لماذا تخلّى لبنانيون كثيرون عن قرارات محكمة الحريري الدولية، مع أنّها قدّمت لهم أكثر من مؤشّر وفرصة تفتح طريق معرفتهم الجهة السياسية التي تقف وراء جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتتيح لهم وضع لبنان على مساره السياسي الصحيح، إقليمياً ودولياً؟
ساهمت المحاكم الدولية الخاصة التي تمّ تشكيلها تحت سقف الأمم المتحدة في وضع الإصبع على الجرح من الناحية القانونية في قضايا عديدة كُلّفت بها. لكنّها كانت دائماً ضعيفة من حيث الإرادة السياسية التي تمكّنها من تنفيذ قراراتها وتحريك مجلس الأمن الدولي لاتّخاذ التدابير التنفيذية التي تدعم الشقّ القانوني. لكنّ محكمة الحريري، التي أمضت سنوات طويلة من الإعداد والتخطيط والتنفيذ وأعلنت أحكامها، كان مسارها مختلفاً. فهي حظيت بدعم واصطفاف إقليميَّين ودوليَّين للكشف عن الجناة والنيل منهم. لكنّ البعض فرّط بتلك اللحظة التاريخية في حياة لبنان. فمن المعروف أنّ مسألة إلزاميّة تنفيذ قرارات المحاكم الخاصّة صعبة جدّاً ومعقّدة. لكنّ الغطاء السياسي الأممي والدولي للتعامل مع الجريمة المرتكبة بحقّ الشهيد الحريري و21 مواطناً كان جاهزاً للتحرّك بانتظار الإشارة السياسية والشعبية من اللبنانيين.
ساهمت المحاكم الدولية الخاصة التي تمّ تشكيلها تحت سقف الأمم المتحدة في وضع الإصبع على الجرح من الناحية القانونية في قضايا عديدة كُلّفت بها
من تقاعس وتساهل؟
مَن تساهل وتراجع وهادن؟ ومن يتحمّل مسؤولية التردّد أو التخلّي عن شعار المواجهة حتى النهاية في مسألة الكشف عن القتلة والوعود بمحاسبتهم، التي ظلّت تتردّد لسنوات طويلة منذ ما بعد ظهر 14 شباط 2005؟ أين وعود الدفاع عن “ثورة الأرز”؟
تشكّلت محكمة الحريري بقرار سياسي أمميّ إثر طلب الحكومة اللبنانية دعمها في التحقيقات والكشف عن ملابسات الجريمة وتحديد هويّة الفاعلين وتسليمهم إلى القضاء لعقابهم. والوصول إلى ما أُعلن كان نتيجة جهود سياسية وعدليّة ولوجستية بذلتها مؤسّسات لبنانية ودولية وهيئات متخصّصة ساعدت في تحديد هويّة الفاعلين. صحيح أنّها لم تُدِن جهات رسمية أو تحمِّل دولاً مسؤولية الوقوف وراء جريمة القتل، ولم تكن قراراتها تاريخية في كشف النقاب عن كلّ تفاصيل وخبايا الجريمة، لكنّها منحت السلطات الأمنيّة والسياسية اللبنانية فرصة الاستمرار من حيث توقّفت قرارات محكمة الاستئناف في العام المنصرم. وهذه مسألة لم تكن تحتاج إلى تمويل ماليّ بقدر ما كانت تحتاج إلى الإرادة السياسية الحقيقية. فمن الذي تراجع وتخلّى عن شعار الرئيس الشهيد: “لا أحد أكبر من بلده”؟
أصدرت المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان في شهر آذار المنصرم مذكّرتَيْ توقيف بحقّ عضوين من حزب الله، بعد إعلانها حكم استئناف فسخ تبرئتهما في القضية. وأعلن قضاة الاستئناف بالإجماع أنّ “غرفة الدرجة الأولى ارتكبت أخطاء قانونية” في 2020 بتبرئتها حسن مرعي وحسين عنيسي، وقالوا إنّهما مذنبان بالتهم الخمس التي وُجّهت إليهما، ومن بينها ارتكاب عمل إرهابي وقتل الحريري عمداً وقتل 21 شخصاً ومحاولة قتل 226 شخصاً عمداً باستعمال مئات الأطنان من الموادّ المتفجّرة. وقال الرئيس اللبناني السابق ميشال عون إنّه كان راضياً عن قرارات محكمة الحريري، فهي “حقّقت رغبة اللبنانيين في الكشف عن الأسماء التي وقفت وراء عملية الاغتيال”. لكن كان الأهمّ ما أعقب ذلك على طريق التنفيذ والمساءلة القانونية واستخراج الدروس من الجريمة.
