انتهت المرحلة الثانية من الانتخابات التركية لصالح رجب طيب إردوغان. فاز الرئيس المنتهية ولايته في جولة الإعادة النهائية بولاية ثالثة. فيما حصل تحالفه الجمهوري على الأكثرية في البرلمان التركي.
ارتاحت فرنسا واتحادها الأوروبي من حماسة كيليجدار أوغلو الزائدة في السياسة الخارجية. تخلّصت فرنسا من عبء حركيّاته المفرطة المعبّرة عن التحامه الشديد في الشبكيّة الغربية. تناثرت طموحاته السريعة من بوّابة معاودة المفاوضات المباشرة للانضمام إلى الاتحاد. التقطت أوروبا أنفاسها، فهي غير جاهزة حاليّاً لذلك، وليست مستعدّة على الإطلاق لتقبُّل انغماس الكتلة التركيّة التامّ في الجسم الأوروبي.
انطلق ماكرون من المسلّمات السياسية الواقعية. احترم سيادة الدولة التركية وديمقراطية استحقاقها. رحّب بحرّيّة قرار أكثرية شعبها، وبحقّهم في الاختيار وفي التعبير عن رأيهم.
تحدّيات ماكرون
سارع الرئيس الفرنسي إلى المباركة بـ”سنواجه التحدّيات معاً”. كان من أوائل المهنّئين الأوروبيين للرئيس المنتخَب، وحتى قبل إعلان النتائج النهائية. اعترف بمصير مشترك. لكنّه ضرب على وتر التباينات والاختلافات والخلافات. لقد صرّح بأنّ “لدى فرنسا وتركيا تحدّيات هائلة تخوضانها معاً”، ومن أهمّها:
1- العلاقة الفرنسية والأوروبية التركيّة ومعادلة السلام الأوروبي.
2- مستقبل التحالف التركي – الأطلسي، ودعم نشاطات الناتو وتحفيز الشراكات الأمنيّة والاستراتيجيّة.
3- مشكلة الحرب الروسية – الأوكرانية، وكيفية الاستفادة الأوروبية من الموقع التركيّ.
4- قضية اللاجئين والحرب على الإرهاب.
يدرك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المتغيّرات الكبيرة في المجتمع التركي وما تشهده الساحة السياسية التركية من تحوّلات مؤثّرة في خضمّ بيئة عالمية شديدة التناقض الحيثيّ، وذلك من خلال نتيجة هذه الانتخابات
أسقطت هذه الانتخابات مقولة إنّ “من يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا”، وأظهرت أنّ إردوغان هو شخصية ثابتة وعنيدة ومؤثّرة في الحياة السياسية التركية. ستتخطّى سنوات حكم الرئيس التركي موزّعةً ما بين تسلّمه رئاسة الحكومة ورئاسة للجمهورية مدّة حكم الرئيس المؤسّس لتركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.
يتمتّع الرئيس التركي المنتخَب بسمعة طيبة بحسب العديد من الشخصيات السياسية الفرنسية ومصادر قرار العمل النافذة، وأثبت أنّه رجل قويّ. يظهر نفوذه على الصعيد العالمي. فهو يدافع عن مصالح تركيا ويسعى إلى حماية أوروبا، وهذا يكفي. وعلى الرغم من التباين الشديد أحياناً مع الشركاء في الناتو، أثبت أنّه شريك موثوق. وممّا زاد أيضاً من نسبة الثقة تكريسه مبدأ الحياد في المواجهة الروسية الأوكرانية، حتى مع وجود الاختلافات السياسية مع أوروبا.
لن يحصل تغيير جديد وسريع في ما يخصّ السلوكيّات الفرنسية التركية والأوروبية التركية أيضاً. سوف يظلّ التململ، لكن غير المؤذي، مسيطراً على العلاقة مع الغرب وفرنسا. ستبقى العلاقات مستقرّة، من دون أيّ خصومة. لا توجد شراكة استراتيجية تامّة، لكن سيكون هناك تعاون مصلحيّ كبير.
تسعى كلّ من فرنسا وأوروبا إلى حوار منطقي هادئ مع تركيا ينطلق من المصلحة الواقعية المشتركة مرحلياً، من خلال المحافظة على الاستقرار، والاعتماد على الأمور المتّفَق عليها وتثبيتها وعدم الانجرار وراء خطوات وتطلّعات غير محسوبة ومؤذية.
ميزات تركيا الجديدة
منحت الظروف الراهنة على المسرح العالمي تركيا ميزاتٍ جديدةً تتمثّل في ما يلي:
1- تحتاج أوروبا إلى تركيا لحماية نفسها وتحصين أمنها القومي.
2- تريد أميركا من تركيا أن تكون شريكاً موثوقاً من أجل الضغط على روسيا وإضعاف نفوذها وحركتها السياسية.
3- تتمسّك روسيا بعلاقات مميّزة مع تركيا وتسعى إلى صقل شراكتها معها لكونها جارة قويّة وسيطة ومتنفساً لها في الساحتين الدولية والأوروبية.
