الكرة السعوديّة: البداية من لبنان وبن سلمان  يستثمر بالشغف..

مدة القراءة 10 د

**القصّة الأولى: شاركت من بوّابة الصداقة لعضو مجلس إدارة نادي الاتحاد السعودي في جدّة منصور البلوي والزميل المستشار الإعلامي عمر الكاملي في إنجاح صفقة انتقال النجم البرازيلي “بيبيتو” إلى نادي الاتحاد في شهر أيلول 2002، وعايشت لحظة بلحظة الاندفاع السعودي لإنجاح هذا التعاقد الذي بلغت مدّته عاماً في مقابل مليون ونصف مليون دولار أميركي، وهو رقم كان يُعتبر قياسياً في تلك المرحلة.
التقيت مع الزميل الكاملي بعد يومين من نجاح الصفقة في مدينة جدّة، حيث كنّا نتابع معاً إحدى مباريات فريق الاتحاد في استاد “الأمير عبد الله الفيصل” فتوجّهت إليه متسائلاً متعجّباً: “هل أنتم مجانين يا صديقي كي تدفعوا هذا المبلغ على لاعب متقدّم بالسنّ اسمه حالياً أكبر من قدراته الكرويّة؟”، فنظر إليّ مبتسماً: “متى ستعود إلى جدّة؟”. قلت له: “بعد شهر”. فأجابني: “سأجيبك عندما تعود”.
عدت إلى جدّة بعد شهر بالتمام والكمال، وكان الزميل الكاملي في استقبالي بمطار الملك عبد العزيز. وبعدما أتممت إجراءات الدخول انطلقنا بالسيارة معاً إلى تمارين فريق الاتحاد. فوجئت بأعداد الحضور في المدرّجات فسألت صديقي: “هل هو تمرين أم مباراة رسمية؟”. قال لي: “إنّه تمرين. لقد أتوا لمشاهدة بيبيتو”. وهنا تذكّرت سؤالي له منذ شهر فأعدته عليه. فقال: “انظر إلى الجماهير. الكلّ يرتدي قميص بيبيتو. لقد حقّقنا ما يفوق 2 مليون دولار من بيع القمصان الخاصة ببيبيتو. والرجل إن لم يخُض أيّ مباراة، فقد حقّق الاتحاد مكسباً ماليّاً كبيراً”.
لم تدُم رحلة بيبيتو طويلاً مع الاتحاد، إذ لم تتعدَّ عدّة أشهر، لكنّها كانت صفقة ماليّة ناجحة تكتّمت إدارة الاتحاد على أرقام عائداتها، لكن ما تمكّنت من معرفته أنّها بلغت أضعافاً مضاعفة للرقم الذي دُفع للّاعب البرازيلي.

**القصّة الثانية: في حزيران 1994 كنت مسؤولاً عن قسم الصياغة بصحيفة “عكاظ” السعودية في مقرّها الرئيسي في مدينة جدّة، وشاءت المصادفات الجميلة أن يتأهّل المنتخب السعودي إلى نهائيات كأس العالم في الولايات المتحدة الأميركية. لم يكن الحديث في حينه في كلّ المجالس السعودية إلا أخبار المنتخب ونجومه. في الليلة الحاسمة التي سيجري اللقاء فيها مع المنتخب البلجيكي، أحد أبرز الأسماء الكروية في القارّة الأوروبية، أعددنا العُدّة داخل الصحيفة للقيام بتغطية شاملة لما يسبق المباراة وللمباراة ولما سيحصل بعدها. كلّ الآمال كانت تدور حول تقديم المنتخب الأخضر صورة مشرّفة، ونقطة على السطر. وحدها الجماهير السعودية في المقاهي والمطاعم والمنازل كان طموحها يتجاوز عنان السماء. بدأت المباراة، وكانت كلّ الأنظار تتوجّه إلى اللاعب سعيد العويران ورفاقه. لم يعد هناك أهلي واتحاد، أو هلال ونصر. بل الكلّ توحّد خلف الأخضر، مستحضراً كلّ ما يحفظه من أدعية ومن آيات، وجملة واحدة على الألسن وضعتها صحيفة “عكاظ” عنواناً عشيّة المباراة: “يا ربّ منتخبنا”.