من المعروف أنّ مسألة إلزاميّة تنفيذ قرارات المحاكم الخاصّة صعبة جدّاً ومعقّدة. لكنّ الغطاء السياسي الأممي والدولي للتعامل مع الجريمة المرتكبة بحقّ الشهيد الحريري و21 مواطناً كان جاهزاً للتحرّك بانتظار الإشارة السياسية والشعبية من اللبنانيين
كان ينبغي أن يبدأ المسار الحقيقي في محكمة الرئيس الحريري بعد قرارات محكمة الاستئناف، فحدث العكس، إذ توقّف الحراك والمساءلة القضائية والسياسية والأمنيّة عند هذا الحدّ، وكأنّ الهدف هو الوصول إلى هذه القرارات، لكن تبقى حبراً على ورق، ثمّ يُقال لنا إنّ القانون الدولي لا يُطبّق بسهولة.
كثرت الدعوات داخل لبنان وخارجه إلى انتظار انتهاء المحاكمة الغيابية وقرارات المحكمة بصبر وأمل. ووعد كُثُر باعتقال الفاعلين المدانين وسجنهم. فما الذي جرى عشيّة إعلان قرار المحكمة في آب 2020؟
تمسّك البعض في لبنان بترك الجميع أمام خيارين: إمّا التعتيم على الجريمة وتجاهل الملفّ أو الدخول في مخطّط إشعال الفتن في لبنان في حال وُجّهت التهم إلى قوى سياسية أو عواصم بالوقوف وراء هذا المخطّط الإجرامي، فكان له ما أراد.
مسؤوليّة رفاق الحريري
يُحصي البعض 13 وساماً رفيعاً دولياً حصل عليها الشهيد الحريري. الوسام الحقيقي الذي ما زال ينتظره من اللبنانيين هو الذي يكشف النقاب عن كلمة السرّ التي دفع حياته ثمناً لها ويعيد للبنان عافيته وفرص إخراجه من أزماته الاقتصادية والاجتماعية، من خلال إعادة البلاد إلى حماسة وأجواء انطلاق الحريري وولادة فرسان سلام جدد يواصلون مسيرته ويفتحون الأبواب أمام استرداد لبنان ما خسره من دور عربي وإقليمي.
من يتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية هو كلّ من شارك الشهيد رفيق الحريري مسيرته السياسية والإصلاحية والتجديدية وما زال حتى اليوم يختار الصمت والتريّث ورفض المشاركة في تحريك عجلة النهوض.
إقرأ أيضاً: ماذا طلب رفيق الحريري من أحمد زويل؟
بعد مرور 18 عاماً على حادثة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، ثبت بالدليل القاطع أنّ المسار العدلي والقانوني الذي واكبها حتى يوم صدور القرار وما تلاه من إجراءات تنفيذية لترجمة قرار المحكمة الدولية، لم يُطمئن أحداً في داخل لبنان أو خارجه سوى القتلة ومن وفّر لهم الدعم اللوجستي والغطاء السياسي، فيما كانت قرارات محكمة الحريري الدولية فرصة لا تعوّض لكلّ لبناني راغب في دعم مرحلة انتقالية إصلاحية تصحيحية جديدة. فهل يتحرّك البعض لاسترداد ما وُضع جانباً؟
تقول رواية إنّ بيضة فرخ نسر سقطت في قنّ للدجاج. كبر النسر وهو يظنّ نفسه دجاجة، وكان يحدّق بحسد وغبطة في بني جلدته وهم يحلّقون في السماء. كان يحتاج إلى من يذكِّره من هو، وهذا هو المنتظر.