حين كتب القائد السابق لسلاح المشاة الإسرائيليّ اللواء رونين إيتسيك أنّ الجيش الإسرائيلي بات يفضّل سياسة “المعركة بين الحروب” على خِيار الحرب المفتوحة والمواجهة المُباشرة، كان يعني تماماً تلك الضربات التي تستهدفُ القوات الإيرانية وقواتِ حزب الله في سوريا، وعدداً من الاغتيالات والاختراقات السيبرانية أو العسكرية في العُمقِ الإيراني.
– لم يكن بالتّالي من قَبيل الصُدفة أوّلاً أنَّ العدوان الإسرائيلي على سوريا فجر أمسِ الأحد، جاء بعد يومين فقط على خطاب الأمين العام لحزب اللّه السيد حسن نصرالّله، والذي قال فيه مُهدّداً الأميركيين: “سنمدُّ أيدينا وسلاحَنا إلى اليد التي تؤلمُكم، حتّى لو أدّى ذلك إلى الحرب مع ربيبتِكم إسرائيل، ومَن يتصوَّر أنّنا سنجلسُ ونتفرَّج على الفوضى هو واهمٌ، كنَّا جاهزين جدّيّاً بالذهاب إلى خِيار الحرب”. (أي قُبيل ترسيم الحدود البحريّة).
غالباً ما تقولُ إسرائيل إنَّها لا تستهدفُ الجيش السوري، وإنّما الصواريخ الإيرانية المتّجهة إلى حزب الله. تقولُ ذلك ليسَ حُبّاً بسوريا، بل لعدمِ إثارة روسيا التي رسمت معها خطوطاً حُمراً بهذا الشأن منذ اندلاع الحرب السورية، بحيث يغضُّ الرئيس فلاديمير بوتين الطَرْفَ عن استهداف القوات الإيرانيّة والصواريخ، شرطَ عدمِ الاقتراب من القواعد الروسيّة أو من الجيش السوريّ.
يبدو أنَّ المسيّرات هي الخطر الأكبر حاليّاً مع الصواريخ والنووي، ولذلك يتمّ تشكيل جبهة واسعة ضدّ طهران تمتدّ من أميركا إلى أوروبا فإسرائيل، الأمر الذي يشي باضطرابٍ أكبر على عدد من الجبهات
ووفقَ معلوماتٍ مُتداولة، فإنّ الأخطر في الاستهداف الأخير، ليس منطقة الكسوة وجبل مانع، ولا ضرب رادار في السويداء مضادّ للطائرات، بل الوصول بالقصف الصاروخيّ إلى قلب منطقة كفرسوسة التي فيها مربّعات أمنيّة، وربّما كان فيها مسؤولون إيرانيون أثناء القصف.
– لم يكن مِن قَبيلِ الصُدفةِ ثانياً أن يتزامن العدوانُ الإسرائيليّ الجديد على سوريا مع مؤتمر ميونيخ للأمن الذي قال فيه وزير الدفاع الإسرائيلي: “عندما نتحدّث عن منع إيران من الحصول على سلاح نوويّ يجب أن نطرح الوسائل الممكنة، أُكرّر جميع الوسائل الممكنة على الطاولة، ذلك أنَّ إيران تُجري حاليّاً مناقشات لبيع أسلحة متطوّرة، بما في ذلك طائرات مسيّرة وذخيرة دقيقة التوجيه إلى ما لا يقلّ عن 50 دولة، وبينها بلاروسيا وفنزويلا”.
