دخلت اللامركزية في بازار الصفقة الرئاسية، باعتبارها واحدة من هديّتين طلبهما رئيس التيار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل علناً من الحزب، ثمن جزء من انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية.
وما يستوقف أنّ باسيل يشترط “القبض مسبقاً”، بمعنى أن يُقَرَّ قانونا اللامركزية الإدارية الموسّعة وقانون الصندوق “الائتماني” (السيادي غير النفطي) في مجلس النواب قبل انتخاب فرنجية. وهذا ما يثير شكوكاً لدى أوساط عديدة في ماهية الصيغة المطروحة للّامركزية، وأسلوب “الخطف” الذي يراد تمريرها به تحت ضغط الاستحقاق الرئاسي.
اللامركزية استحقاق دستوري
غنيّ عن القول أنّ ملفّ اللامركزية ليس تقنيّاً، بل هو استحقاق دستوري نصّ عليه اتفاق الطائف، وهو في عمق المسائل السياسية والدستورية الكبرى التي تحتاج إلى توافق كبير بين المكوّنات اللبنانية، لأنّ أيّ خلل في صيغته يمكن أن يُحدث تغييراً عميقاً في صميم صلاحيّات الدولة المركزية وتوزيع مواردها الماليّة وأصولها العقارية.
الإطار الذي وضعه اتفاق الطائف للّامركزية محدّد بخمس نقاط، سيكون المسّ بأبي ها محاولة لإنتاج طائف بديل:
1- التأكيد على وحدة الدولة وأنّها “ذات سلطة مركزية قويّة” (البند الثالث من وثيقة الوفاق الوطني).
2- مفهوم اللامركزية في اتفاق الطائف هو حرفيّاً “توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين، وتمثيل جميع إدارات الدولة (المركزية) في المناطق الإدارية على أعلى مستوى ممكن”، وليس إنشاء سلطات محلّية مستقلّة مالياً وإدارياً عن السلطة المركزية.
3- ينصّ اتفاق الطائف على “إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسّسات”، بمعنى ألّا يكون الفرز الطائفي أساساً للّامركزية الإدارية والماليّة، وألّا تكون اللامركزية فدرالية مبطّنة.
4- يتحدّث اتفاق الطائف عن “اعتماد اللامركزية الموسّعة” على مستوى القضاء وما دون، عن طريق انتخاب مجلس لكلّ قضاء يرأسه القائمقام، كسبيل لتأمين “المشاركة المحلية”، وليس كسبيل للحلول بدلاً من السلطة المركزية.
5- وأخيراً، لا يأتي اتفاق الطائف على ذكر أيّ وجه من وجوه اللامركزية الماليّة، بما تعنيه من اقتسام الإيرادات الضريبية بين السلطة المركزية والسلطات المحلية، بل يشير إلى “اعتماد خطة إنمائية موحّدة شاملة للبلاد”، و”تعزيز موارد البلديّات والبلديّات الموحّدة والاتّحادات البلدية بالإمكانات الماليّة اللازمة”.
يكمن لبّ مشروع القانون في إنشاء “الصندوق اللامركزي” بديلاً عن الصندوق البلدي المستقلّ، ليكون المموّل لمجالس الأقضية والبلديّات
في ضوء هذا الإطار، ثمّة أسئلة أساسية ستُطرح على التيار العوني والحزب إذا نضجت صفقة اللامركزية، ليس أقلّها أهميّة:
– على أيّ نطاق ستطبَّق اللامركزية: على مستوى المحافظة أم القضاء؟
– هل من حدود فاصلة بين اللامركزية الإدارية التي نصّ عليها اتفاق الطائف، وحدّد إطارها، ودعوات الفدرالية، الصريحة أو المبطّنة؟
– كيف يُراد للموارد الضريبية والسلطة الماليّة أن تتوزّع بين الدولة المركزية والسلطات المحلّية؟
نظام خاص لبيروت
ثمّة محاولة جدّيّة بدأتها حكومة نجيب ميقاتي في عهد الرئيس الأسبق ميشال سليمان، لإعداد مشروع قانون للّامركزية الإدارية، وشُكّلت لهذه الغاية، في أواخر عام 2011، لجنة برئاسة الوزير السابق زياد بارود (لم يكن وزيراً في تلك الحكومة)، وضمّت في عضويّتها أعضاء من مختلف الطوائف والتخصّصات الإدارية والقانونية. وقد عقدت اللجنة 47 اجتماعاً في القصر الجمهوري، وخرجت بنصّ مشروع قانون لتطبيق اللامركزية.
