منذ بداية الخلاف بين جبران باسيل والحزب كان من الصعب التصوّر أنّ هذا الخلاف نهائي لا رجوع عنه. لا يتعلّق الأمر هنا بحاجة التيار الوطني الحرّ إلى “تفاهم مار مخايل” (المُوقّع بين الطرفين في العام 2006) وحسب، بل إنّ الحزب أيضاً لا يمكنه خسارة التيار لأسباب لا تبدأ في بيروت ولا تنتهي في طهران، العاصمة الإقليمية لمحور الممانعة.
هذا التفاهم، وإن كان قائماً أساساً على دينامية سلطوية لدى الطرفين، بمعنى أنّهما يتطلّعان إلى الإمساك بمقاليد السلطة كلّ بحسب نظرته وحساباته، يتجاوز في جوهره تركيبة الحكم في لبنان، إذ هو في جزء أساسيّ منه ارتدادٌ للصراع داخل منظومة الخلاف السنّي – الشيعي في المنطقة، من حيث إنّه يشكّل أداة أساسية للحزب وإيران في هذا الصراع الأيديولوجي والاستراتيجي الذي يخوضانه في المنطقة ككلّ. فالحزب يستخدم تحالفه مع تيّار مسيحي رئيسي لتركيب صورته بما يُظهره يمثّل تياراً انفتاحياً داخل الإسلام، وبالتحديد داخل تيارات الإسلام السياسي، في مقابل النزعات الانغلاقية والمتطرّفة للتيارات المنبثقة عن “الإخوان المسلمين”.
نحن أمام إعادة إنتاج لثنائيّة التيار والحزب، وهو ما سيؤدّي إلى إعادة إنتاج التركيبة السلطوية ذاتها مع فوارق طفيفة
صورة الحزب والحاجة لباسيل
الصورة التي يسعى الحزب إلى بنائها عن نفسه ليس الغرض منها عملياً الترويج لنفسه في المنطقة وحسب، بل في العالم بأسره، على الرغم من كلّ خطاب التحدّي الذي يتبنّاه الحزب بوجه الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية. وهذه استراتيجية لطالما استخدمها النظام السوري ولو من زاوية أيديولوجيّة مختلفة من خلال تقديم أنّه يرتكز على أيديولوجية علمانية تستوعب “مسيحيّي الشرق” بخلاف الأيديولوجية الإسلاموية التي تتبنّاها غالبية معارضيه.
“تفاهم مار مخايل” يسبح منذ توقيعه في هذا البحر الاستراتيجي للحزب وإيران، لذلك يتمسّكان به إلى آخر نفس. فحتّى لو كان التيار الوطني الحرّ قد ضعف شعبيّاً وسياسياً عمّا كانه من قبل التحالف مع الحزب وإيران، إلا أنّه ما زال قادراً على تحقيق مصلحة الحزب لهذه الناحية. والحزب من ناحيته مستعدٌّ دائماً لدعم باسيل لكي لا يبلغ من الضعف ما يجعله غير مفيد له، خصوصاً أنّه لا يجد بديلاً منه في الوسط المسيحي حتّى الآن.
هذا أمرٌ أساسيّ في مقاربة “تفاهم مار مخايل”، لكنّه ليس الأمر الوحيد بطبيعة الحال، إذ لا يمكن إغفال الوظيفة السلطوية لهذا التفاهم بالنسبة إلى طرفَيه. فمنذ عام 2006 والحزب والتيار يسعيان إلى الإمساك بالسلطة كاملة، وقد تُوّج مسعاهما هذا بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. وحتّى لو انتهى عهد الأخير إلى ما انتهى إليه، فإنّ ذلك لا يبدّل في واقع أنّ ثنائي الحزب – التيار ما يزال ثنائياً أساسياً في تركيبة الحكم، وهو ما تعيد التذكير به عودة العلاقات بينهما بعد خلاف دام أشهراً معدودة على خلفيّة الاستحقاق الرئاسي.
ما بين الثنائيّتين
إذّاك لا يمكن النظر إلى ثنائية أمل – الحزب على أنّها تتقدّم بالمطلق، في حسابات الحزب، على ثنائية الحزب – التيار، وخصوصاً على المدى البعيد. إذ لا يمكن التعامل مع الوضع الشيعي الحالي على أنّه وضع دائم مع احتمال تراجع حضور حركة أمل في الوسط الشيعي، والأهمّ مع ارتباط هذا الحضور بشخص الرئيس نبيه برّي، بينما جبران باسيل ما يزال على الرغم من كلّ الرضوض التي أصابت جسمه السياسي يمثّل مشروعاً مستقبلياً عند المسيحيين إذا بقيت قواعد اللعبة على حالها.
