أما يزال انتخاب الرئيس يحلّ الأزمة؟

مدة القراءة 6 د

شغل الحدث الروسيّ منذ نهاية الأسبوع الماضي العالم من أقصاه إلى أقصاه، وأعاد التأكيد على المساحة التي تحتلّها الحرب الروسية – الأوكرانية وتبعاتها الجيوسياسية والأمنيّة والاقتصادية على خريطة الاهتمامات الدولية، ولا سيّما لجهة الاستقطاب الدولي الحادّ الذي أنتجته هذه الحرب والذي أعاد رسم صور الحرب الباردة ولو بوتائر وأشكال مختلفة.
في ما يعني لبنان أعاد الحدث الروسيّ طرح أسئلة عن مدى حضور الأزمة اللبنانية في قائمة الأولويّات الدولية والإقليمية، باعتبار أنّ العالم مشغول بقضايا أكبر وأهمّ وأنّ الأزمة في لبنان تبدو أكثر فأكثر وكأنّها أزمة لنفسه لا أزمة إقليمية أو دولية بالمعنى الواسع للكلمة، أي أنّ تأثيرات الأزمة اللبنانية ما تزال حتّى الساعة مضبوطة داخل الحدود اللبنانية ولم تنتج عنها ارتدادات خطيرة على المنطقة أو العالم، فهي أزمة ضمن أزمات المنطقة الكثيرة، وربّما الأقلّ خطورة بينها إذا ما قورنت بالأزمات في سوريا أو العراق أو اليمن أو في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.

أزمة صامتة
إنّها أزمة تتحوّل مع الوقت إلى أزمة صامتة تطال في تبعاتها المباشرة شريحة صامتة من اللبنانيين تتلقّى ارتدادات الانهيار الاقتصادي على حياتها من دون أن تكون لها القدرة على الاعتراض أو الشكوى وتحويل هذين الاعتراض والشكوى إلى فعل سياسيّ يَكسِر جمود الوضع الداخلي ويعيد رسم إطار مختلف للتعاطي الدولي والإقليمي مع لبنان.
لذلك يمكن اعتبار حالة الاستقرار السلبي، التي يعيشها لبنان لناحية التكيّف والتأقلم مع الأزمة الاقتصادية وكأنّ الحياة عادت إلى طبيعتها المعتادة، حالة خطيرة جدّاً لأنّها تخلق واقعاً موازياً وتخفي حقيقة الأوضاع لجهة انعطاب الدولة وتخلّيها عن التزاماتها الاجتماعية تجاه الشعب، وبالتحديد لجهة ضمانات التعليم والصحّة. وهذا اختلال كبير لا يعوّضه أبداً استمرار الدولة في وظائفها الأمنيّة. فالعقد الاجتماعي – الاقتصادي بين الدولة والمجتمع انهار، وهو أمرٌ لا تقتصر أضراره على حياة المواطنين اليومية وحسب، بل إنّ له أيضاً انعكاسات سياسية مباشرة، إذ يعيد ترتيب علاقة اللبنانيين والقوى السياسيّة مع الدولة ومع النظام السياسي ككلّ.

الحال أنّ أزمة رئاسة الجمهورية لم تعُد تختصر الأزمة اللبنانية ككلّ التي باتت تتجاوز الفراغ الرئاسي

كيان هُلاميّ
والحال فإنّ الدولة المركزية التي أُعيد انتاجها بعد الحرب وإن بصيغة أكثر فداحة لجهة المحاصصة الطائفية والسياسيّة، أي بصيغة “البقرة الحلوب” بحسب تعبير الرئيس الراحل الياس الهراوي، أصبحت كياناً هلاميّاً ولم تعد قادرة على تقديم خدمات أو امتيازات للمجتمع أو لفئات منه بحسب ولاءاتها السياسية. وهو ما جعل القوى السياسيّة الطائفية بديلاً من الدولة المركزية باعتبار أنّ شرائح واسعة من المجتمع بدأت ترى في هذه القوى ضمانة اجتماعية واقتصادية لها في ظلّ انهيار الدولة. وفي المقابل تضمُر القوى الاجتماعية والسياسيّة التي تتمسّك بالدولة المركزية التي هي البنية الإدارية والمبدئية الضامنة لحقوق مواطنيها جميعاً وليس لفئة دون أخرى.
هذا الواقع الجديد معطوفاً على الأزمة السياسية العميقة يطرح تساؤلات جدّيّة عن حقيقة أنّ انتخاب رئيس للجمهورية ما يزال يشكّل لوحده حلّاً للأزمة أو حتّى بداية حلّ لها في ظلّ الترابط الوثيق بين تحلّل الدولة وبين المطالبات بتغيير “التركيبة” أو تعديل النظام السياسي التي تستند إلى أرضيّة شعبية يصعب إنكارها، وخصوصاً في أوساط المسيحيين.

