في الذكرى السنوية الأولى لغزو روسيا أوكرانيا، أي “العملية الخاصّة” حسبما سمّاها وأعلنها الكرملين في 24 شباط 2022، تحوّل الغزو الروسي حرباً شاملة. منذ البداية بدا أنّها ستُحدث تبدّلاً جذرياً في المشهد الجيوسياسي في أوروبا والعالم. فكيف يبدو المشهد بعد سنة على بدء ذاك الغزو؟
في أوروبا والعالم
1- عودة أوروبا وشرقها محور الصراعات في العالم، بعدما تركّز الاهتمام العالميّ منذ نهاية الحرب الباردة على الصراعات في الشرق الأوسط، وعلى الصراع الأميركي – الصيني في جنوب شرق آسيا.
2- كشف الغزو عن ضعف القدرات العسكرية الروسيّة وسوء إدارتها، خاصّة اللوجستية.
3- فشل فلاديمير بوتين في تحقيق الحلم الروسي باستعادة المكانة العالمية التي كانت لموسكو في زمن القياصرة والاتحاد السوفياتيّ.
في الذكرى السنوية الأولى لغزو روسيا أوكرانيا، أي “العملية الخاصّة” حسبما سمّاها وأعلنها الكرملين في 24 شباط 2022، تحوّل الغزو الروسي حرباً شاملة
4- أعادت حرب بوتين في أوكرانيا إحياء سباق التسلّح. فبعد ثلاثة أيام على بدء الغزو:
أ- أعلن المستشار الألماني زيادة الميزانية العسكرية الألمانية لتبلغ 100 مليار يورو.
ب- في كانون الثاني المنصرم أعلن الرئيس الفرنسي تخصيص 413 مليار يورو للتسلّح بين عامَي 2024 و2030، لترتفع الميزانية العسكرية الفرنسية من 39.2 ملياراً (2022) إلى 59 مليار يورو.
ج- أعلنت دول أوروبية أخرى زيادة ميزانياتها العسكرية مثل بولندا ودول البلطيق.
5- خفّضت الحرب تدفّق الغاز الروسي نحو أوروبا التي تكثّف دولها جهودها لإيجاد بدائل وتسريع الانتقال إلى الطاقات المتجدّدة.
6- أدّت الحرب إلى تماسك حلف شمال الأطلسي، وزادت العديد من دوله ميزانياتها العسكريّة، وهو ما سيزيده قوّة وحضوراً في أوروبا والعالم. وسيؤدّي قبول عضوية فنلندا والسويد إلى تمدّد جغرافيّته نحو الحدود الروسية الشمالية – الغربيّة.
7- أصبحت أوكرانيا دولة مرشّحة لدخول الاتّحاد الأوروبيّ. وفي حال قُبلت سيصبح الاتحاد الأوروبي على تماس مباشر مع روسيا.
8- سيطرت روسيا على مساحات كبيرة من شرق أوكرانيا، وسيؤدّي إعلان انفصال هذه المساحات عنها إلى تبدّل جيوسياسي في شرق أوروبا.
فشل فلاديمير بوتين في تحقيق الحلم الروسي باستعادة المكانة العالمية التي كانت لموسكو في زمن القياصرة والاتحاد السوفياتيّ
ميزان الربح والخسارة
أمام هذا المشهد الجيوسياسيّ، وبعد سنة على اندلاع الحرب في أوكرانيا، يبدو أنّ هناك رابحين وخاسرين. ولا نقول منتصرين ومهزومين، لأنّ الحرب قد تستمرّ لأعوام، وربّما لعقود. مقياس الربح والخسارة يعود إلى مدى تحقيق الأهداف التي أعلنها كلّ طرف من الأطراف قبل عام.
1- روسيا الخاسر الأكبر. فشلت قواتها العسكرية في إنهاء “العملية الخاصّة” كما توقّع زعيمها فلاديمير بوتين. فالعملية تحوّلت حرباً استنزفت قدراتها العسكرية عديداً وعتاداً. تتحدّث بعض التقارير الأوروبية عن مقتل ما بين 40 ألفاً إلى 60 ألف جندي روسي، وهو ما اضطرّ الكرملين إلى الاعتماد أكثر على مرتزقة “فاغنر”. ولم يكن سلاح الغاز والنفط فعّالاً ضدّ أوروبا وفي العالم. وقوّضت العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبيّة ضدّ روسيا قدراتها الاقتصادية. هذا إضافة إلى هجرة ما بين 200 ألف و300 ألف من كوادرها. لكن لا تعني خسائر روسيا هذه هزيمتها. فهي تبقى دولة نوويّة. وهذا ما يسعى الكرملين إلى التذكير به من وقت لآخر. كما صمدت بوجه العقوبات الاقتصادية لأنّ إنتاجها من الطاقة بقي بعيداً عن العقوبات، فالاتحاد الأوروبي لم يتمكّن من الاستغناء عنه كلّياً، وزادت صادرات روسيا من الطاقة إلى كلّ من الصين والهند.
