.. “زعموا أنّها المدينة الأفقر على ساحل البحر الأبيض المتوسط ونقول لهم.. تعالوا انظروا. إنّها المدينة الأغنى برجالها وعلمائها، بتاريخها وحضارتها، بعروبتها وأصالتها، بقيمها وتقاليدها”.
بهذه الكلمات افتتح رئيس جمعية مكارم الأخلاق الدكتور عبد الحميد كريمة مجلس سماع “صحيح الإمام البخاريّ”، بمشاركة حشد من علماء ومسنِدي الحديث النبوي في العالم الإسلامي يتقدّمهم مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام وأمين الفتوى الشيخ أمين الكردي.
استعادت مدينة طرابلس على مدى عشرة أيام تاريخها وعوائدها كمدينة للعلم والعلماء في حشد هو الأكبر في الشرق الأوسط في سياق رواية الحديث النبوي، إذ تجاوز الحضور الآلاف طوال أيام التلاوة التي بدأت يوم الجمعة الفائت في 18 آب وتُختتم يوم الأحد المقبل في 27 منه.
تقليد طرابلسيّ عريق
يقول الشيخ محمد الحموي، الخبير المتخصّص في التصوّف والحركات الصوفية، لـ”أساس” إنّ طرابلس “عرفت تقليد مجالس الذكر منذ دخول العثمانيين الشام ومدنه”. ويشير إلى أنّ “مجالس الذكر تطوّرت في عهد الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ أحمد الرفاعي، وبقيت مستمرّة عن طريق الجماعات الصوفية. وفي العهد العثماني، دعمت الدولة التصوّف ومجالس السماع، وهذا ما أدّى إلى انتشار الطرق الصوفية بكثافة، ولا سيّما في طرابلس، حيث تحوّلت التكيّة المولوية إلى المركز الأوّل في إقامة هذه المجالس الجماعية الكبيرة، بالإضافة إلى الزوايا والتكايا التي كانت منتشرة في المدينة”.
بيد أنّ هذه الظاهرة تراجعت كثيراً، ويعزو الحموي سبب ذلك إلى الحرب الأهلية اللبنانية: “في السابق كان يُعقد كلّ يوم مجلس أو مجلسان، لكنّ الحرب الأهلية أدّت إلى إقفال الكثير من الزوايا والتكايا. واليوم عاد هذا التقليد بزخم كبير، وهذا عامل مبشّر”.
ثمّة عامل آخر، يحاول الكثيرون عدم التطرّق إليه، وهو التزمّت الشديد الذي انتشر في الأوساط الإسلامية تحت تأثير الثورة الإسلامية في إيران، ومن بعدها الجهاد الأفغاني المدعوم أميركياً ضدّ السوفيت. وكانت طرابلس إحدى أكثر المدن اللبنانية تأثّراً بهذا التشدّد الذي ما يزال ماثلاً في الخطاب الشعبي وبعض السلوكيّات. من هنا تكتسب خطوة إقامة مجلس تلاوة وختم صحيح البخاريّ في الفيحاء أهميّة كبيرة. لذلك اجتمع الكثير من الجهود والإرادات للإصرار على إقامته وتجاوز المعوّقات اللوجستية والماليّة.
الجهة المنظّمة هي جمعية “دار الأثر الطرابلسية”، وهي جمعية حصلت على العلم والخبر عام 2021، برعاية المفتي إمام، وبالتعاون مع أمانة الفتوى في دار الفتوى، إضافة إلى جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية التي قدّمت مسرح روضة الفيحاء مكاناً لإقامة المجلس، وجامعة طرابلس.
أمّا عن الشيوخ المسمعين في المجلس، فعددهم 20، 8 منهم من لبنان، و12 من أبرز المشايخ المسمعين في العالم الإسلامي، من المغرب واليمن وسوريا ومصر وباكستان وبريطانيا. ويدير المجلس أمين الفتوى الشيخ أمين الكردي.
إعادة الروح للتاريخ وأداة تثقيف
يقول الشيخ محمد سعيد منقارة، رئيس جمعية دار الأثر الطرابلسية، لـ”أساس” إنّ الهدف من إقامة مجلس سماع صحيح البخاريّ هو “إحياء سُنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فهي لا تدخل مكاناً إلّا وأحيته، بالإضافة الى إعادة ربط الناس بالسُّنّة النبوية، وإعادة الروح لهذا التقليد الطرابلسي العريق الذي انقطع منذ نحو 70 سنة”.
يذكّر منقارة بأنّ المسلمين كانوا أيام المحن والشدائد يقيمون مجالس قراءة صحيح البخاريّ، “وبلدنا يعاني اليوم من أزمة بلاء، وقراءة الأحاديث والسنّة النبوية قد تسهم في رفع هذا البلاء”. في اليومين الثالث والرابع زرنا مسرح روضة الفيحاء، وبدت لافتةً مشهدية الحضور الذي غصّت به القاعة، وتنوّعه وشموله النساء والعديد من الفئات العمرية، من بينها الفئة الشبابية وصغار السنّ وعدد لا بأس به من الحاضرين الذين قدموا من خارج لبنان.