اعتمد ذلك المشروع تقسيماً إدارياً لثلاثين قضاءً، لكلّ منها مجلس يتكوّن من هيئة عامّة ومجلس إدارة. ينتخب المواطنون في القضاء هذه الهيئة العامّة، ويُحدَّد عدد أعضائها بحسب عدد السكّان، وأمّا مجلس إدارة القضاء فهو أشبه بحكومة محلّية، ويتكوّن من 12 عضواً تنتخبهم الهيئة العامّة.
نصّ مشروع القانون على نظام خاصّ لمدينة بيروت يقضي بإنشاء هيئة عامّة لمجلس المدينة من 60 عضواً تنتخب بدورها مجلس إدارة من 12 عضواً. وتتوزّع المدينة على 12 دائرة انتخابية تنتخب كلّ منها بالنظام الأكثري خمسة أعضاء في مجلس المدينة، بغضّ النظر عن عدد السكّان في كلّ دائرة. وتتمثّل كلّ دائرة بعضو في مجلس الإدارة. ومن الواضح من توزيع الدوائر أنّه يهدف للحفاظ على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.
يكمن لبّ مشروع القانون في إنشاء “الصندوق اللامركزي” بديلاً عن الصندوق البلدي المستقلّ، ليكون المموّل لمجالس الأقضية والبلديّات. ويغذّى هذا الصندوق من إيرادات تذهب حاليّاً لخزينة الدولة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
– 25 % من إيرادات الضريبة على القيمة المضافة،
– 10 %من فواتير الهاتف الخليوي،
– ربع إيرادات الجمارك،
-25 % من رسوم الانتقال على التركات والوصايا،
– 50 % من رسوم المغادرة على المسافرين.
المشكلة في ذلك التصوّر أنّه ينزع من الدولة المركزية جزءاً هائلاً من مصادر إيراداتها، فيما يبقي على عاتقها أعباء الإنفاق نفسها بلا تغيير. فالدولة ستستمرّ بالإنفاق على رواتب الوزراء والنواب والأجهزة العسكرية والقضائية والمدنية والتعليم والصحّة وغيرهما من الخدمات، فيما تنشأ أجهزة بيروقراطية فضفاضة مكوّنة من 372 عضو مجلس إدارة، وآلاف الأعضاء في الهيئات العامّة، وآلاف الموظفين والأجراء وأجهزة الشرطة والسلامة المرورية في كلّ قضاء. وسيقع على عاتق المكلّف اللبناني تغطية نفقات هذا الجيش من الوافدين الجدد إلى القطاع العامّ.
والمشكلة الكبرى في هذا التصوّر، الذي يبدو أنّه تسرّب إلى بنات أفكار التيار الوطني الحرّ، أنّه قائم على نزعات محلّية لا تعتني بالنظرة الشمولية لوظائف الدولة واستدامتها الماليّة، بل تهدف في النهاية إلى توزيع مواردها على سلطات فئوية مطلقة اليد في الأقضية، تتيح منسوباً عالياً من الاستنسابية في الإنفاق والتوظيف وتوزيع الموارد، بحيث تتركّز معظم السلطات في يد رئيس مجلس القضاء، الذي يعيّن بنفسه الموظّفين والعمّال والمياومين، ويفتح الحسابات المصرفية ويحرّكها، ويضع الموازنة السنوية وينفّذها، ويمنح رخص البناء والإسكان حيث لا توجد بلديّات، ويمنح رخص الإنشاء والاستثمار، بما فيها الصناعية، ورخص سلاح الصيد، ورخص استغلال المشاعات الحكومية واستغلال الغابات وغيرها. إنّه يختصر بشخصه رئيس حكومة القضاء ووزير المالية وكلّ الوزراء.
إقرأ أيضاً: “اتّفاق الطائف” فدراليّة مقنّعة؟
سيكون مفيداً، على أيّ حال، فتح النقاش في الشكل الأمثل للّامركزية، لكنّ الإشكال في المقاربة المناطقية والفئوية للملفّ أنّها تحيل إلى النزعة القديمة للتمييز بين المركز والأطراف. إذ إنّها تنطلق من دعوة إلى تركيز توزيع الموارد والإنفاق العامّ في المناطق الأكثر ثراء وإنتاجاً للدخل، باعتبار أنّها المصدر الأكبر للإيرادات الضريبية. وتلك هي الوصفة الجاهزة للإبقاء على سياسة حرمان الأطراف التي أورثت جلّ الأزمات السياسية.
بعد مرور أكثر من مئة سنة على تأسيس لبنان الكبير، يفرز “المركز” دعوة جديدة إلى رفع جدران الفصل الإنمائي عن الحرمان في الأطراف. ويبدو أنّ هذا هو الجوهر “الماليّ” للّامركزية في التصوّر العوني.
لمتابعة الكاتب على توتر: OAlladan@