قبل أن ينعقد لقاء رئيس “الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط مع الوفد القيادي من “حزب الله” الذي ضمّ معاون الأمين العامّ حسين الخليل ومسؤول الارتباط والتنسيق في الحزب وفيق صفا في 19 كانون الثاني الماضي، كان بعض السفراء الأجانب يلاحظون في لقاءاتهم مع بعض المسؤولين اللبنانيين أنّ ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون للرئاسة لم يصدر بعد عن أيّ فريق سياسي لبناني، على الرغم من أنّ اسمه مطروح منذ أشهر باعتباره “احتمالاً قويّاً” بسبب أنّ أسلافه في المؤسّسة العسكرية تبوّأوا المنصب في 3 دورات رئاسية سابقة. جاءت ملاحظة السفراء هذه من باب التلميح إلى أنّ التعاطي مع ترشيح القائد يتمّ بجدّية في بعض العواصم، أكثر ممّا هو ظاهر في الداخل اللبناني.
أوّل ترشيح “لبنانيّ” لقائد الجيش
في ذلك الاجتماع الذي رشّح فيه جنبلاط اسم قائد الجيش للرئاسة كثالث اثنين هما الوزير السابق جهاد أزعور والنائب السابق صلاح حنين، كانت المرّة الأولى التي يتمّ فيها ترشيح العماد عون للرئاسة على لسان أحد الأقطاب السياسيين. صحيح أنّه كان يجري تداول اسمه في وسائل الإعلام وفي الصالونات السياسية كاسم “مطروح”، وأنّ رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل أثار الضجّة ضدّ ترشيحه وضدّ رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، لكن لم يكن أيّ قطب سياسي لبناني قد تبنّى ترشيحه بعد. ومن المعروف أنّ قيادات أخرى، ومنها رئيسا حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع وحزب “الكتائب” سامي الجميّل، كانت تجيب على أسئلة صحافية عن ترشيح قائد الجيش بالقول: “لا مانع” أمام وصوله. لكن لم يرشّحه أيّ من الذين كانوا يردّدون هذه العبارة، على اعتبار أنّ كلّ فريق كان يتمسّك بمرشّحه الرسمي. ظلّ السياديون، ومنهم جنبلاط، على خيارهم المتمثّل في النائب ميشال معوّض، وتمسّك فريق الممانعة بقيادة “حزب الله” بفرنجية خلف ستار الورقة البيضاء، بموازاة خلاف الحزب المتفاقم مع “التيار الوطني الحر” على ترشيحه. هذا فضلاً عن أنّ بعض الذين قالوا “لا مانع” أمام انتخابه كانوا وما يزالون يشيرون إلى عقبة تعديل الدستور لتجاوز الفقرة التي تشترط استقالة موظّفي الأولى قبل سنتين من انتخاب أيّ منهم رئيساً، والتي تحتاج إلى أكثرية الثلثين في البرلمان التي تتطلّب توافقاً واسعاً على اسم القائد من أجل إجراء هذا التعديل.
عبّر جنبلاط الأب عن قلقه من التيّارات التي تنمو في الوسط المسيحي في لقاءين أجراهما مع السفير البابوي في لبنان باولو بورجيا، متوخّياً تحرّكاً فاتيكانيّاً من أجل معالجة تداعيات المناخ المسيحي الجديد على إحدى ثوابت سياسة الكرسي الرسولي، وهي مبدأ العيش المشترك
النموذج: الياس سركيس
رشّح جنبلاط قائد الجيش خلال لقائه وفد “الحزب” من باب استبعاده إمكان وصول فرنجية، بعدما سمع من الخليل سرداً مفصّلاً للخلاف مع النائب باسيل على هذا الخيار الذي نشأ خلال اجتماعه الشهير مع الأمين العامّ السيّد حسن نصر الله مطلع كانون الأول الماضي، وبعد اطّلاعه على وقائع لقاء الخليل وصفا معه في 23 كانون الثاني في مقرّ “التيار الحر” في ميرنا الشالوحي.
