بعدما تعذّر على الأجهزة الأمنيّة كشف هويّة أصحاب هواتف منشورة أرقامها على أحد المواقع الإلكترونية، مصحوبة بصور منافية للحشمة لفتيات الهوى، انتحل مخبرٌ سرّيّ تابع لمكتب مكافحة الاتّجار بالأشخاص وحماية الآداب، صفة زبون يرغب بالحصول على فتاة من أجل قضاء ساعات حميمة معها. اتّصل المخبر برقم الهاتف الذي ذيّل صورة فتاة هوى زعم أنّ اختياره وقع عليها، فطلب منه المُجيب على الاتصال، حجز غرفة في فندق محدّد في منطقة جبل لبنان. في الموعد المتّفق عليه، حضرت “ب.ع” بواسطة سيّارة أجرة، فتمّ توقيفها بالجرم المشهود، وقامت بناء على طلب آمر الدورية بإيهام صاحب الشبكة “ع. ف” بأنّها لم تُعجب الزبون وأنّ الأخير طلب منها إرسال فتاة أخرى. على الفور اتّصل رئيس الشبكة بموظّف الاستقبال في الفندق المذكور، وسأله عمّا إذا كانت دورية أمنيّة قد أوقفت الفتاة المذكورة التي كانت تردها اتصالات متكرّرة من شخصٍ رقمُ هاتفه محفّظ في ذاكرة هاتفها باسم”jadoo” أشارت إلى أنّه زوجها “م. د”، الذي يُجبرها على ممارسة الدعارة لقاء الحصول على المال.
تفاصيل التحقيقات
انصبّت التحقيقات مع الموقوفة على معرفة هويّة مُشغّليها، فاعترفت بأنّ زوجها قادها إلى هذه الطريق، وأنّه مع اشتداد الضيق المادّي انتقلا من سوريا للعيش في لبنان، وأجبرها على ممارسة الدعارة مبرّراً ذلك بأنّها ستدرّ لهما أرباحاً وفيرة، وإلّا فسيحرمها من ابنهما البالغ ثلاث سنوات. رضخت الزوجة للضغوط والتحقت بشبكة الدعارة التي يقودها “ع. ف”، فكان الأخير يُعطيها التعليمات عبر الواتساب ويُخبرها عن مكان وجود الزبون وكم ساعة يجب أن تقضي معه والمبلغ الذي يجب أن تتقاضاه.
خلال التحقيق معها أكّدت “ب. ع” أنّ صفحة الإنترنت يديرها شخص تجهل هويّته، يتقاضى نسبة عن كلّ طلب، وأفادت أنّ زوجها يضغط عليها بكلّ الوسائل ويضربها أمام طفلها في حال قصّرت في العمل، ويقوم مدير الشبكة بتوبيخها وشتمها إذا لم تُرضِ الزبون، مشيرة إلى أنّه لا يُسمح لأيّ من الفتيات رؤيته، بل كان يُرسل لهنّ شخصاً، تجهل اسمه أو حتى رقم هاتفه، لأخذ حصّته بعد ممارسة كلّ منهنّ الدعارة مع أربعة زبائن. وكشفت أنّ هناك 15 فتاة يعملن ضمن شبكة “ع. ف”، بينهنّ فتيات قاصرات، وأنّ هناك فندقاً آخر يمارسن الجنس فيه مع الزبائن يقع في منطقة عين المريسة، وأنّ عامل الاستقبال في هذا الفندق يسهّل الدخول إلى الغرف بالاتفاق مع صاحب الشبكة ويتقاضى حصّته من دون علم صاحب الفندق.
قبل الحرب الأهلية، كانت الدعارة في لبنان مشرّعة وفق قوانين محدّدة، فكانت بيوتها علنيّة ومحصورة ببعض المناطق، وكانت فرق المراقبة التابعة لوزارة الصحّة تقوم بالكشف الدوري على المومسات حفاظاً على الصحّة العامّة
حكاية “ب. ع” التي أُجبرت على الانخراط في المهنة القذرة، كانت سبباً كافياً لتسليط الضوء على ملفّ الدعارة في لبنان والنتائج المتأتّية عنه، إذ يشير آخر الإحصاءات إلى توقيف 92 شخصاً بتهمة ممارسة الدعارة في عام 2020، و38 بتهمة تسهيلها (مشغّلين)، فيما اعتُقل سبعة أشخاص بتهمة الاتّجار بالأشخاص. وسُجّل توقيف 11 شخصاً عام 2021 بتهمة الاتّجار بالأشخاص، و55 بملفّات دعارة، و46 بتهمة تسهيلها.