“نظام” الحزب
في المقابل، لا ينظر الحزب الذي يقدّم نفسه بوصفه الحصن الحصين ضدّ كلّ طروحات إعادة النظر في شكل الدولة، إلى الدولة المركزية إلّا باعتبارها مساحة لتكريس نفوذه السياسي والأمنيّ في لبنان من ضمن أجندته الإقليمية الواسعة. فهو يخوض صراعاً للإمساك بمفاصل هذه الدولة وإعادة إنتاجها وفق مصلحته لا مصلحة المجتمع ككلّ لأنّ أيّ تناقض مهما كان بسيطاً بين هاتين المصلحتين يجعله ينحاز تلقائياً إلى مصلحته التي تتجاوز الإطار اللبناني الضيّق بحكم طبيعة علاقته مع إيران. وهذا ما ينفي عن الحزب، الذي تغلب طبيعته الطائفية طبيعته الاجتماعية، صفة القوّة السياسية – الاجتماعية التي تريد تشكيل الدولة المركزية وفق أسس اقتصادية – اجتماعية جديدة تحقّق مصالح أكبر شريحة ممكنة من المجتمع. لذلك لا يملك الحزب، كما خصومه، مشروعاً تقدّميّاً للدولة والنظام السياسي، بل إنّ استعداده لتعديل النظام السياسي يهدف إلى أن يستوعب هذا النظام توسُّع نفوذه السياسي والأمنيّ والاقتصادي والديمغرافي. ولكنّه يريد لهذا التعديل ألّا يجزّئ سيطرته على الدولة المركزية أو يقلّصها، ولذا لا يأتي رفضه لتغيير “التركيبة” وفق صيغ فدرالية أو غيرها من حرص على وحدة الدولة بل من تصميم على السيطرة عليها.

لا ينظر الحزب الذي يقدّم نفسه بوصفه الحصن الحصين ضدّ كلّ طروحات إعادة النظر في شكل الدولة، إلى الدولة المركزية إلّا باعتبارها مساحة لتكريس نفوذه السياسي والأمنيّ في لبنان من ضمن أجندته الإقليمية الواسعة

جدال واقعيّ
والحال أنّ أزمة رئاسة الجمهورية لم تعُد تختصر الأزمة اللبنانية ككلّ التي باتت تتجاوز الفراغ الرئاسي، أو أصبح خلوّ موقع الرئاسة الأولى هو أحد أهمّ تعبيراتها، لكنّ مَلْئه لا يعالج الأزمة في عمق أعماقها، فإنّ الجدال في النظام السياسي هو الآن جدال واقعيٌّ ولو أنّ أُفُقه مجهول نظراً إلى التعقيدات الداخلية الكثيرة وإلى صعوبة توقّع انخراط إقليمي ودولي في ورشة تعديل النظام الحالي أو تغييره.
يستفيد الحزب من هذا الأمر باعتبار أنّ إمساكه بورقة رئاسة الجمهورية سيدفع القوى الخارجية وبعض القوى الداخلية إلى تقديم تنازلات/ضمانات له لحلّ الأزمة الرئاسية على قاعدة أنّ إرضاءه في تركيبة الحكم الجديدة أقلّ خطراً من فتح “صندوق باندورا” بما يخصّ تعديل النظام. لكنّ إرضاءه قد يتطلّب تعديلات وتأويلات في جسم النظام تماماً كما حصل في اتفاق الدوحة، الذي كرّس مبدأ الثلث المعطّل داخل الحكومة.

… إلى أن ينتهي الصيف
في ظلّ تشتّت القوّة السنّيّة التي يفترض أنّها المدافعة الرئيسية عن النظام الحالي كما كانت حال المسيحيين عشيّة الحرب عندما تمسّكوا بدستور الجمهورية الأولى أمام مطالبة المسلمين واليسار بتعديله، وفي ظلّ عدم قدرة المسيحيين على ترجمة مطالباتهم بتعديل “التركيبة” في حال استمرّ تحكّم الحزب بالمؤسّسات الدستورية، وفي ظلّ تصميم الحزب على بناء الحكم والنظام على قياسه، فإنّ الاستعصاء الداخلي اللبناني مرشّح للاستمرار حتّى إيجاد صيغة وسَط تكسر الفيتوات الطائفية المتبادلة.
بيد أنّ هذه الصيغة لا تتوفّر شروطها الداخلية حتّى الآن، وهو ما يعقّد أيّ مساعٍ خارجية لإيجاد مخارج للأزمة، بما فيها المسعى الفرنسي، خصوصاً أنّ العالم مشغول بقضايا أكثر أهميّة ولبنان يستعدّ لصيف سياحي واعد يغلّف الأزمة ويزيد من صمتها فيبطئ أيّ اندفاعة داخلية أو خارجية لحلّها… أقلّه إلى أن ينتهي الصيف!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@

مواضيع ذات صلة

قنوات مفتوحة بين قائد الجيش و”الثّنائيّ الشّيعيّ”

في آخر موقف رسمي من الانتهاكات الإسرائيلية اليومية والفاضحة لقرار وقف إطلاق النار تكرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “لفت نظر” لجنة المراقبة لوجوب وقف هذه…

“اللقاء الديموقراطي” يدعم التوافق على جوزف عون

أقلّ من 25 يوماً تفصل عن موعد الاستحقاق الرئاسي. حراكٌ في مختلف الاتّجاهات، وتشاورٌ على كلّ المستويات. الشغل جدّي لإجراء الانتخابات يوم التاسع من كانون…

سفراء الخماسيّة “أسرى” جلسة الرّئاسة!

لا صوت يعلو فوق صوت “مطحنة” الأسماء المرشّحة لرئاسة الجمهورية. صحيح أنّ الرئيس نبيه برّي يتمسّك بتاريخ 9 كانون الثاني بوصفه المعبر الإلزامي نحو قصر…

سليمان فرنجيّة: شريك في رئاسة “قويّة”

من يعرفه من أهل السياسة أو من أهل الوسط يصفونه بفروسيّته ربطاً بأنّه يثبت على مبدئه مهما طال الزمن ومهما تقلّبت الظروف. سليمان فرنجية الحفيد…