هذا ومن غير الممكن ترشيح رئيس تعارضه أكثرية المسيحيين مع معارضة الكتلتين المسيحيّتين الكبريَيْن له. ولذلك ألحق جنبلاط ترشيحه للقائد بتصريحات متتالية أدلى بها هو وأعضاء من كتلته، ثمّ قال بعد لقائه رئيس البرلمان نبيه برّي، حيث كرّر ترشيح الأسماء الثلاثة: “وصلنا مع الأستاذ ميشال معوّض إلى أفق شبه مسدود… فلنفتّش بالتعاون مع النائب معوّض من أجل الوصول إلى مرشّح تسوية”.
من جهته، لمّح معوّض إلى أنّه ليس بعيداً عن هذا التوجّه، إذ قال أمس خلال مشاركته في مؤتمر حزب “الكتائب”: “لن أقبل أن تتحوّل معركة الرئاسة إلى معركة شخص، بل هي معركة مشروع، وأنا بتصرّف هذا المشروع”. وكان هذا إيحاءً منه بالقبول بالبحث عن مرشّح ثالث غيره وغير فرنجيّة.
أخذ ترشيح جنبلاط للقائد طابعاً جدّياً مع أنّه كان قبل بضعة أشهر يميل إلى استبعاد مجيء عسكري إلى الرئاسة للمرّة الرابعة حين قال: “كأن ليس هناك بين السياسيين الموارنة من هو مؤهّل للمنصب، في وقت هناك كثر بإمكانهم تولّي الرئاسة، فضلاً عن أنّ البلد يحتاج إلى شخصية اقتصادية إصلاحية تدير النهوض”. وكان في كلّ مرّة يردّد تلك العبارة يلجأ إلى “نموذج” الرئيس الراحل إلياس سركيس.
الاحتقان المسيحيّ… والفاتيكان
من الأسباب الرئيسة لانتقال جنبلاط إلى خيارات أخرى، من بينها قائد الجيش، بالإضافة إلى المراوحة في جلسات الاقتراع من قبل كتلته النيابية والكتل الأخرى التي تلتزم خيار معوّض، وصعوبة جمع “حزب الله” الأصوات المطلوبة لفرنجية، تعاظُم القلق من التدهور المأساوي للأوضاع المعيشية في ظلّ استمرار الفراغ الرئاسي من جهة، والاحتقان المسيحي بسبب إطالة الشغور في الموقع المسيحي الأوّل من جهة ثانية. وهو ما تجلّى في عظات البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي وتحذيره من التغيير الحاصل في المزاج المسيحي ومن الفراغات المتوقّعة في مناصب يتبوّأها المسيحيون في مؤسّسات الدولة واستحالة تعيين بدائل فيها في ظلّ غياب حكومة كاملة الصلاحيات بسبب الفراغ الرئاسي، كما جاء في بيان مجلس المطارنة قبل أسبوعين. علاوة على ما سبق، أدّى دوراً في موقف جنبلاط تزايدُ الحديث عن الفدرالية والأفكار شبه التقسيمية، وإشارة جعجع إلى نيّته طرح الذهاب إلى تغيير في التركيبة السياسية اللبنانية في حال أصرّ الحزب على المجيء برئيس موالٍ له. وقد دفع هذا العامل بجنبلاط إلى إيفاد نجله تيمور على رأس وفد من كتلة “اللقاء الديمقراطي” إلى البطريرك الراعي في مسعى يهدف إلى المساهمة في احتواء هذا الاحتقان.
