ذكرى رجل أم ذكرى بلد؟

مدة القراءة 6 د

فجأة تنتبه أنّك تكتب عن رفيق الحريري بصيغة الحاضر. ثمّ تفكّر أنّ الأمر لم يحصل سهواً، وأنّ الكتابة عن رفيق الحريري هي عملية معاندة بين الماضي والحاضر. لا بين ماضي الشخص وحاضره، بل بين ماضي البلد وحاضره. هذا الارتباط الوثيق بين الشخص والبلد يجعل الكتابة عن الشخص في ذكراه كأنّها كتابة عن البلد في ذكراه أيضاً.

حزب التدمير الذاتيّ

لكنّ عقلك لا يقبل أنّ البلد مات أو اغتيل لمجرّد اغتيال الرجل، وإلّا يكُن الرجل هو البلد والبلد هو الرجل. واعتبارٌ كهذا فيه أسطرة للرجل ونكرانٌ للبلد. إنّما الواقع أنّ لبنان في زمن رفيق الحريري كان غيره بعد غيابه، كأنّ لحظة اغتياله هي محطة مفصليّة بين لبنانَين أو بين مشروعَين للبنان:

– مشروع لا يتشكّل حاضره ومستقبله على قاعدة الانقلاب على الحقائق السياسية والاجتماعية – الاقتصادية للبلد.

– ومشروع يتشكّل حاضره ومستقبله على قاعدة الانقلاب التامّ على تلك الحقائق.

لم يكن مشروع رفيق الحريري السياسي والاقتصادي في جوهره مشروعاً طائفياً ومذهبياً، ولو كان يعبّر بطبيعة الحال عن موازين القوى الداخلية والخارجية الجديدة التي أفرزتها الحرب الأهليّة

لم يمثّل مشروع رفيق الحريري قطيعة تاريخية مع لبنان السابق، لكنّه كان النقيض لمشروع حزب الله القائم على أنقاضه، والذي تشكّل القطيعة التاريخية مع لبنان ديناميته الرئيسية التي لا يقوى على تجاوزها.

لذلك فإنّ الانهيار الحاصل لا يدفع إلى السؤال عن مسؤوليّات حزب الله عنه بوصفه القوة الرئيسية في الحكم وحسب، بل وعن عجزه عن قلب مساره، وذلك أنّ الانهيار يمثّل بالنسبة إليه أداةً متقدّمة لتحقيق تلك القطيعة. وهذا ما يعطي مبرّرات منطقية للقول إنّ مشروع حزب الله يندفع أكثر فأكثر إلى التحوّل إلى مشروع تدمير ذاتي للحزب عينه وللبلد معه.

حضور الحريري وغيابه

لا يعني هذا أنّ تاريخ البلد، الذي اعترف به رفيق الحريري وكان مشروعه استمراراً له في ضوء التحوّلات السياسية والاجتماعية بعد الحرب، كان تاريخاً مثالياً ولا يحتمل النقد. لكن في نفس الوقت لا يمكن مقاربة ذاك التاريخ منفصلاً عن الواقع الراهن للبلد. فالانهيار، وإن كانت له جذورٌ في المشكلات التاريخية للبنان، إلا أنّ استمراره على هذا النحو الكارثي في ضوء الاستراتيجية الانقلابية لحزب الله على “لبنان التاريخي”، يخلق مشكلات أخطر وأفدح تمسّ الدولة والكيان في الصميم.

في المقابل، يصير مشروعاً استحضار رفيق الحريري في زمن الانهيار والتساؤل عن مسؤوليّاته عنه. فإذا راجعت مرحلة بأكملها بأشخاصها وقواها وسياساتها وصراعاتها، فإنّك في الوقت عينه لا تستطيع إلّا أن تتساءل عمّا كان سيفعله رفيق الحريري لو وقع الانهيار في زمنه؟ بل تسأل إذا كان الانهيار سيحصل لو أنّ رفيق الحريري ما زال حاضراً؟

وهذا ما يعطي الكتابة عن رفيق الحريري جدواها، أي أنّها ليست كتابة عن ماضٍ مضى في لحظة التهاب الحاضر، بل هي عملية بحث عن الممكن والمستحيل راهناً في ضوء استحضار الماضي ومساءلته، وبالتحديد استحضار مشروع رفيق الحريري الذي اغتيل باغتياله. وبالأخصّ لأنّ اغتياله لم يكن لإسقاط مشروعه فحسب، بل أيضاً لفتح الطريق أمام مشروع بديل في البلد. وهذا ما يجعل اغتياله ذروة صراع بين مشروعين للبنان، أي أنّ هذا الصراع لم يبدأ لحظة اغتياله وإنّما كان قائماً قبله. وهو صراع لم يكن من طبيعة اقتصادية بحت، بل كان صراعاً سياسياً في الأساس، وبالتحديد حول طبيعة الممارسة السياسية وحول كيفية وضع قواعد اللعبة السياسية.