الدعارة وفقاً للقانون
قبل الحرب الأهلية، كانت الدعارة في لبنان مشرّعة وفق قوانين محدّدة، فكانت بيوتها علنيّة ومحصورة ببعض المناطق، وكانت فرق المراقبة التابعة لوزارة الصحّة تقوم بالكشف الدوري على المومسات حفاظاً على الصحّة العامّة، إلا أنّ أيّ تراخيص للقيام بهذا العمل لم تُعطَ بعد الحرب، ومع ذلك تحوّلت بعض الفنادق والشقق المفروشة مرتعاً لتسهيلها وممارستها، وازدادت هذه الظاهرة أخيراً مع اشتداد الأزمة الاقتصادية التي حلّت بلبنان، فكثُرت فتيات الليل من مختلف الجنسيات على مفترق الطرق في الحمرا، الحازمية، الدورة، سنّ الفيل، جونية، المعاملتين وغيرها. تتنوّع جنسيّات اللواتي يمارسن الدعارة في لبنان بين سوريّات وفلسطينيّات ومصريّات وسودانيّات وإثيوبيّات ولبنانيّات، ومنهنّ من يتمّ استحضارهنّ إلى لبنان بصورة شرعيّة للعمل في المنازل، ثمّ يتمّ تسليمهنّ إلى عصابات الاتّجار بالبشر فتُحجز أوراقهنّ الثبوتية لدى عصابات الدعارة، ومنهنّ من يمارسن هذا العمل بملء إرادتهن لغاية الكسب السريع، إذ تراوح أسعار ممارسة الجنس لساعة واحدة بين 100 و150 دولاراً، وتصل التسعيرة أحياناً إلى 400 دولار إذا كانت الفتاة “مغرية وصاحبة خبرة”، وطلب الزبون وقتاً إضافيّاً، وهي لا تتقاضى كامل المبلغ بمفردها، فعمولة مشغّلها محجوزة.
أوضح مصدر أمنيّ بارز لـ “أساس” أنّ “قوى الأمن تعمل بجهد من أجل مكافحة هذه الظاهرة وتوقيف المتورّطين وإحالتهم للقضاء المختصّ”. واعترف المصدر بـ”صعوبة ضبط الدعارة الإلكترونية الناشطة بكثرة عبر المواقع أو الصفحات الإلكترونية”، وشدّد على “أهمية مراقبة تلك الشبكات والإيقاع بأفرادها بالتنسيق مع مكتب حماية الآداب ومكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية ووزارة الاتصالات”. وتحدّث المصدر الأمنيّ عن “تلقّي شكاوى كثيرة من الأهالي في مناطق مختلفة، أبدوا فيها انزعاجهم من مشاهد تخدش الحياء وتُقلق راحتهم، وهو ما يُحتّم علاجاً جذرياً للجم تلك الظاهرة ومعالجتها عبر التنسيق بين وزارة الشؤون الاجتماعية والجمعيات المختصّة”.
دعارة بدون توقيف
وفق دراسة أجراها مكتب الأمم المتحدة المختصّ بالمخدّرات والجريمة الدولية في بيروت، فإنّ عدداً كبيراً جدّاً من ضحايا الاتّجار بالبشر والإجبار على العمل الجنسي في لبنان يأتين من بلادٍ فقيرة، ويوقّعن على عقود عمل مكتوبة باللغة العربية من دون أن يفهمن مضمونها. وهنا تؤكّد السيّدة موهانا إسحق، رئيسة الشؤون القانونية والمناصرة في قسم مناهضة الاتّجار بالبشر في منظمة “كفى”، أنّ “موضوع الدعارة لم يعد مضبوطاً في لبنان، خاصة مع انتشار فيروس “كورونا”، إذ لم يعد هناك توقيف لهؤلاء بسبب اكتظاظ السجون وعدم تجهيز نظارات التوقيف بأبسط بديهيات الحماية. أضف إلى ذلك عدم القدرة على الوصول إلى مشغّلي الفتيات في الدعارة لأنّهم محميّون من أصحاب نفوذ”.