يركّز الرئيس الفرنسي على إبقاء لبنان على الخريطة الدولية ولا يقتصر اهتمامه به على الروابط التاريخية، بل لاعتقاده أنّ للبنان دوراً مهمّاً في إطار الرؤية الفرنسية البعيدة المدى للوضع الإقليمي
عبّر جنبلاط الأب عن قلقه من التيّارات التي تنمو في الوسط المسيحي في لقاءين أجراهما مع السفير البابوي في لبنان باولو بورجيا، متوخّياً تحرّكاً فاتيكانيّاً من أجل معالجة تداعيات المناخ المسيحي الجديد على إحدى ثوابت سياسة الكرسي الرسولي، وهي مبدأ العيش المشترك.
جديد الموقف الفرنسيّ من الرئاسة
يؤكّد العارفون بخلفيّة ترشيح جنبلاط لقائد الجيش أنّه يستند إلى تداول جدّي لاسمه في الخارج تقابله موانع تواجه فرنجية من زاوية قربه من حزب الله، ولا سيّما من قبل الدول الخليجية، وفي مقدَّمها المملكة العربية السعودية. ويعود التحفّظ في هذا المجال إلى أنّ هذه الدول لا تريد تكرار تجربة انتخاب الرئيس ميشال عون، على الرغم من أنّ دولاً أخرى لا تتوقّف عند اسم رئيس الجمهورية المقبل، بل يهمّها السياسة التي سيتّبعها. فالولايات المتحدة تعتبر أنّ أيّ رئيس لن يكون معادياً لها مقبول، حسب ما سمعه مسؤولون لبنانيون في دوائر القرار في واشنطن.
لكنّ الأهمّ، بحسب معطيات توافرت لجنبلاط، ووفق معلومات لدى جهات على صلة مباشرة بالاستعدادات التي حصلت خلال الأسبوعين الماضيين، هو اجتماع باريس الخماسيّ المنتظر الإثنين المقبل والذي يضمّ مديري الشرق الأوسط ومستشارين في كلّ من فرنسا، أميركا، السعودية، قطر ومصر.
زارت السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو عدداً من القيادات اللبنانية لإبلاغها بالاستعدادات لاجتماع باريس، وذلك فور عودتها من العاصمة الفرنسية حيث عقدت اجتماعاً مطوّلاً مع الرئيس إيمانويل ماكرون، وأبلغت هؤلاء بالخطوط العريضة لأهداف هذا الاجتماع، وأكّدت لهم أنّه سيسبقه إيفاد الرئيس لوزيرة خارجيّته كاترين كولونا إلى كلّ من المملكة العربية السعودية والإمارات للتشاور في الشأن اللبناني (انتهت زيارة كولونا للبلدين مساء أمس).
لقاءات ثنائيّة حول “الخطوط الحمر”
هذا وكانت السفيرة الفرنسية قد أطلعتهما على هواجس ماكرون المتعلّقة بلبنان، وهي التالية:
– يركّز الرئيس الفرنسي على إبقاء لبنان على الخريطة الدولية ولا يقتصر اهتمامه به على الروابط التاريخية، بل لاعتقاده أنّ للبنان دوراً مهمّاً في إطار الرؤية الفرنسية البعيدة المدى للوضع الإقليمي.
– اجتماع باريس الخماسي سيضع خريطة طريق دولية – عربية للمرحلة المقبلة في لبنان، وسيناقش، في اجتماعات خماسية وثنائية، تقديم المساعدة لإيجاد حلول لأزمة لبنان على الأصعدة كافّة، ولا سيّما على صعيد المؤسّسات الأمنية، للحؤول دون انهيارها ولتحديد ما هو مقبول وما هو مرفوض بالنسبة إلى بعض الدول في الشأن الرئاسي.
