ الرهان على استئناف الشّمس العربية سطوعها الحضاري بذاتها ولغيرها. ومنذ اليوم حتى تتويجه ملكاً، تتربّص به، وبنظرائه من قادةٍ شبّان في بعض الدول العربية، وفي مقدّمها لبنان المغلوب بأمراء طوائفه على أمره، أخطار كشف لثام بعضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، حين باح بما تكنّه نفوس القادة الكبار إزاء حكّام العالم غير الغربي. هذه المخاطر الكائنة والبائنة تجعلنا نستذكر ما حلّ بالرئيس الجزائري هواري بومدين (محمّد بوخرّوبة)، بعدما أعلن في الأمم المتحدة أنّ العالم العربي سيرفع أسعار نفطه وغازه، كلّما أقدمت شركات – دول الرأسمالية العالمية على رفع أسعار منتوجاتها، ومحاربة الشعوب بالسلاح عندما لا تعود العقوبات مُجدية، ولا سيما بالعملات الصعبة (الدولار واليورو) التي تُطبع بلا حدود. إلى ذلك، ما زلنا في صمتنا النفسي نتفكّر الملك فيصل، الذي تشرّفنا بلقائه (1974)، بعدما هدّد باستعمال سلاح النفط دعماً لحرب العروبة (6 تشرين الأول 1973)، ونوّه برغبته في صلاة داخل محاريب المسجد الأقصى.
إقرأ أيضاً: مستقبل السعوديّة مع محمّد بن سلمان؟ (1)
هو وريثُ هموم جيلين من حكّام أهمّ الدول العربية. سيكون على محمّد بن سلمان، حفيد الملك عبد العزيز، ووريث آخر الملوك من أبنائه (سعود، فيصل، خالد، فهد، عبد الله وسلمان) أن يستهلّ حقبة نهضوية عربية عنوانها “نحن أيضاً سادة بلادنا“، ومن حقّنا أن نقرّر سياسة مصالحنا، بعدما طال عدّة قرون عصر الإذعان لمصالح آخرين. فهل ما تمنّاه فيصل وما أعلنه محمّد بوخرّوبة سيكونان محرّكين أساسيَّين لقاطرة محمّد بن سلمان؟ والحال، هل يكون على كلّ بلد عربي و/أو إسلامي أن يُبدع بعقله السياسي العلمي ما يتوق إليه وليّ عهد في شرقٍ مائع كالحبر أخذ على عاتقه الخروج من التصخّر/التحجّر المقرون بالتصحّر، خلافاً للفتى العربي الذي تمنّى قبل الإسلام “لو أنّه حجر“، والذي فاض من مكّة المكرّمة وفتح المعمورة برسائل المدينة المنوّرة؟ هذا الأمر يفرض أن يصبح لكلّ دولة عربية جامعها الوطني والقدسي. وهذا بالذات ما يثير شهوات مؤجّلة استبطنها اللفياثان، وحش الرأسمالية الغربية المتصهينة ما بين 1492 و1948. ولسوف يكون على حُماة الديار العربية أن يتضافروا مع مشروع النهوض بالعرب وبالمسلمين، أو أن ينفضّوا من حوله… وعليه، ما برح مشروع محمّد بن سلمان بين ضفّتي نهر التحوّلات العلمية و الإبداعيّة الكبرى. هذا مع العلم أنّ الأمم الكبيرة، كالأمّتين العربية والإسلامية، تحتاج إلى عدّة دورات من التحوّل، وعدّة أجيال من القادة المجدّدين. والمفيد أنّ الجواد الحضاري العربي أطلق صهلة قيامه من صمته.
* بروفسور متقاعد