السودان.. لعنة الموارد وصراع النفوذ..

مدة القراءة 7 د

استجمع الرئيس السوداني السابق عمر البشير كلّ خبرته التي اكتنزها طوال ثلاثين عاماً من الحكم واختبار المواقف الصعبة وإدارة تناقضات المصالح الدولية تجاه بلاده ليعلن في جلسة مفتوحة ومذاعة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طلب بلاده الحماية الروسية لمواجهة مطامع الولايات المتحدة الأميركية (ومخطّطاتها العدائية). تلك نقطة مهمّة لدراسة الأسباب الجوهرية لإسقاط النظام السابق في السودان. فقد طرح البشير في تلك الزيارة قضايا ذات حساسيّة عالية تعتبرها الولايات المتحدة الأميركية جزءاً من أمنها القومي. فإلى جانب طلب الحماية أعرب البشير عن قناعته بأهمية النظام الإيراني في المنطقة، وبضرورة بقاء الأسد في أيّ تسوية في سوريا. وأيّ واحدة من هذه القضايا كفيلة بمعاقبة النظام السوداني إقليمياً ودولياً. بعد هذه الزيارة شدّدت الولايات المتحدة الأميركية خناق العقوبات على النظام السوداني ومنعت حلفاءه الخليجيين من تقديم أيّ دعم له بينما كانت صفوف الخبز والوقود تملأ العاصمة السودانية.
لم تتأخّر روسيا قيد أنملة في الاستجابة لطلب البشير الذي جاء إليها على طبق من ذهب، إذ كانت تبحث في ذلك الوقت عن منفذ على البحر الأحمر يساعدها في التغلغل في إفريقيا، خاصة بعدما أنشأت غريمتها الولايات المتحدة الأميركية قيادة القوات الأميركية في إفريقيا-الأفريكوم للدخول في حلبة الصراع على الموارد في إفريقيا، وللحدّ من تنامي تأثير الصين وتغلغلها هناك. ومع وصول طلائع القوات الروسية ومستشاريها المدنيين إلى السودان في بدايات عام 2018 تزايد القلق الأميركي من تصرّفات الحكومة السودانية وعلاقاتها المتنامية مع الروس، التي تشكّل تهديداً جوهرياً للمصالح الأميركية في هذه المنطقة بحسب كاميرون هيدسون المسؤول الأمني السابق في إدارة كلينتون الذي قال إنّ “وجود قاعدة عسكرية روسية في البحر الأحمر يهدّد خطط الولايات المتحدة ودول الخليج واستراتيجيّتهم، وهناك قدر كبير من الجهود المبذولة للتصدّي لأيّ جهود روسية لإرساء وجود عسكري دائم في السودان..”.

يمكن القول إنّ حميدتي اندفع في طموحاته الاقتصادية والسياسية من دون أن يتسلّح بالوعي الكافي لطبيعة الصراع الدولي الذي يجري في هذه المنطقة

هل أخطأ حميدتي التقدير؟
بعد صعود البرهان إلى رئاسة مجلس السيادة وقيادة الجيش سارعت القوات المسلّحة إلى تجميد الاتفاق الذي سبق أن وقّعه الرئيس البشير والمتعلّق بالقاعدة الروسيّة على البحر الأحمر بحجّة عدم المصادقة عليه من قبل البرلمان ووجود بعض الملاحظات عليه، وهو الموقف الذي أعلنه البرهان مراراً، وكذلك رئيس هيئة أركان الجيش الفريق محمد عثمان الحسين. ورشحت تقارير إعلامية وقتها أنّ هذا القرار تمّ اتّخاذه استجابةً لضغوط أميركية، غير أنّ التطوّر الأهمّ من ذلك هو ما تحدّثت عنه مواقع إخبارية من أنّ التدريبات التي يقدّمها خبراء روس للجيش السوداني لم تعدّ مستمرّة، وأنّ هؤلاء الخبراء تحوّلوا للتعاون مع قوات الدعم السريع. تُظهر هذه النقاط أنّ الجيش بخبرته الطويلة في إدارة لعبة توازنات القوى الدولية والإقليمية حرص على مخاطبة وطمأنة المخاوف الأميركية من جهة، وعدم صدّ الباب أمام العلاقة مع روسيا كدولة محورية في السياسة الدولية من جهة أخرى. وما يؤكّد هذه الفرضية هو تصريح رئيس أركان الجيش السوداني وقتها بأنّه “حتى الآن ليس لدينا اتفاق كامل مع روسيا حول إنشاء قاعدة بحريّة في البحر الأحمر، لكنّ التعاون العسكري بيننا ممتدّ..“.
إنّ الخبرة التي جعلت الجيش يتّخذ هذا الموقف لم تتوافر لحميدتي القادم الجديد إلى نادي النخبة السياسية حديثاً. فقد وسّع حميدتي من مجال تعاونه مع روسيا في مجالات متعدّدة، وجاءت زيارته لموسكو قبل يوم واحد من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتصريحاته بعد عودته بخصوص القاعدة الروسية على البحر الأحمر لتبعث مجدّداً المخاوف الأميركية والغربية عموماً من تحرّكاته الإقليمية وتحالفاته الدولية، ولتذكّر بزيارة البشير التي طلب فيها الحماية الروسية، إذ سرعان ما استفسر سفراء الاتحاد الأوروبي بالخرطوم وزير الخارجية السوداني عن طبيعة الزيارة وتوقيتها، بينما انطلقت حملة إعلامية أميركية وغربية واسعة ضدّ الوجود الروسي في السودان وجيرانه، وتمّ ربط ذلك بقوات الدعم السريع وقائدها محمد حمدان دقلو.