يعتقد المتتبّعون لحركة جنبلاط مع الرئيس برّي، ولسائر الاتصالات المواكبة وللمعطيات الخارجية واجتماع باريس، أنّ النقلة الجديدة المتمثّلة في استعداد بعض الفرقاء لإبرام تسوية رئاسية تحتاج إلى وقت ليس قصيراً قبل أن تتبلور
– شدّدت غريو على أنّ فرنسا هي الدولة الوحيدة القادرة على تقديم الدعم الدولي للبنان. وعبّرت عن لهفة ماكرون لمساعدة البلد، وعن إضاعة اللبنانيين الفرص التي يسعى إلى توفيرها. فأشارت مثلاً إلى أنّه لو كان هناك رئيس منتخب لكان حضر منتدى “دافوس” الاقتصادي في سويسرا الشهر الماضي، حيث كان يمكن أن يدعو ممثّلي الدول وكبار المستثمرين إلى الاستثمار في لبنان خلال مرحلة النهوض المقبلة. هذا فضلاً عن خيبة الأمل من التأخّر في إنجاز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، من خلال إقرار كلّ القوانين المطلوبة، من أجل حصول لبنان على مبلغ 3 مليارات دولار في مرحلة أولى، تليها قرابة 10 مليارات في مرحلة ثانية، في وقت يعجز البلد عن توفير رواتب موظّفيه، ولا سيّما في قطاع التربية.
– ماكرون مستعدّ للتعامل مع أيّ شخصية ينتخبها نواب البرلمان، سواء كانت قائد الجيش أو فرنجية.
معادلات ماكرون حول “الرئيسين”
أضافت مصادر سياسية على صلة بالعاصمة الفرنسية إلى ما نقلته غريو في شأن المساعدات للبنان عنصراً جديداً آخر يتعلّق بإنهاء الشغور الرئاسي اطّلع عليه عدد محدود من القيادات اللبنانية، ويشمل الاتفاق على رئيس للبنان مع رئيس للحكومة في الوقت نفسه. فعلى الرغم من أنّ باريس وسائر العواصم تتجنّب بحث أسماء المرشّحين، تقول هذه المصادر إنّ ماكرون ينوي طرح اقتراحات في هذا الصدد استناداً إلى اتّصالات جرت وما زالت تجري من أجل الدفع إلى إنهاء الفراغ وفق الخيارات والمعادلات الآتية:
– الخيار الأول: قائد الجيش العماد جوزف عون رئيساً. وينتج عن هذا الخيار احتمالان: الأوّل أن يكون رئيس الحكومة نوّاف سلام، والثاني أن يكون نجيب ميقاتي.
– الخيار الثاني: سليمان فرنجية رئيساً، وتسمية نوّاف سلام رئيساً للحكومة، احتمالاً أوّل، ونجيب ميقاتي احتمالاً ثانياً.
اتّصال مع رئيسي وزيارة الوزير القطريّ
لم تقتصر الاتصالات الفرنسية في شأن تسريع الخروج من الفراغ الرئاسي على إيفاد ماكرون للوزيرة كولونا إلى الرياض وأبو ظبي، بل شملت أيضاً اتصالاً أجراه ماكرون مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بناء على نصيحة أسداها إليه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عبر قناة سياسية. لم تُعرف نتيجة الاتصال، على الرغم من أنّ ما تسرّب من انطباعات في شأنه لم يكن مشجّعاً، لكنّه جاء قبل زيارة قام بها وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني لطهران يوم الأحد في 29 كانون الثاني، وشمل البحث خلالها الوضعَ في لبنان وما آلت إليه جهود إحياء المفاوضات على صعيد الاتفاق النووي الإيراني. لكنّ الزيارة حصلت في ظرف حرج، أي بعد ساعات قليلة على الضربة الإسرائيلية للمجمّع الصناعي العسكري في مدينة أصفهان.
إقرأ أيضاً: جنبلاط وأبو فاعور.. “يا ورد مين يشتريك”!
يعتقد المتتبّعون لحركة جنبلاط مع الرئيس برّي، ولسائر الاتصالات المواكبة وللمعطيات الخارجية واجتماع باريس، أنّ النقلة الجديدة المتمثّلة في استعداد بعض الفرقاء لإبرام تسوية رئاسية تحتاج إلى وقت ليس قصيراً قبل أن تتبلور.