النتيجة كانت تعادلاً سلبياً (0-0). وبعد مرور 5 دقائق على بداية الشوط الأول، فجأة وصلت الكرة إلى سعيد العويران، وهو قريب من وسط الملعب، فانطلق بها كسيّارة سباق الفورمولا 1، فتجاوز لاعباً واثنين، ثمّ تجاوز ثالثاً. كلّ السعوديين وقفوا على أقدامهم شاخصي الأنظار إلى نجمهم المحبوب. إنّه يتجاوز اللاعب الرابع، ويصبح بمواجهة المرمى، فيسدّد الكرة فتعانق الشباك البلجيكية. فرحة جنونية تعمّ الملعب، تعمّ كلّ أرجاء المملكة. تحوّلت صالة التحرير في “عكاظ” إلى مدرّج للجماهير، والصراخ ملأ المكان. الكلّ يعانق الكلّ فرحاً مزهوّاً. لم تتوقّف الفرحة إلا مع ارتفاع صوت رئيس التحرير في حينه الدكتور هاشم عبده هاشم أطال الله بعمره وهو يقول: “اجتماع عاجل لغرفة التحرير. نريد تغطية غير مسبوقة. إنّه حدث عظيم”.

شغف لا مثيل له
قصّتان ترسمان لوحة الشغف السعودي بالرياضة، وتحديداً بكرة القدم التي تشكّل الحبّ والمنافسة والحضور وصورة الوطن عند كلّ مواطن سعودي في جدّة، حيث القطبان الاتّحاد والأهلي، وفي الرياض حيث الهلال والنصر والشباب، وصولاً إلى الدمّام والخُبر وبريدة وتبوك. فكلّ مواطن سعودي لديه قميصان. الأوّل لفريقه المفضّل، والثاني للمنتخب السعودي. فلا جدل ولا نقاش في الولاء والتوحّد خلف المنتخب الأخضر، وهي تسمية يحلو للسعوديين أن يطلقوها على منتخبهم لكرة القدم.
السعوديون يحبّون لبنان، لا بل يتفاءلون به. فبعد الفوز على بلجيكا تقدّم منّي نائب رئيس التحرير الأستاذ الكبير مصطفى إدريس رحمه الله قائلاً: “هل تعلم أنّ أول مباراة رسمية لمنتخبنا السعودي كانت ضدّ منتخب لبنان، وقد تعادلنا فيها (1-1)، وذلك عام 1957 في دورة الألعاب العربية ببيروت؟”.

على خلفيّة هذا الشغف الأسطوري يصبح الكلام عمّا تشهده الرياضة السعودية، وتحديداً كرة القدم، هذه الأيام تحصيل حاصل أو تأكيد المؤكّد.
عندما أطلق وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان رؤية 2030، ظنّ الكثيرون أنّ هذه الرؤية هي عبارة عن مشاريع اقتصادية وإعمارية. فيما الحقيقة التي بدأ يتلمّسها الجميع أنّ رؤية 2030 هي رؤية بناء الإنسان السعودي والعربي. هي رؤية متكاملة تبدأ بالبشر مروراً بالحجر وانتهاء بصناعة المستقبل. ومن هنا كان الاستثمار في كلّ شيء، وتحديداً في الرياضة. وعندما نتحدّث عن الرياضة، تتقدّم كرة القدم في السعودية.
هو استثمار بالشغف السعودي، ومن يعرف طرق النجاح يعرف أن لا نجاح في أيّ شيء إن لم يكن مرتبطاً بالشغف به. فلا يتوقعنّ أحدٌ أن يحصد زرعاً من أرض إن لم يكن شغوفاً بهذه الأرض، أو أن يحصد نجاحاً في اختصاص دراسي إن لم يرتبط الشغف بالحوافز التي دفعته إلى اختيار هذا الاختصاص.
الاستثمار في كرة القدم السعودية هو استثمار في العشق عند الشعب السعودي. وعندما تستثمر في عشق الشعوب، يمكنك صنع المعجزات الرياضية بل والاقتصادية والمجتمعية أيضاً.