لم يمثّل مشروع رفيق الحريري قطيعة تاريخية مع لبنان السابق، لكنّه كان النقيض لمشروع حزب الله القائم على أنقاضه، والذي تشكّل القطيعة التاريخية مع لبنان ديناميته الرئيسية التي لا يقوى على تجاوزها

مشروع تجنّب الطائفيّة

لم يكن مشروع رفيق الحريري السياسي والاقتصادي في جوهره مشروعاً طائفياً ومذهبياً، ولو كان يعبّر بطبيعة الحال عن موازين القوى الداخلية والخارجية الجديدة التي أفرزتها الحرب الأهليّة. في المقابل كانت سياسة الحكم السوري في لبنان قائمة على اللعب المفتوح على التناقضات الطائفية والمذهبية. وهذا ما حوّل اللعبة السياسية إلى عملية تعبئة طائفية متبادلة حاول الحريري قدر الإمكان تجنّب الدخول فيها لكي لا يتحوّل مشروعه إلى مشروع مذهبي صافٍ في مقابل المشاريع المذهبية والطائفية التي يحملها خصومه ضدّه بدعم من الحكم السوري.

لذلك فإنّ استقطاب رفيق الحريري شخصيّات من طوائف ومذاهب مختلفة، وحتى يساريّين، إلى فريق عمله، لم يكن مجردّ أكسسوارٍ ومحاولة لإظهار تعدّدية مصطنعة ضمن مشروعه، بل إنّ ذاك الاستقطاب كان يؤدّي وظيفة سياسية رئيسية بالنسبة إلى الحريري، لمنع تحوّل مشروعه إلى مشروع مذهبي وطائفي، وبالتالي للحؤول دون دخول مشروعه في ديناميّة تدمير ذاتي له وللبلد.

هذا ما يحيل إلى مقاربة الحريري للمرحلة الانتقالية بين زمن الحرب وزمن السلم، لكي لا تتحوّل إلى عملية مفتوحة لتصفية الحسابات الطائفية التاريخية. ممّا جعل انتقاد الحريري في تلك المرحلة انتقاداً مفارقاً. ففي حين عارضه مثقّفون يساريّون لأنّهم رأوا فيه امتداداً للمارونية السياسيّة من ناحية التوجّهات الاقتصادية لمشروعه، تحسّس منه العقل الماروني العميق، الذي عبّرت عنه لاحقاً العونية السياسية، لأنّه اعتبر أنّه رجل الانقلاب على نفوذ المارونية السياسيّة في الحكم.

هكذا قامت بوجه الحريري معارضات غبّ الطلب حسب ظروف علاقته بسلطة الوصاية السورية. وهي معارضات، وإن غلب عليها الطابع الاقتصادي بدايةً، إلّا أنّ هدفها كان منع الحريري من تكوين هامش لبناني في ظلّ الحكم السوري.

إقرأ أيضاً: الحريري ومحكمته الدوليّة: نسر في قنّ دجاج؟

والحال هذه يمكن مرّة جديدة استحضار تجربة الحريري من حيث قدرته، ولو في ظلّ ظروف داخلية وخارجية معقّدة ومتبدّلة، على إدارة المرحلة الانتقالية بين الحرب والسلم، فيما المشكلة الآن ليست عجز القوّة الرئيسية في البلد، أي حزب الله، عن وقف الانهيار فحسب، بل وعن إدارة المرحلة الانتقالية بين زمن الانهيار وما بعده.

هنا أيضاً يظهرُ اختلاف الحريري، وبالتحديد لأنّه لم يحمل مشروعاً طائفياً أو مذهبياً كان سيمنعه من أن يكون طرف امتصاص للانقسام السياسي والاحتقان الطائفي في اللحظة الانتقالية بين الحرب والسلم، ولو أنّ مشروعه لم يقدّم حلّاً للتناقضات الطبقية في البلد.

لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@

مواضيع ذات صلة

اغتيال رفيق الحريري: زلزال المنطقة المستمرّ

تمرّ الذكرى الـ18 لاغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005، ليتبيّن مع مرور الوقت أمران: – أوّلهما أنّ تفجير موكب رفيق الحريري ورفاقه،…

مسرّة لـ”أساس”: مار مخايل برنامج لشيطنة الحريري..

“هو رجل الاستقلال الثاني”، بهذه الجملة يُعرِّف المرجع الدستوري الدكتور أنطوان مسرّة الرئيس الشهيد رفيق الحريري. لا ينظر الدكتور مسرّة إلى تاريخ 14 شباط كذكرى…

لم يكن شاعراً.. لكن صنع مستقبلاً من العاطفة

في سنوات غياب رفيق الحريري عن المشهد السياسي اللبناني، لم يختف أثر لمسته الإيجابية في الحياة اللبنانية. فظل حاضراً رمزاً لاستقلال لبنان وإرادته الحرة وتفوقه…

جميل مردم بك.. ودوره في اغتيال الحريري

هل في حياة الرئيس رفيق الحريري محطّة أدّت إلى اغتياله في 14 شباط 2005؟ أجاب المفكّر كريم مروّة على هذا السؤال، ليس من موقع قراءته…