– لم يكن من قَبيلِ الصُدفةِ ثالثاً أن يكون هذا الكلامُ الإسرائيليّ مُطابِقاً تماماً لما قالته وزيرة الخارجيّة الفرنسيّة كاترين كولونا لصحيفة “الشرق الأوسط” أثناء توجّهها قبلَ أسبوعين إلى السعودية والإمارات العربيّة المُتّحدة بعد استقبال باريس لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، إذ أكّدت أنّ “إيران تُهدّد محيطَها الإقليميّ وتسعى إلى زعزعة استقراره، وتعمل مباشرةً في البلدان المجاورة لها وعبر وسطاء يحقّقون مصالحها”، وأنّ “هذه الأنشطة المزعزعة للاستقرار آخذةٌ في التصاعد. ويتجلّى الأمرُ بوضوح عند النظر في جميع المِلفّات، التّي تشمل بطبيعةِ الحال الملفّ النووي والزيادةَ الهائلةَ في ترسانة الصواريخ الإيرانيّة والطائرات المسيَّرة عن بُعد، وأكرّر أنّنا عازمون على التصدّي لها”.
– لم يكن من قَبيل الصُدفة رابعاً أن يندرج هذا العدوان الجديد في سياق حدثَين أمنيَّين لافتين وقعا في الأسابيع القليلة الماضية. الأوَّل هو التفجير الإسرائيلي في قلب مدينة أصفهان الإيرانيّة، والثاني هو الردّ الإيرانيّ عبر استهدافِ الناقلة “كامبو سكوير” التي ترفع علم ليبيريا وتتبع لشركة يُديرُها إسرائيليّ، وذلك في بحر العرب.
– لم يكن من قَبيل الصُدفة خامساً أن تأتي هذه الضربات في قلب سوريا، بعد يومٍ واحدٍ من شُكر الرئيس السوريّ بشّار الأسد للدول العربيّة التي هبّت لنجدة الناس بعد الزلزال، وهو ما تقول صحفٌ إسرائيليّة ودوليّة إنّه سيُستغلُّ لإعادة تعويم النظام السوريّ، وبالتاليّ تقوية المحور الذي ينتمي إليه.
إذاً من الواضح أنّ المنطقة التي تشهدُ حاليّاً عودة لـ”المعارك بين الحروب”، ستعيشُ مرحلةً أكثر اضطراباً على خطّ إسرائيل-إيران وحلفائهما، ذلك أنّ انخراط طهران بالحرب الأوكرانيّة ودعمَها لموسكو بالطائرات المُسيّرة، إضافةً إلى ما تمّ الاتّفاقُ عليه خلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي للصين في الأيام الماضية، عواملُ كافية كي يشعر الإسرائيلي المُحرَج في وضعه الداخليّ، أنّ ثمّة فُرصة مُـتاحة حاليّاً بغطاء دوليّ، لتكثيف الضربات على إيران المُحرجة أيضاً داخليّاً وعلى حلفائها.
غالباً ما تقولُ إسرائيل إنَّها لا تستهدفُ الجيش السوري، وإنّما الصواريخ الإيرانية المتّجهة إلى حزب الله. تقولُ ذلك ليسَ حُبّاً بسوريا، بل لعدمِ إثارة روسيا التي رسمت معها خطوطاً حُمراً بهذا الشأن منذ اندلاع الحرب السورية
هل يُمكن أن تنتقل “المعارك بين الحروب” إلى حربٍ أوسع؟
الجواب المبدئيّ هو أنّه ليس في مصلحة أحد نشوب حرب واسعة الآن، لكنّ احتمال الانزلاق في أيّ لحظة ممكن.
نقرأ مثلاً في كتاب فرنسيّ صدر في أواخر العام الماضي، بعنوان “حربُ الظلّ بين إسرائيل والجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، الجيشُ الإسرائيليُّ ضدّ محور المقاومة الإيرانيّ” للباحث Oren Chauvel ، التالي:
– إنَّ خطّة إسرائيل المعروفةَ باسم “معركة بين الحروب” لا تُقدّم أيَّ ضمانٍ أمنيٍّ شامل على المستوى الاستراتيجيّ لإسرائيل، وذلك لأنّ الميليشيات الشيعيّة، وخصوصاً حزب الله، عزّزت قدرات تحرّكها، وهو ما بدا واضحاً من الحرب السورية، ووسّعت تأثيرَها في الشرق الأوسط من خلال الانتصار على تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق وسوريا (داعش)، إضافةً إلى تشييع مناطق عديدة من الجنوب السوري حتّى بين أولئك الذين كانوا يقاتلون ضدّ الجيش السوري وانضمّوا لاحقاً إلى المحور الإيرانيّ.