في السادس من آذار الماضي نشرت مجلّة “أفريكا إنتلجنس” القريبة من دوائر مخابرات غربية أنّ وكالة المخابرات المركزية الأميركية تتابع عن قرب أنشطة حميدتي في تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى، ونشرت معلومات مفصّلة عن تورّطه في الإعداد لانقلاب عسكري في تشاد بالتنسيق مع قوات فاغنر الروسية. ثمّ نشرت المجلّة نفسها في الشهر عينه تقريراً عن تزايد قلق واشنطن من نشاطات قوات الدعم السريع في جمهورية إفريقيا الوسطى بالتنسيق مع قوات فاغنر وسعيها إلى توسيع سيطرتها على مناجم الذهب على الحدود بين السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى. وختمت المجلّة تقريرها مؤكّدة أنّ اهتمام واشنطن المتزايد بالمنطقة ربّما يمهّد لهجوم على فاغنر وشركائها هناك.
سبق هذه التقارير تركيزٌ إعلامي واسع على أنشطة التنقيب عن الذهب في السودان والتهريب المنظّم الذي يتمّ بواسطة قوات فاغنر وقوات الدعم السريع. وقد أجرت قناة CCN تحقيقاً مصوّراً بعنوان “القبضة الروسية على السودان” أظهرت فيه أنّ شركة “مروي قولد” الروسية المملوكة لفاغنر تعمل في السودان بالتنسيق مع حميدتي وشركاته بعيداً عن رقابة الدولة وأجهزتها، ويتمّ تهريب الذهب إلى روسيا مروراً بمدينة اللاذقية الساحلية في سوريا. ووفقاً لـ”أفريكا إنتلجنس” ترتبط هذه الشركات بجمهورية إفريقيا الوسطى حيث تعمل فاغنر هناك بالتعاون مع حميدتي أيضاً. ادّعتCCN  أيضاً أنّ روسيا نفّذت حوالي 16 رحلة جوّية، ويُعتقد أنّ تلك الرحلات أسفرت عن نقل سبائك من الذهب تقدّر بقيمة ملياري دولار أميركي على مدار 18 شهراً.
لم تتخلّف أجهزة الإعلام البريطانية عن هذه الحملة المنظّمة، فقد نشرت صحيفة التلغراف البريطانية تقريراً قالت فيه إنّ “روسيا هرّبت مئات الأطنان من الذهب بصورة غير شرعية من السودان على مدار الأعوام الماضية، ضمن عملية لتحصين روسيا من العقوبات الاقتصادية جرّاء الحرب على أوكرانيا”.

إقرأ أيضاً: السودان: ما هو دور الإمارات وأميركا؟

في ضوء هذه القراءة يمكن القول إنّ حميدتي اندفع في طموحاته الاقتصادية والسياسية من دون أن يتسلّح بالوعي الكافي لطبيعة الصراع الدولي الذي يجري في هذه المنطقة، وعمل على وراثة علاقات النظام السابق مع روسيا آملاً أن تكون علاقاته المستقلّة عن الجيش ووزارة الخارجية السودانية عاملاً من عوامل تقوية مواقفه وطموحاته الشخصية. وبانحيازه الأخير إلى قوى الحرّية والتغيير-المجلس المركزي والتي أوهمته بتسويقه لدى الدول الغربية، ظنّ أنّه قد تجاوز المآخذ الأميركية عليه وعلى تحالفه مع قوات فاغنر، ولم يدرِ حميدتي ومستشاروه أنّ المخاوف الأميركية من الوجود الروسي في هذه المنطقة الحيوية أهمّ لدى الولايات المتحدة الأميركية من عدم وجود ديمقراطية بالبلاد، وأنّه متى ما تعارضت مطلوبات الأمن القومي الأميركي مع الديمقراطية فستختار واشنطن الأولى لا محالة. لم يعلم أولئك المستشارون أيضاً أنّ لعنة الموارد التي أصابت كثيراً من الدول كتبت نهايتها بصورة مأساوية وأوقعتها في أتون الحروب الأهلية.
إذا لم تعمل كلّ المؤسسات الحكومية في السودان على مراجعة عقود التنقيب عن الذهب والنفط وفرض سيطرة الدولة عليها والنأي بها عن صراعات المحاور الخارجية والمصالح الداخلية الشخصية فلن يكون السودان بمنجاة عن لعنة الموارد القاتلة التي حلّت بالكثير من الدول الإفريقية.

 

*وزير الدولة للإعلام السابق في السودان ودكتور في القانون المقارن.

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…