بن سلمان يعرف ما يريد
تتعدّد الألقاب التي تطلَق على وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان. يتباهى الشباب السعودي بأن يطلقوا عليه اسم “MBS”، ومنهم من يصفه قائلاً: “أمير المستحيل”. فيما الكهول يصفونه بـ”الأمير الشابّ”، إلا أنّ أجمل الألقاب لقب سمعته من عجوز سعودي تجاوز الـ80، وكان إدارياً سابقاً في نادي الأهلي في جدّة، عندما سألته عمّا يحصل في كرة القدم السعودية هذه الأيام وإمكانية النجاح، فقال لي: “بن سلمان يعرف ما يريد…”.
أطلق الأمير محمد بن سلمان مشروع الاستثمار والتخصيص للأندية الرياضية، وذلك تحقيقاً لأهداف رؤية 2030 في القطاع الرياضي. هي رؤية تسعى إلى بناء مجتمع رياضي فعّال عبر الشراكة بين القطاعين الخاصّ والعامّ للوصول إلى رفعة صورة الرياضة السعودية ومنتخباتها وأنديتها عبر خلق بيئة شبابية قادرة على إنتاج النجوم وتالياً الإنجازات. ولأنّ البداية في الأندية، فالهدف الأوّل لهذا المشروع هو تطوير الأجهزة الاستثمارية والإدارية لتلك الأندية لبلوغ عدّة أهداف:
1- الوصول بالدوري السعودي إلى قائمة أفضل 10 دوريّات في العالم.
2- زيادة إيرادات رابطة الدوري السعودي للمحترفين من 450 مليون ريال إلى أكثر من 1.8 مليار ريال سنوياً.
3- رفع القيمة السوقية للدوري السعودي للمحترفين من 3 مليارات ريال إلى أكثر من 8 مليارات ريال.
يصف الأمير عبد العزيز بن تركي بن فيصل وزير الرياضة السعودي هذا المشروع بالقول: “يمثّل هذا المشروع تحوّلاً نوعيّاً وتاريخياً للقطاع الرياضي في المملكة. وسيساهم في تحقيق التنوّع الاقتصادي، ورفع مستوى الاحتراف والحوكمة وتعزيز التنافسية بما ينعكس على حاضر الرياضة السعودية ومستقبلها”. فيما كتب دان براون محرّر الشؤون الرياضية في BBC في 8 حزيران 2023 قائلاً: “تعمل موارد البلاد وطموحاتها في السعودية على تغيير عالم الرياضة بطرق لا يمكن لأحد أن يتخيّلها. وسوف تستمرّ في إجبار أولئك الذين اعتادوا تولّي زمام الأمور على مواجهة أسئلة صعبة”. وأضاف: “تتزايد التوقّعات بأن تكون هذه الصفقات كلّها مصمّمة لتمهيد الطريق أمام محاولة سعودية لاستضافة كأس العالم 2030”.

طموح يستند إلى وقائع
رؤية 2030 الرياضية على الرغم من ضخامتها وثقلها على أصحاب القلوب الضعيفة، إلا أنّ الكثيرين من الخبراء الرياضيين والاقتصاديين يرون أنّها منطقية تستند إلى وقائع ملموسة.
أحد المؤمنين بهذه الرؤية الدكتور وليد قطان، وهو رئيس “مجلس المؤسّسات الصحافية السعودية”، وعضو في كلّ من منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتراث “اليونيسكو” و”الهيئة الدولية للإعلان”، يقول لـ”أساس” إنّ “هذه الرؤية ستنعكس مادّياً وتسويقياً وترويجياً على عدّة قطاعات غير الرياضة، وفي مقدّمها القطاع السياحي، إذ سيكون عدد من النجوم بمنزلة سفراء للمملكة لدعم السياحة ودعم استضافتها لكأس العالم 2030. وستنعكس هذه الدورة الاقتصادية إيجابياً على الناتج المحلّي والنموّ الاقتصادي السعودي كما على الاقتصاد الرياضي، إذ سيتمّ استقطاب الإعلانات الدولية إلى الملاعب السعودية، واستقطاب شركات عالمية لم يسبق لها أن دخلت سوق المملكة إلى عالم الإعلان السعودي. علاوة على ذلك سترتفع القيمة السوقية للمباريات والدوري السعودي من حيث حقوق نقل المباريات وتصوير مقاطع منها. القيمة المالية المتوقّعة منطقية، لكن من جهتي أتوقّع أن نتجاوزها. من الصعب تحديد كمّ هذا التجاوز الآن، لكن من المؤكّد أنّ زيادة وطفرة ستحصلان”.

