تنهي الحرب الدائرة في السودان أسبوعها الثاني من دون أن تمثل في الأفق أيّة مبادرة جدّية دولية أو إقليمية قادرة على تحقيق وقف مؤقّت ومضمون لإطلاق النار. وبقدر ما يمكن إعادة العثرات التي رافقت العملية السياسية، وأهمّها صعوبة تقاسم السلطة بين الجيش والحكومة المدنية، إلى الفشل في توقيع الاتفاق النهائي الذي كان مقرّراً في 5 نيسان 2023 تمهيداً للانتقال إلى إنتاج سلطة مدنية قادرة على استيعاب المكوّن العسكري، فإنّ انفجار الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، اللذين تعاونا في تعطيل العملية السياسية وتحوّلا فيما بعد إلى شريكين لدودين منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في 11 نيسان 2019، لا يمكن اختصار دوافعه بصراع على السلطة بين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي). لقد أثبتت التجارب السابقة، التي رافقت هندسة البشير للقوات المسلّحة والجمع بين الجيش والميليشيات تحت سلطته، إمكانية التعايش بين الرجلين حتى في مرحلة ما بعد البشير على الرغم من التنافس السلبي والعدائية المعلنة بينهما.
يقدّم التقدير الأوّلي للموقف في السودان بعد أسبوعين من القتال الدامي المعطيات التالية:
1- في المعطيات الميدانية: إنّ تركيز العمليات القتالية في محافظة الخرطوم، وتحديداً حول البنية التحتية الرسمية ومراكز القيادة والسيطرة والمؤسّسات الخدماتية، يقدّم نموذجاً أقرب إلى الانقلاب العسكري منه إلى العملية العسكرية بين قوّتين، إذ يسعى كلّ من الطرفين إلى السيطرة على ما أمكن من نقاط القوّة لتحسين صورته الميدانية ليس أمام مؤيّديه من السودانيين، بل أمام الخارج الذي سيحاول التدخّل تبعاً لتوافق مصالحه مع معطيات الميدان.
تصف السفيرة سعاد شلبي، المساعدة السابقة لوزير الخارجية المصري للشؤون الإفريقية، الوضع في السودان بـ”المصيبة الإقليمية”
طبيعة الأعمال في المناطق المدنية التي لا تتيح استخدام أسلحة نوعية، حتى في حال توافرها، ولا تتيح أيضاً استخدام القوات الجوّية بشكل فاعل، ستجعل من العسير على أيّ من الفريقين تحقيق انتصارات حقيقية في زمن قياسي. وهو ما سيُبقي على نموذج الاشتباكات الدائمة بوتائر متفاوتة مع محاولات محلّية لوقف إطلاق النار لن يتمّ الالتزام بها. ويمكن في هذا السياق استخلاص العبر من الحرب في أوكرانيا حيث تتوافر إمكانات تفوق بأضعاف قدرات الجيش السوداني في حين تبقى إنجازات الجيش الروسي محدودة.
2- دخول المكوّن القَبَلي كأحد أوجه الصراع : انتقال الصراع المسلّح إلى قبائل شمال دارفور هو أحد التداعيات المباشرة لتعقيد الموقف الميداني في الخرطوم. فالمكوّنات الأهلية في دارفور موزّعة بين القوّات المسلّحة وقوات الدعم السريع وميليشيات أخرى محلّية، وهذا ما يجعلها بيئة نموذجية لتلقّف الصراع الدائر بكل أشكاله والاندماج في حلقة العنف. أيضاً فإنّ اكتشاف المعادن والثروات الجديدة في المنطقة سيشكّل عاملاً إضافياً لتأجيج الصراع، ولا سيّما أنّ القبائل اعتادت الاستعانة بأبنائها في القوات النظامية، سواء الجيش أو الدعم السريع أو الشرطة.
3- في مؤشّرات التدخّل الخارجي: إنّ الاندفاعة الدولية والإقليمية لإنهاء عمليات إجلاء الرعايا العرب والأجانب من السودان توحي بأنّ الصدام العسكري هو الخيار المتاح في المرحلة المقبلة، وأنّ خروج الموقف عن السيطرة سيكون السمة الأبرز في الأسابيع المقبلة وربّما لمرحلة طويلة ريثما يتبلور ميزان القوى الجديد بشكل أوضح.