2- أوكرانيا ربحت معركة الصمود. ونجحت في إبراز الهويّة الوطنية الأوكرانيّة والتأكيد عليها. كما حصلت على دعم أوروبي وأميركي غير مسبوق عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً وإنسانياً. تحوّل رئيسها فولوديمير زيليسنكي إلى “بطل” قوميّ وعالميّ. يُخاطب المؤسّسات الدوليّة وبرلمانات الدول عبر الشاشة ويصفّق له أعضاؤها وقوفاً. ويستقبله رؤساء الدول استقبال الأبطال. هذا ما برز في جولته الأخيرة في أوروبا وأميركا.
على الرغم من كلّ هذه المكاسب، خسرت أوكرانيا الكثير في الجغرافيا والديمغرافيا والاقتصاد. جغرافياً خسرت قسماً كبيراً من أراضيها (18% من مساحتها)، وأيّ سلام مستقبليّ لن يعيدها بالكامل، خاصّة أنّ قسماً كبيراً من سكّانها من أصول روسيّة. وكلّما طالت الحرب سيعمد بوتين إلى إحداث تغيير ديمغرافي فيها على غرار ما فعل جوزف ستالين سابقاً. أمّا الخسائر الأوكرانية ديمغرافياً فكبيرة. فقد بلغ عدد اللاجئين 8 ملايين نسمة (18% من عدد السكان). عدد القتلى تخطّى 18 ألفاً. اقتصادياً، دمّر القصف الروسي الاقتصاد الأوكراني والبنى التحتيّة. وتُقدّر كلفة إعادة البناء بـ 349 مليار دولار. كما تعرّضت مساحاتها الزراعية للكثير من الأضرار.
3- بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فقد زادت الحرب في أوكرانيا من تماسكه. ودفعت دوله إلى زيادة ميزانيّاتها العسكرية التي تراجعت كثيراً بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا يحوّل الاتحاد الأوروبي إلى قوّة عسكرية، إضافة إلى كونه قوّة سياسية واقتصادية وتجارية. نجحت الدول الأوروبية في خفض استيرادها الغاز الروسي بنسبة 55%، لكنّها لم تؤمّن البدائل الكافية، وهو ما يبقيها في موقف حرج. كما أثّر ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب على اقتصاداتها كما على اقتصادات العديد من دول العالم.
4- تبدو الولايات المتحدة الأميركيّة الرابح الأول في هذه الحرب بعد سنة على اندلاعها. فهي أعادت تأكيد تفوّقها العالمي عسكرياً ودبلوماسياً وحاجة أوروبا إليها لحماية أمنها. كما أبعدت الخطر الروسي عن مصالحها في أوروبا والعالم لسنوات مقبلة. وتحقّقت زيادة الميزانيات العسكرية لدول الناتو، وهو ما كان يطالب به رئيسها السابق دونالد ترامب. نجحت في خفض تدفّق الغاز الروسي نحو أوروبا، لكنّها لم تنجح في إيقافه كلّياً.
5- الصين تراقب الحرب عن قرب وتنتظر. ربحت من خلال زيادة استيرادها الغاز والنفط من روسيا بأسعار تفضيليّة. أصبحت موسكو أكثر حاجة إلى بكين على المستويات الاقتصادية والدبلوماسية والتكنولوجية والفضائية. كما أنّ تقهقر القوّة الروسية إقليمياً وعالمياً سيسمح للصين مستقبلاً بقيادة قسم من دول العالم في مواجهة الولايات المتحدة الأميركيّة.
إقرأ أيضاً: أحلام بوتين: الشمال الأوروبي والقطبي
في ذكراها الأولى، تبدو الحرب في أوكرانيا في بدايتها. هذا ما أكّدته زيارة الرئيس الأميركي لكييف، وعكسه تصريح الرئيس الفرنسي بأنّ “الوقت ليس للمفاوضات” مع موسكو، وأنّ الأوروبيين “جاهزون من أجل صراع طويل”، في حين يستعدّ الاتحاد الأوروبي لحزمة عاشرة من العقوبات ضدّ روسيا. الحرب مستمرّة، وكذلك التبدّلات الجيوسياسية في العالم وموازين الربح والخسارة لكلّ الأطراف. لننتظر ونرَ ما سيكون عليه المشهد في السنة المقبلة!
* أستاذ في الجامعة اللبنانية