– إنّ الجنرالات الإسرائيليين يعتبرون أنَّ “المعركة بين الحروب” التي نجحت عملانيّاً على الرغم من أنّها لم تُبعد الخطر استراتيجيّاً، هي فقط تؤخّرُ حرباً ستندلع عاجلاً أم آجلا.
– لا تعتمد إيران فقط على الشيعة في تلك المنطقة الجنوبيّة السوريّة، ذلك أنَّ تقريراً لمركز الأبحاث الإسرائيلي (Alma) يؤكّد أنّ المحورَ الشيعيّ ضمّ 36 ميليشيا محلّيّة سُنّيّة، من مقاتلين سابقين في الجيش السوريّ الحرّ المُعارض سابقاً، وجيش خالد بن الوليد الذي كان منتمياً إلى “داعش”، وهؤلاء مُكلّفون بالتهريب وجمع المعلومات عند الحدود.
– منذ البدء باستراتيجية “معركةٍ بين الحروب” في عام 2013، لم يخفت التهديد الإيرانيّ للدولة العبرية، فقد أسَّست إيران شبكةً مهمّةً من التأثير، وعزّزت ممرّاً برّيّاً في خلال الحرب السورية، يسمح بنقل السلاح المتطوّر إلى حزب الله، لذلك ترى القيادة الإسرائيلية أنّه ينبغي أن يكون الجيش الإسرائيلي قادراً على الانتقال من معركةٍ بين الحروب، إلى حملة عسكريّة حقيقيّة ومكثّفة وفي وقت قصير جدّاً في حال تدهور الوضع.
– إذا كان تصعيدُ التوتّر هو الأكثر احتمالاً حتّى الآن، إلّا أنَّ قيام الجيش الإسرائيليّ بهجومٍ استباقيّ واحترازيّ قائمٌ فعلاً، ذلك أنَّ هذا الجيش يريد الاحتفاظَ بأولويّة الهجومِ بدلاً من مباغتته بهجومٍ مُضادّ.
إقرأ أيضاً: الحزب والانهيار اللبنانيّ… والمكافأة الأميركيّة
– صحيح أنَّ أيَّاً من الأطراف لا يرغب بالحربِ حاليّاً، فحزب الله يمرّ بمشاكل داخلية كبيرة في لُبنان، وإيران تريد الاحتفاظ بقوّتها الرادعة حيال إسرائيل، وإسرائيل راغبةٌ في الحفاظ على هدوء الحدود، لكنَّ التدهورَ ممكنٌ جدّاً، ذلك أنَّ القيادة الإسرائيلية حدّدت الخطوط الحمر للصواريخ القادرة على الوصول إلى كلّ الأراضي الإسرائيليّة والمراكز الحيويّة.
الكتاب الفرنسي الذي صدر قبل ترسيم الحدود البحريّة بين لُبنان وإسرائيل، يضع مجموعة سيناريوهات للحرب، وبينها أن تكون شاملة لكلّ المحور، أيّ من الداخل الفلسطينيّ مروراً بلُبنان وسوريا والعراق وصولاً إلى إيران، لكنّه يُشير بالمقابل إلى كوارثيّة كلّ ذلك، وإلى الخطر الجديد المتمثّل بالطائرات المُسيّرة. يبدو أنَّ المسيّرات هي الخطر الأكبر حاليّاً مع الصواريخ والنووي، ولذلك يتمّ تشكيل جبهة واسعة ضدّ طهران تمتدّ من أميركا إلى أوروبا فإسرائيل، الأمر الذي يشي باضطرابٍ أكبر على عدد من الجبهات، فيما ترشح معلومات عن عودة إيران والسعوديّة الى جولة جديدة من المحادثات.
*نقلاً عن موقع لعبة الأمم