من جهته المستشار الإعلامي الرياضي السعودي عمر الكاملي أكّد لـ”أساس” أنّ “الاستثمار في اللاعبين الأجانب، واللاعبين العالميين بصفة خاصة، حقّق طفرة غير طبيعية، ونحن شاهدنا هذا من خلال استقطاب كريستيانو رونالدو العام الماضي، فكان استثماراً كبيراً ودخلاً لنادي النصر وللرياضة السعودية واستثماراً للسياحة، ثمّ استثماراً للسعودية التي قدّمت ملفّها لاستضافة كأس العالم 2030 مع مصر واليونان. هذا الاستثمار سيضخّ الكثير والكثير، خاصة أنّ الرياضة أصبحت بيئة استثمارية اقتصادية لجميع دول العالم”.
عن اللاعبين الدوليين المتوقّع قدومهم إلى الدوري السعودي قال الكاملي لـ”أساس”: “بالنسبة للّاعبين هناك أكثر من لاعب. كانت هناك مفاوضات مع ليونيل ميسي، لكن دخل فريق ميامي، وهو طرف قويّ، وكسب هذه الصفقة. تجري الآن صفقة مع نيمار يوشك أن يوقّعها نادي الهلال معه. لوكا مودريتش قُدّم له عرض، وكوليبالي أيضاً، إضافة إلى أكثر من 20 لاعباً هم من أهمّ اللاعبين على مستوى العالم. هذه الصفقات ستقدّم نقلة غير طبيعية للكرة السعودية. وهناك رؤية وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التي تطمح إلى أن يصبح الدوري السعودي من أهمّ 5 دوريّات في العالم، والمنتخب السعودي من أهمّ 20 منتخباً رياضياً في العالم. هذه النظرة ستكون نظرة ثاقبة، وستحقّق أهدافها مع هذه الطفرة غير المسبوقة لرياضتنا والدعم غير المحدود”.

وتابع: “مثال بسيط. مباراة الاتحاد الذي تعاقد مع كريم بنزيما حضرها 60 ألف مشجّع، مع الإعلانات التي تمّ استقطابها، والجماهير التي حضرت إلى الملعب في يوم تكريمه والتوقيع معه. تحقّق الأندية الخاصة دخلاً كبيراً من الشركات العالمية والمحلّية بعد التوجّه الكبير لخصخصتها. وواضح أنّ الخصخصة بدأت بالفرق الأربعة الكبيرة (الاتحاد، النصر، الهلال، والأهلي) وتقديم مبالغ ملياريّة. هذه المبالغ الكبيرة ستدرّ دخلاً كبيراً على الرياضة السعودية، وستصبح من الخمسة الأوائل في كرة القدم العالمية”.
في لقاء مع صحيفة “ماركا” الإسبانية، قال نجم نادي النصر كريستيانو رونالدو: “كنت أعلم أنّ بنزيما قادم إلى السعودية، ولهذا قلت إنّ الدوري السعودي سيكون من بين أفضل 5 دوريّات في العالم. سيأتي المزيد من اللاعبين لصفوف الدوري السعودي خلال الفترة المقبلة. أنا أثق بذلك”.
لقد قال رونالدو “أنا أثق بذلك”، فكيف تريدون من الشعب السعودي أن يقول غير ذلك، ولسان حاله يقول: “نحن نثق برؤية ولي العهد 2030″؟!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: ziaditani23@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…