وفق دراسة أجراها مكتب الأمم المتحدة المختصّ بالمخدّرات والجريمة الدولية في بيروت، فإنّ عدداً كبيراً جدّاً من ضحايا الاتّجار بالبشر والإجبار على العمل الجنسي في لبنان يأتين من بلادٍ فقيرة، ويوقّعن على عقود عمل مكتوبة باللغة العربية من دون أن يفهمن مضمونها
وصنّفت إسحق الدعارة في إطار “العنف ضدّ النساء واستغلالهنّ، لأنّ ما من امرأة تتوافر لها الحماية الكاملة والدعم تذهب لبيع جسدها، ناهيك عمّا يحصل خلال العلاقة الجنسية من عنف واغتصاب وضرب. فتلك العلاقة هي بالنتيجة علاقة غير عاطفية وليس لدى المرأة خيار الرفض حتى لو كانت تتعرّض لإهانة كرامتها، ويتمّ إجهاضها إن حملت وتعذيبها أحياناً حتى الموت”. وعزت الانجرار وراء هذه الظاهرة إلى “الظروف الهشّة التي تعيشها الفتيات، لا سيما الأوضاع الاقتصادية والحروب وما يتأتّى عنهما من نزوح وفقر”.
تشير الدراسات إلى أنّ اللواتي يمارسن الدعارة تعرّضن منذ الصغر للاغتصاب داخل الأسرة أو تزوّجن زواجاً مبكراً، وبالتالي كُسر جسدهنّ أو عواطفهنّ، فينزلقن نحو هذا الباب ثمّ يجدن صعوبة في الخروج منه. وشبّهت إسحق الدعارة بـ”القفص المطبق” الذي لا يمكن فتحه والانطلاق منه إلى عالم الحياة من دون دعم، و”هنا يأتي دور جمعية “كفى” التي ترسل مساعِدات اجتماعيات بشكل دائم إلى مكتب مكافحة الاتّجار بالبشر وحماية الآداب في مخفر حبيش، وتعمد إلى تأهيل الفتيات عبر وضعهنّ في مأوى خاصّ، وتقدّم الخدمات المباشرة من توعية ومساعدة لكلّ من يقصدن الجمعية، وتهتمّ بتدريب العناصر الأمنيّة لضبط الجريمة وتنفيذ القانون بالتعاون مع القضاء المختصّ من أجل توفير حماية حقيقية لمختلف النساء من الوقوع ضحيّة هذه الآفة”.
إقرأ أيضاً: 120 موقع “للقمار الإلكترونيّ” في لبنان: نشوة فانتحار!
وميّزت رئيسة الشؤون القانونية في “كفى” بين جناية الاتّجار بالبشر التي تكون فيها الفتاة ضحيّة يتمّ استدراجها وتشغيلها في مجال الدعارة من دون أن تكون لديها القدرة على التمرّد أو الرفض لأنّها تنصاع لمشغّليها الذين يكونون أرباب شبكة منظمة. وهي جريمة يعاقَب عليها بالسجن بين 5 و15 سنة (المادّة 586 عقوبات)، وبين الدعارة الفعلية، أي شراء جسد امرأة بالتواصل معها مباشرة أو من خلال وسيط (جنحة المادّة 523 عقوبات)، التي يعاقَب عليها بالسجن حتى ثلاث سنوات من مارسها وسهّلها من دون أن يلحظ القانون معاقبة الزبون أو من يدفع المال مقابل الجنس.
يضع تفشّي هذه الظاهرة الدولةَ أمام تحدّي ضبطها حتى لا تتفشّى إلى نطاق يقود إلى تدمير مجتمعي له عواقب وخيمة.