بيد أنّ أكثر ما يمكن التوقّف عنده هو شيخ جليل مسنّ أصرّ على الحضور على كرسيّه المدولب متجاوزاً كلّ المعوّقات. وهذا الشيخ هو علي المصري شيخ قرّاء مصر، الذي يعكس حضوره مدى أهمية مثل هذه المجالس. يقول منقارة إنّ “الحضور فاق التوقّعات، إذ كان هناك إقبال كبير من الناس، وهذه بشرى خير”. ويشيد بتعاون الجهات المساهمة والفاعلة في هذا المجلس، مشيراً إلى أنّه “بعكس ما يصوَّر، ثمّة غيرة كبيرة على الدين والثقافة الدينية، وهذا ما لمسناه من إقبال الداعمين. هذا المجلس تقيمه عادةً دول وحكومات وجهات متموّلة كبيرة، ونحن أقمناه بجهود خاصّة وبتمويل من فاعلي الخير. ومجلسنا فاق الكثير من المجالس التي أُقيمت في بلدان أخرى”. ويلفت منقارة إلى نقطة مهمّة، وهي أنّه “للمرّة الأولى تُستضاف امرأة لتكون واحدة من شيوخ المجلس (ضمن زاوية خاصّة بالنساء)، وهي السيّدة اليمنية صفية بنت يحيى الأهنومي”.
من جهته، يشير رئيس جمعية مكارم الأخلاق وعضو مجلس بلدية طرابلس الدكتور عبد الحميد كريمة في حديث إلى “أساس” إلى أنّ “الجمعية دعمت إقامة هذا المجلس بهدف إعادة الرونق العلمي للفيحاء وإحياء تاريخ محدّثيها العظام”. ويذكر كريمة أنّ شعار الجمعية “إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”، وأنّها “لطالما كانت حريصة على بناء روح التآلف والتعاون والعمل على نشر الفضيلة وفقاً لشعائر الإسلام والقيم الدينية. وستبقى المدافع الأوّل عن الدين الحنيف في وجه الموبقات والشعارات الخبيثة والألوان المشبوهة”.
في المقابل، تعتبر مصادر مقرّبة من مفتي طرابلس والشمال محمد إمام أنّ هذه المجالس هي “منصّة مهمّة لنشر العلم وتوطيد ثقافة الحوار بين المسلمين، وأداة قويّة وفعّالة لمكافحة التطرّف والانحراف. وتساعد على تعزيز الفهم الصحيح للدين الإسلامي”.
ما هي مجالس الذكر؟
“مجالس الذكر” أو “السماع” تقليد إسلامي عريق يعود بجذوره إلى عصر الإسلام الأوّل، حيث كانت تُعقد في المساجد حلقات الذكر وقراءة كتب الحديث التي تشكّل أبرز مصادر التشريع والثقافة الإسلامية. تطوّر هذا التقليد مع تعاقب الدول الإسلامية، لكنّه اقترن أكثر بالتصوّف والمتصوّفين.
يقول محمد أبو الهدى اليعقوبي، أحد أبرز مشايخ الصوفية والعلماء المسلمين في العالم، إنّ “دروس الحديث النبوي الشريف تعدّ مجالس مباركة منذ قرون طويلة، وتمثّل سُنّة متّبعة لرواية الحديث النبوي الشريف”. بالنسبة لليعقوبي تسمّى هذه المجالس “مجالس السماع” “لأنّ الأصل فيها هو السماع من الشيخ، وهذا التقليد يكاد يندثر في العالم الإسلامي مع طغيان الدراسات الجامعية، ولذلك نحاول قدر المستطاع إحياء هذا التقليد”.
صحيح البخاريّ هو أحد أبرز الكتب التي كانت تُتلى في هذه المجالس وما تزال. فهو يحتلّ مكانة متقدّمة عند أهل السُّنّة والجماعة، وأحد كتب الجوامع التي احتوت على جميع أبواب الحديث النبوي الشريف من العقائد والأحكام والتفسير والتاريخ والزهد والآداب وغيرها. تقوم فكرة مجلس سماع صحيح البخاريّ على تلاوة أحاديث الجامع المسند الصحيح مرتبة حتى ختمها. يقول الشاعر ابن عامر الجرجاني في وصف صحيح البخاريّ:
إقرأ أيضاً: طرابلس “عاصمة الثورة”: نواب لايت.. بلا سياسة
لما خُطّ إلّا بماء الذهب.. صحيح البخاريّ لو أنصفوه
هو السدّ بين الفتى والعطب.. هو الفرق بين الهدى والعمى
تطوّر هذا التقليد في العهد المملوكي، حين قرّر السلطان الأشرف زين الدين شعبان إقامة مجالس لقراءته تضمّ كبار العلماء وذلك سنة 1373 م. واستمرّ العثمانيون في اتّباعه، وأبدى سلاطين آل عثمان اهتماماً كبيراً بترسيخه، حتى إنّ السلطان عبد الحميد الثاني أمر بطبعة جديدة من صحيح البخاريّ نظراً لعدم وجود طبعة متقنة، وعُرفت وقتها بـ”الطبعة السلطانية”. ويذكر السلطان عبد الحميد في مذكّراته التي حقّقها الباحث المصري محمد حرب إقامة مجلس قراءة وختم صحيح البخاريّ عند الشدائد والحروب والكروب. وإلى يومنا هذا، ما يزال هذا التقليد سارياً ومتّبعاً في تركيا، وفي دول المغرب العربي، وبدرجة أقلّ في دول المشرق العربي.