الصورة التي يسعى الحزب إلى بنائها عن نفسه ليس الغرض منها عملياً الترويج لنفسه في المنطقة وحسب، بل في العالم بأسره، على الرغم من كلّ خطاب التحدّي الذي يتبنّاه الحزب بوجه الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية
في الأصل يرتبط المستقبل السياسي لنائب البترون في جزء أساسي منه بحاجة الحزب إليه. لذا تقتضي استمرارية نفوذ الحزب في الوقت عينه الاستمرارية السياسية لجبران باسيل، إلّا إذا انتفت حاجة الحزب إليه. وهذا أمر مستبعد جدّاً، وإلّا تغيّرت قواعد اللعبة وأصبح النظام السياسي معرّضاً أكثر للتفكّك، لأنّ خسارة الحزب ورقة التيار الوطني الحر ستُضعف سيطرته على مقاليد السلطة، وبالتالي لن يقبل بنظام لا يديم هذه السيطرة.
لذلك ليست الخلاصة الأساسية لعودة الحوار بين الحزب والتيار خلاصة متّصلة بمستقبل الاستحقاق الرئاسي وحسب، بل بمستقبل تركيبة الحكم في لبنان. إذ يشير هذا الحوار، الذي من المرجّح أن يبلغ خواتيم سعيدة بالنظر إلى استعداد باسيل للتنازل ما وسعه ذلك، إلى أنّ تحكّم هذا الثنائي بالسلطة طوال السنوات الماضية مرشّح للاستمرار ولو بصيغ مختلفة بالنظر إلى تراجع قوّة التيار الوطني الحرّ.
انطلاقاً ممّا سبق، يعيد استئناف الحوار بين التيار والحزب خلط الأوراق في البلد ويفرز خريطة التحالفات والخصومات وفق أسس جديدة. لذلك لم يكن مستغرباً أن تقترب القوات اللبنانية، تكتيكياً، من حركة أمل، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من مسارعة الدكتور سمير جعجع إلى الإشادة بكلام النائب الأوّل لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري الإثنين الماضي، وهو المحسوب أساساً على نبيه برّي، خصوصاً أنّ تولّي منصوري مهمّات حاكم المصرف المركزي يمكن اعتباره هدفاً في مرمى باسيل الذي كان يطالب بتعيين حارس قضائي على مصرف لبنان بعد انتهاء ولاية رياض سلامة.
تعويم “مار مخايل”
بيد أنّ المسألة الأساسية تبقى في توقّع مستقبل تركيبة الحكم مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية. فبقدر ما يهمّ الحزب شخص الرئيس يهتمّ أيضاً بالأرضيّة السياسية التي تتيح انتخابه. لذلك فإنّ الاتفاق مع باسيل في الملفّ الرئاسي أساسيّ بالنسبة إلى الحزب لأنّه يوفّر غطاء مسيحياً للعهد الجديد، علاوة على أنّه يتيح للحزب الإمساك بالتعيينات الإدارية والأمنية طوال الولاية الرئاسية. فمن سيعيَّنون من المسيحيين في المناصب الرئيسية كقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان، سيكونون محسوبين على حلفائه المسيحيين، وهو ما يديم إمساكه بمقاليد السلطة لستّ سنوات جديدة، ويجعل المارونية السياسية في خدمة الشيعية السياسيّة.
إقرأ أيضاً: باسيل: أعطوني الرئاسة الماليّة والشعبيّة.. وخذوا “القصر”
ليس قليل الدلالة أن يؤكّد الحزب فور استئنافه الحوار مع باسيل تمسُّكَه باتفاق الطائف، لأنّ ما يهمّه ليس النظام السياسي وإنّما عدم حؤول هذا النظام دون تحكّمه بالسلطة. ولو كان لهذا الأمر دلالات إقليمية أيضاً متّصلة بالحوار بين المملكة العربية السعودية المتمسّكة باتفاق الطائف وبين إيران، لكنّ إلا أنّ قدرة الحزب على المناورة الإقليمية متّصلة أساساً بقدرته على بناء قاعدة سياسيّة صلبة في لبنان. لذلك يريد تعويم “اتفاق مار مخايل” ولو مع تعديل في موازين قواه في ظلّ الوقائع الجديدة.
في المحصّلة نحن أمام إعادة إنتاج لثنائيّة التيار والحزب، وهو ما سيؤدّي إلى إعادة إنتاج التركيبة السلطوية ذاتها مع فوارق طفيفة. لكنّ الأهمّ أنّ بعث هذه الثنائية سيعيد بعثرة العلاقات بين القوى السياسية، ليس ضمن الائتلاف الداعم للمرشّح جهاد أزعور وقد طويت صفحة الائتلاف، بل بين القوى المتضرّرة إلى هذا الحدّ أو ذاك من عودة ثنائية الحزب – التيار، وبالأخصّ القوات اللبنانية وحركة أمل والحزب التقدّمي الاشتراكي. هنا أيضاً التاريخ يعيد نفسه على نحو دراماتيكي!