كنتُ في زيارة عمل لـ”أبي بهاء” (كما كان يحلو لرفيق الحريري ولنا أن نسمّيه) في منزله الباريسيّ المطلّ على برج إيفل. وهو المنزل الذي قام ببنائه المهندس الفرنسي إيفل فوق تلّة تطلّ على نهر السين للإشراف على بناء البرج.
رئيس أو صانع رؤساء؟
أذكر يومئذٍ أنّه قال لي: “الإخوان عارضين عليّ رئاسة الحكومة، شو رأيك؟”. كان ذلك في مطلع التسعينيّات. لم أتردّد في الجواب. قلت له إنّ “إعادة بناء لبنان أهمّ. العمل السياسي في لبنان يدخلك في زواريب ودهاليز لستَ من أهلها. أتمنّى أن تكون صانع رؤساء (قلتها له بالإنكليزية King Maker) لا ساعياً وراء استرضاء هذا أو ذاك”.
فوجئ الرئيس الحريري بجوابي، وسألني: “هل تحدّثت في ذلك الأمر مع نازك؟” (زوجته الفاضلة التي كان يحبّها كثيراً). أجبته: “لا، لم أرَها بعد. لماذا تسأل؟”. قال: “لأنّها ردّت على سؤالي بالجواب ذاته”، وأضاف: “عندي مشروع لإعادة بناء لبنان ولإعادة تأهيله. وهذا المشروع يتطلّب قرارات حكومية تسهّل وتسرّع الخطوات التنفيذية. وأعتقد أنّ العمل من الداخل الحكومي يزيل الكثير من العقبات”.
كأنّ انفجار الألف كيلو من الديناميت الذي استهدف الرئيس الحريري أمام مدخل فندق السان جورج في 14 شباط 2005 استهدف مؤسّساته الإنسانية في الوقت عينه
التعليم والتعليم
الرئيس رفيق الحريري لم يأتِ إلى الحكم بهدف سياسي. كان من رعيل حركة القوميين العرب، ولم يكن يحمل مشروعاً سياسياً. نجح في المؤسّسة التعليمية التي أنشأها والتي أمسكت بأيدي طلّاب جامعيين من كلّ المناطق والأديان والمذاهب، وقادتهم إلى جامعات كبرى في أوروبا وأميركا. ونجح في إقامة مجمّع كفرفالوس التعليمي الطبّي الذي نهبته القوات الإسرائيلية وحلفائها ونقلت معدّاته الحديثة وأجهزة المختبرات الطبّية إلى الأراضي المحتلّة.
كان يريد كفرفالوس، كما قال لي، مركز تجمّع لتقديم الخدمات التعليمية والصحّيّة لأبناء الجنوب والبقاع وإقليم الخروب، نظراً إلى موقعها الوسطيّ بين هذه المناطق الثلاث. وكان ذلك يتطلّب ربط المجمّع بهذه المناطق بشبكة طرق حديثة.
بدّد العدوان الإسرائيلي أحلامه. لكنّه لم يكن من النوع الذي يستسلم للأمر الواقع. فعمل على إنشاء مراكز طبّية للفحوصات المخبرية وللمعالجات الطبّية في العديد من المناطق، وخاصّة في بيروت وصيدا وطرابلس والبقاع، إلى جانب سلسلة من المدارس الحديثة. لكن هذه المرّة لم تتوقّف هذه المؤسّسات الإنسانية عن العمل بسبب الاحتلال الإسرائيلي، بل توقّفت بعد وفاته.
كأنّ انفجار الألف كيلو من الديناميت الذي استهدف الرئيس الحريري أمام مدخل فندق السان جورج في 14 شباط 2005 استهدف مؤسّساته الإنسانية في الوقت عينه. فمدارس الحريري توقّفت الواحدة تلو الأخرى، وقبلها المستوصفات الطبّية، والمساهمات الاجتماعية، والعطاءات الخيرية، فانهارت جسور التواصل مع الناس.
بعد استشهاده، وبعد الأسلوب المروّع الذي استُخدم في عملية اغتياله، تجمّع أبناؤه في بيروت لمواصلة مسيرته الوطنية والخيرية التي لم يبقَ منها، مع الأسف، سوى الذكريات الطيّبة
البستان وبائع الفلافل
عندما وافق الرئيس الحريري على أن يتولّى رئاسة الحكومة، لم يكن يخطّط لإنشاء بيت سياسيّ، بل على العكس. لقد طلب من أولاده أن يتفرّغوا لإدارة الأعمال التي أسّسها في الخارج، وفي مقدَّمها شركة أوجيه في المملكة العربية السعودية. ولقد سمعته يقول لأحدهم: “لا شأن لكم في السياسة اللبنانية. انصرفوا إلى إدارة الأعمال التي تركتها لكم في المملكة. ولا تحضروا إلى لبنان إلا لزيارة العائلة”.
هكذا فعلوا طوال سنوات عمله السياسي. ولكن بعد استشهاده، وبعد الأسلوب المروّع الذي استُخدم في عملية اغتياله، تجمّع أبناؤه في بيروت لمواصلة مسيرته الوطنية والخيرية التي لم يبقَ منها، مع الأسف، سوى الذكريات الطيّبة.
من هذه الذكريات قصّة بائع الفلافل في صيدا. فقد اشترى المرحوم رفيق الحريري بستاناً في المدينة وطلب إحاطته بسور حجري. أُقيم السور، لكنّه توقّف أمام دكّان بائع الفلافل الذي رفض إخلاء الموقع لأنّه مصدر عيشه الوحيد. عندما وصل الخبر إلى الرئيس الحريري قال لمساعديه: “أوقفوا المشروع إلى أن يتمّ استرضاؤه ويتخلّى هو نفسه عن المحلّ”.
إقرأ أيضاً: في اليوم التالي لسقوط بغداد
كان رفيق الحريري في أيامه الصيداوية المتواضعة قبل السفر إلى المملكة العربية السعودية زبوناً شبه يوميّ لدى بائع الفلافل. كان يعرفه جيّداً. ولذلك حرص على مساعدته من دون أن يعرف أحد من أهله أو من أهل المدينة. واشترط على بائع الفلافل إمّا أن يبقى في دكّانه إلى أن يوافيه الأجل، أو أن يشتري له دكّاناً في أيّ مكان آخر من أحياء المدينة يختاره هو.. وفضّل أن يبقى.
لقد بقي بائع الفلافل وذهب رفيق الحريري!!