الخارج “يؤجّج” الداخل
لا تقتصر المؤشّرات على التدخّل الخارجي على ما جاء في تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في المقرّ الرئيسي للأمم المتحدة في نيويورك، عن “حقّ السودان بالاستعانة بخدمات مجموعة فاغنر”. فالشركات الأمنيّة التي تقوم بأدوار اقتصادية وسياسية أضحت النموذج المعتمَد لتدخّل دول أوروبا الغربية، ولا سيما ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إلى جانب الولايات المتحدة، إضافة إلى الحضور الصيني، ليس في السودان وحده، بل في دول إفريقيا كافّة. وقد اتّخذ هذا التدخّل أشكالاً متنوّعة. خصوصاً بعد انحسار النفوذ الأوروبي وشيوع نموذج الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو وإعلان الانقلابيين التقارب مع روسيا في سياق الحرب على الإرهاب.
كان تصريح لافروف محفّزاً لردود دولية بعد يوم واحد فقط، إذ اعتبر نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، أنّ “مجموعة فاغنر” موجودة في العديد من الدول الإفريقية، ولها دور سياسي يهدف إلى “خلق نقاط توتّر ونزاعات ستؤدّي بعد ذلك إلى صعوبات للغرب“. وفي السياق ذاته، أضاف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يوم الإثنين الماضي في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الكيني، أنّ فاغنر “تجلب معها أينما تحرّكت المزيد من الموت والدمار“.
4- إحجام دول الإقليم عن التدخّل: يعود ذلك إلى ارتفاع وتيرة القلق لدى هذه الدول من التداعيات المحتملة للصراع الدائر، بما يضيف مزيداً من الصعوبات على أزماتها. إذ تعاني كلّ من إثيوبيا وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا وجنوب السودان اضطرابات سياسية وأزمات اقتصادية ضاغطة. تعيش هذه الدول التي تتشارك حدوداً برّية طويلة مع السودان هواجس ممّا سيؤول إليه الصراع، وقد سبق للمرتزقة السودانيين أن شاركوا في الصراع الليبي منذ عام 2011، وكذلك في تشاد. ويُعتبر السودان نقطة انطلاق للهجرة غير الشرعية نحو أوروبا عبر ليبيا.
في السياق عينه تخشى جنوب السودان التي انفصلت عن السودان بدورها عودة 800 ألف لاجئ تستضيفهم السودان حالياً، وتخشى تعطّل تصدير إنتاجها النفطي عبر أنابيب تمرّ باتجاه الشمال. وفي هذا الإطار تصف السفيرة سعاد شلبي، المساعدة السابقة لوزير الخارجية المصري للشؤون الإفريقية، الوضع في السودان بـ”المصيبة الإقليمية”، لافتة إلى أنّ تداعيات الأزمة تتجاوز الحدود السودانية لتكون بمنزلة “قنبلة إقليمية موقوتة” نظراً لموقع السودان الرابط بين القرن الإفريقي ودول الساحل وجنوب الصحراء، ولتداعيات ما يجري على الأمن الإقليمي في البحر الأحمر والبحر المتوسط.
محاولة الذهاب إلى ما سيؤول إليه الصراع المسلّح في السودان ما تزال مبكرة. لقد قدّمت الأيام الأولى لاندلاع الحرب كمّاً هائلاً من المعطيات التي تختلط فيها المصالح الداخلية بتلك الإقليمية والدولية في دولة تختزن من الثروات ما يقدّم الحوافز الكافية لنشوء واستمرار الصراعات. يضاف إلى ذلك أنّ ما يقدّمه التكوين القبَلي للمجتمع السوداني وتعدّده الاثني ومحيطه الجغرافي الملتهب من عناصر سيتيح تشعّب الصراع وتمدّده جغرافياً وزمنياً.
إقرأ أيضاً: حرب السودان: ميليشيات تواجه الدولة والجيش
يبقى أنّ الأدوار الخارجية في الصراع السوداني مرشّحة للتوسّع واتّخاذ أشكال جديدة بدوافع اقتصادية وسياسية وأمنية، وبما يتجاوز صراع الجنرالين تحت عنوان شرعية القوات المسلّحة والطابع الميليشياوي لقوات الدعم السريع. ومجاهرة لافروف بأدوار مجموعة “فاغنر” والاتّهامات التي وجّهها إلى واشنطن باعتمادها ما سمّاه “الهندسة الجيوسياسية” والتسبّب بما يعانيه السودان من أزمات وبتقسيمه، وردود الفعل الغربية عليها، تشكّلان مدخلاً يُبنى عليه لمواجهة غربية روسيّة تجعل من السودان حقل معركة جديداً للإمبراطوريات الكبرى.
* مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات