تتصاعد أزمة الانقلاب القضائي في تل أبيب بسبب عزم حكومة نتانياهو على تمرير خطة إضعاف جهاز القضاء، التي يرى فيها الليبراليون اليهود فرصة تاريخية لليمين الديني واليمين الصهيوني، اللذين يستغلّان حاجة نتانياهو إلى الهروب من قضايا الفساد، لتغيير نظام الحكم والسيطرة على “دولة الهالاخاه”(دولة المذهب). وأعرب رجال الصناعات والمستثمرون عن قلقهم من أن تهدّد هذه الخطوةُ الديمقراطيّةَ الليبراليّةَ وبيئةَ الأعمال التجارية في إسرائيل.
خوف وخطر على الليبراليّة
تزامن ذلك مع إعلان بعض الشركات والصناديق الاستثمارية سحب أرصدتها من إسرائيل وتحويل حساباتها إلى الخارج، إثر مطالبة المستثمرين بتقليص مخاطر إبقاء الأموال في إسرائيل. وهذا بسبب تزايد الفجوة بين الطابع الليبرالي وعدد كبير من شركات التكنولوجيا والاقتصاد وبين النبرة القومية الحادّة للحكومة الجديدة وأحزابها المؤيّدة للمستوطنين والمتديّنين.
من جهتها أشارت صحيفة يديعوت أحرونوت إلى أنّ التعديلات القضائية المقترحة ستؤدّي إلى إزالة كلّ أدوات المراقبة القانونية والقضائية. وهذا ما قد يكون له “أثر هدّام” على الاقتصاد الإسرائيلي، ويؤدّي إلى خفض التقويم الاقتصادي لإسرائيل، وخفض تصنيف اعتمادها المصرفي، وهروب المستثمرين الأجانب، ويمسّ بصورة دولة إسرائيل ذات الاستقرار السياسي والاجتماعي الداخلي.
هذا وقد وجّه أكثر من 100 مؤرّخ إسرائيلي، متخصّصين بتاريخ “شعب إسرائيل”، ويدرّسون في الجامعات الإسرائيلية والأميركية، انتقادات شديدة إلى حكومة نتانياهو، واتّهموها بـ”تشكيل خطر على وجود إسرائيل”.
رسم المحلّل الإسرائيلي ميخائيل بريزون سيناريو زوال دولة الاحتلال مع استمرار “حرب الأشقّاء” داخل المجتمع الصهيونيّ
المستوطنون والمستثمرون
حذّر هؤلاء المؤرِّخون المئة، في رسالة نشرها موقع “نيوز 1” الإسرائيلي، من أنّ تبعات الخطّة القضائية ستطال جوانب وجودية ومصيرية للمستوطنين، الذين هاجروا إلى فلسطين المحتلّة بعد النكبة. ويعود ذلك، حسب رأيهم، إلى ثلاثة أسباب أساسية:
1- الفرار من الملاحقات.
2- السعي إلى تحسين وضعهم الاقتصادي.
3- البحث عن مكان يمنح حياتهم مضموناً وجوديّاً وشعوراً بالانتماء.
وفقاً للمؤرّخين، “تقتلع الحكومة الحالية العمود الفقري للكيان، وتفكّك مؤسّساته. والنتيجة ستكون أسوأ من تلك الممارسات التي حدثت في بولندا وهنغاريا، والتي لم تحدث منذ بداية وجود إسرائيل: أزمة عميقة تنطوي على خطر وجوديّ داهم”.
في هذا الإطار، لفت المدير العامّ لصندوق “فريكو” الإسرائيلي لإدارة مخاطر التمويل والاستثمارات، يوسي فرايمان، إلى حقيقة أنّه حتى خلال فترات الحروب لم يطالب المستثمرون الأجانب بإخراج أموالهم من إسرائيل، كما يطالبون اليوم. وهذا يدلّ على التغيير الكبير الحاصل في النظرة إلى إسرائيل التي كانت تعتبرها مكاناً آمناً يحظى بقضاء مستقلّ ويصلح لوضع أموال فيه.
إلى ذلك حذّر بنك “جي بي مورغان”، وهو أكبر بنك أميركي، من أنّ خطّة حكومة نتانياهو لإضعاف جهاز القضاء تزيد المخاطر على المستثمرين في السوق الإسرائيلية، وهذا من شأنه أن يؤدّي إلى خفض مرتبة إسرائيل الائتمانية. وقارن البنك، في تقرير رسمي أرسله إلى زبائنه، بين الخطّة الإسرائيلية وخطط قضائية صادقت عليها بولندا وأدّت إلى المسّ بالاستثمارات الأجنبية فيها. وجاء في التقرير أنّ “الإصلاحات القضائية المقترحة التي تسعى إليها حكومة نتانياهو ستسمح للكنيست بإلغاء قرارات المحكمة العليا بأغلبيّة عاديّة. وستمنح السياسيين قوّة أكبر في تعيين قضاة، وتلغي التزام الوزراء باحترام قرارات المستشارين القانونيين في وزاراتهم، وتلغي ذريعة عدم المعقولية القانونية التي تسمح برقابة قضائية أكبر”.
وفقاً لتقرير بنك “جي بي مورغان”، تتعالى مخاوف من تداعيات خطة الحكومة على قوّة المؤسّسات في إسرائيل ومناخ الاستثمارات فيها.
اهتزاز وضع الدولة الماليّ
أقرّت المستشارة القانونية للحكومة الإسرائيلية بأنّ تلك التعديلات تركّز قوّة جميع السلطات بيد السلطة التنفيذية، الأمر الذي ينهي منظومة الكوابح والتوازن بين السلطات الثلاث، ويضرب جذور استقلالية القضاء وسيادة القانون.
وحذّرت كبيرة الخبراء الاقتصاديين في وزارة الماليّة الإسرائيلية من أنّ خطّة إضعاف جهاز القضاء وتقويض المحكمة العليا تخلق “حالة من عدم اليقين والخطر” في الاقتصاد الإسرائيلي قد تؤثّر سلباً على النموّ الاقتصادي ومداخيل الدولة، وذلك خلال مناقشات في مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو لإعداد الموازنة الإسرائيلية العامّة تمهيداً لطرحها نهاية الشهر الجاري. يُشار إلى أنّ وحدة “الخبراء الاقتصاديين – إيرادات الدولة” هي وحدة رئيسية في وزارة المالية تتنبّأ بالمتغيّرات الاقتصادية التي تؤثّر على الاقتصاد وتراقبه، وتصوغ السياسة الضريبية، وتدير العلاقات الدولية لوزارة الماليّة.
في ردّ على كبيرة الخبراء الاقتصاديين، قال الرئيس التنفيذي لمكتب رئيس الحكومة: “أنا أعتقد أنّ هذا سيؤدّي إلى مزيد من الثقة بالسوق، ويمكنني عرض رأي المزيد من الاقتصاديين الذين يقدّمون توقّعات مختلفة”. وبحسب القناة 12، فسّر الحاضرون في الاجتماع تعقيب رئيس مكتب نتانياهو بـ”أنّه تهديد”.
وفقاً للمؤرّخين، “تقتلع الحكومة الحالية العمود الفقري للكيان، وتفكّك مؤسّساته. والنتيجة ستكون أسوأ من تلك الممارسات التي حدثت في بولندا وهنغاريا
التطرّف يُزيل إسرائيل؟
حتى صناعة التقنيّات العالية (High Tech) التي يتفاخر بها الساسة والاقتصاديون الإسرائيليون ويعتبرونها “المعجزة” الإسرائيلية التي تساهم في نحو 50% من حجم الصادرات الإسرائيلية، وتجلب استثمارات خارجية إلى السوق الإسرائيلية تبلغ قرابة 27 مليار دولار سنوياً، بدأت تهتزّ على وقع خطّة نتانياهو لإضعاف القضاء. وعلى الرغم من أنّ أكثر من 90% من صناعة “الهايتك” تسيطر عليها الطبقة الأشكينازية (اليهود الغربيون) الليبرالية، فقد أرسل رجال صناعة “الهايتك” في إسرائيل كتاباً لنتانياهو يحذّرونه فيه من مخاطر التعديلات القضائية على الاقتصاد الإسرائيلي، وخصوصاً سوق “الهايتك”. إذ إنَّ الاستقرار القضائي بالنسبة إلى المستثمرين الأجانب شرط أساسي لاستمرار استثماراتهم في أيّ دولة، وغيابه معناه هروب تلك الاستثمارات إلى دول أخرى.
إقرأ أيضاً: بايدن صديق “القتلة” في “العالم المتحضّر”
من ناحيته رسم المحلّل الإسرائيلي ميخائيل بريزون سيناريو زوال دولة الاحتلال مع استمرار “حرب الأشقّاء” داخل المجتمع الصهيونيّ، وتوقّع أنْ يترك مَنْ سمّاهم بالحضاريّين الدولة العبريّة، لافتاً إلى أنّ المتطرّفين والمهووسين سيبقون وحدهم فيها ويحكمونها إلى حين زوالها.
قال الكاتب المحسوب على ما يُسمّى اليسار الصهيونيّ: “في عام 1967 انضمّ المارد الدينيّ إلى المارد الصهيونيّ، فاجتمعا على مهمّة الإفساد. ومُسرّعو عودة المسيح الذين يستندون إلى ماضيهم “الطلائعي” قادوا إسرائيل إلى نفاد الصبر وفقدان الكوابح الإنسانية والمنطقيّة. وهذا يشمل القيادة والشعب كلّه”.