دخلت تركيا في عهد إردوغان فترة تعدّدية العلاقات اللاقطبية والمصلحية والمبنيّة على احترام الخصوصيات النفعية. تعترف تركيا بكونها جزءاً من أوروبا الطبيعية، لكنّها ليست جزءاً متناغماً بالكامل مع الرؤية الأوروبية السياسية. وهذا ما سهّل تنمية الشراكات الكبيرة من خلال الاستثمار الصحيح والتنمية الحقيقية للمصالح المشتركة المتّفق عليها، على الرغم من العديد من المواضيع الخلافيّة.
فرضت تركيا تميّزها من دون أن تؤذي فرنسا والغرب الأوروبي، بل كرّسته لحماية ودعم الاتحاد الأوروبي، وهو ما تمّ استيعابه بشكل مقبول نسبياً. لا يُعتبر إردوغان حليفاً كاملاً لفرنسا والاتحاد، لكنّه شريك موثوق، وهذا ما يفهمه الطرفان ويعملان على تقويته، وهو لمصلحة فرنسا الأوروبية وتركيا.
تُعتبر السياسة الخارجية التركية مهمّة، وهي تحت المجهر وعلى المحكّ. ستكون مع إردوغان متوازنة وغير مختلفة نوعاً ما
تحاول فرنسا الاستفادة من تميّز تركيا في سبيل حلّ العديد من القضايا العالقة:
– من خلال وسطيّة الموقع التركي وحيادية موقفه المعارض للعدوان الروسي والضامن للسيادة الأوكرانية. لقد اكتسب الثقة من خلال دعم السيادة الأوكرانية وإمدادها بالمسيّرات وتنديده أيضاً بالعدوان الروسي.
– حفاظه على علاقات مميّزة مع روسيا، وهي ملاذ لفرنسا والاتحاد الأوروبي ويمكن الاستفادة منها من أجل الوقف السريع للحرب الدائرة على أراضي أوكرانيا.
– الاعتماد على تركيا في أمور الوساطات في مسائل الأمن القومي والطاقوي والغذائي، والحفاظ على خطوط الإمداد وسلاسل التوريد، وهو ما تمّ عبر اتفاق الحبوب وخط استجلاب الطاقة والغاز.
– مساهمة تركيا الكبيرة في حلف شمال الأطلسي، والدعم الكامل لنشاطه وتوسُّعه على الرغم من التباين والاختلاف على انضمام بعض الدول.
تفاهم باطني
لقد سُجّل تفاهم باطنيّ عريض بين إردوغان وفرنسا الأوروبية، فلم يعد الأوّل يطالب بالانضمام إلى الاتحاد، فهو ليس بأولويّة حالياً، فيما الثانية غير مستعدّة لانضمام تركيا إلى الاتحاد. لن يؤثّر هذا الموضوع على التعاون الوثيق الذي برز جليّاً في الخطة المشتركة بين فرنسا واليونان وتركيا لحماية وضمان وصول الدعم والإمداد الإنسانيَّين إلى مدينة ماريوبول الأوكرانية. وتُعتبر هذه المباردة تغييراً في وتيرة ونمط العلاقات الفرنسية التركية بعد فترة من التوتّرات، بغضّ النظر عن العراقيل الروسية التي حالت في نهاية المطاف دون تبلور العملية.
لا تريد فرنسا مزيداً من القلق في مسألة اللاجئين. تحاول أن تتفادى موجات الهجرة البشرية من خلال إنجاح الاتفاق التركي الأوروبي لمكافحة الهجرة غير الشرعية والعمل على دعم السلطات التركية. وليست فرنسا بوارد خسارة تركيا التي تشكّل ممرّاً طبيعياً لنقل الموارد من الشرق الأوسط والبحر الأسود وبحر قزوين إلى الاتحاد الأوروبي.
إقرأ أيضاً: أوروبا الحائرة: تريد أردوغان.. وتفضّل كليجدار أوغلو
يدرك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المتغيّرات الكبيرة في المجتمع التركي وما تشهده الساحة السياسية التركية من تحوّلات مؤثّرة في خضمّ بيئة عالمية شديدة التناقض الحيثيّ، وذلك من خلال نتيجة هذه الانتخابات، وانطلاقاً من المنهج الاستنباطي الواقعي. لذا الهدف الأوّل على المديَيْن القصير والمتوسط هو الحفاظ على أفضليّة التوازن الأمني والاستراتيجي والابتعاد عن الأيديولوجيات المقيّدة، ونسج مسيرة من الاستقرار السياسي، والتحفيز على الشراكات المتنوّعة المفيدة التجارية الاقتصادية والمجاليّة، وهو الأمر الذي يجعل من الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية مادّة دسمة للنقاش المستقبلي مع إصرار الأتراك على النسق الاستقلالي، وهو ما تكافح فرنسا للمباشرة به.
تُعتبر السياسة الخارجية التركية مهمّة، وهي تحت المجهر وعلى المحكّ. ستكون مع إردوغان متوازنة وغير مختلفة نوعاً ما. تسعى إلى علاقة جيّدة مع فرنسا على الرغم من كلّ المشاكل والاتّهامات السابقة انطلاقاً من التحدّيات المشتركة. تعمل على شراكة غير استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، على الرغم من جمود الملفّ أوروبياً. فهو ملتزم السلام الأوروبي الاتحادي، وينظر إليه على أنّه شريك أمنيّ موثوق مع الناتو، لكنّه متحرّر وغير ملتزم انغماسياً بسياسته.